|
ثقوب المال السوداء تبتلع بنوك العالم....!
د. محمد مسلم الحسيني/ بروكسل حينما دقت أجراس العولمة في المجالات المالية والإقتصادية في العالم معلنة التزاوج والإندماج بين مؤسسات العالم الكبرى في تلك المجالات، تفائل البعض وتشائم البعض الآخر...حيث رأى بعض المحللين الإقتصاديين بأن الإندماج بين المؤسسات المتخصصة يخفف من تأثير الهزات والخسائر الإقتصادية والمالية غير المتوقعة عليها، كما أنه يزيد من زخمها التجاري والمالي ويخفض من أعداد الأيدي العاملة المشتغلة في معيتها والتي ترهق كاهلها المالي. إتساع حجم هذه المؤسسات يعني كبر في مركز ثقلها والكبير لا يسقط بسهولة عادة... أما الطرف الآخر من المحللين فقد إرتأوا العكس، حيث أبدوا مخاوفهم من الهزات والحرائق التي قد تلحق في مؤسسة ما والتي ربما تصيب بنارها مؤسسات أخرى مرتبطة بها، وهكذا تنتقل الحرائق من مؤسسة الى أخرى بسهولة وبسرعة لشدة تقاربها مع بعضها وإرتباطها وإندماجها فيما بينها. أثبتت الوقائع والأحداث الساخنة في الأيام الأخيرة هشاشة الأنظمة المالية العالمية وأكدت بأن الحريق أن شب، في ظل العولمة، في مؤسسة ما سرعان ما ينتشر ويتصاعد ليضرب مؤسسات ومراكز مالية أخرى وبسرعة البرق! ان ما حصل في بعض المؤسسات المالية الأمريكية مؤخرا وخصوصا شركات الإستثمار العقاري والبنوك العقارية التي بدأت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، يدل على وهن النظام المالي في ظل أبراج العولمة. لم تقتصر تداعيات الحرائق المالية على البنوك الأمريكية صاحبة الشأن وحدها فحسب بل أنتشرت النار الى البنوك العالمية الأخرى وفي كافة بقع العالم. حينما هوى بنك "ليمان براذرز" الأمريكي جر معه الكثير من البنوك العالمية بشكل أو بآخر وأنتقلت الأزمة المصرفية الأمريكية الى الكثير من الدول في العالم. تهاوي البنوك بعضها مع البعض يثبت وجود خلل ستراتيجي في ماهية صيرورتها وتكوينها ، وما هذه الظاهرة إلاّ إفراز من إفرازات تطبيق سياسات العولمة . أزمة البنوك التي ضربت أمريكا ضربت أوربا كما ضربت غيرها، فقد أوشك بنك التأمين البلجيكي الهولندي " فورتيس" على الإفلاس لولا تدخل الحكومات في كل من بلجيكا وهولندا ولوكسنبورغ لإنقاذه بعدما أممت نصف حصصه ومنعته من الإنهيار الأكيد، وأخيرا أشترى غالبية حصصه البنك الوطني الفرنسي المعروف " باري با ". كذلك الحال بالنسبة للبنك البلجيكي- الفرنسي " داكسيا " الذي أنقذته الحكومة الفرنسية والبلجيكية من خلال زيادة رأس ماله ونشر السيولة المالية فيه. كما أن بريطانيا قد أنقذت بنكها " برادفورد و بينكلي " من خلال تأميمه وألمانيا ضخت المليارات لدعم بنكها " هايبو ريل ستيت " لتخرجه من براثن الإفلاس المؤكد، وحذت إيرلندا وإيطاليا حذو الآخرين في ضخ الأموال ودعم السيولة لبعض مصارفها. الدول الآسيوية وروسيا لم تكن في مأمن من الحرائق المالية، وهكذا فقد ضخت المليارات أيضا لدعم بنوكها ومنعها من التهاوي والإنهيار. كل هذه التداعيات كانت بسبب إرتباطات المؤسسات المالية العالمية بعضها ببعض، وهذا يعني بأن الأخطبوط المالي العالمي الذي صنعته العولمة إن إنزلق الى الهاوية تنزلق معه معظم المؤسسات المالية الأخرى المرتبطة به! سياسات العولمة الإقتصادية والمالية أفرزت ظواهر غير صحية تضر في الكيان الإقتصادي وتهدد مستقبل النظام المالي العالمي جملة وتفصيلا. ان تمحور إقتصاديات العالم ونفوذه المالي بمحاور ضيقة وإنحسار رؤوس الأموال بأيادي محددة تستطيع أن تتلاعب بمصير الإقتصاد العالمي وحسبما تهوى وتحب هو ظاهرة خطيرة تهدد المسيرة الإقتصادية العالمية. ففي إحصائيات عام 1996 تبين بأن 95 الف مستثمر في العالم يملكون أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي في الإقتصاد العالمي. أي يملكون حوالي 13.1 ترليون دولار! هذه الحيتان المالية التي تجني الأرباح وتراكم رؤوس أموالها تشترك في صناعة المآزق الإقتصادية والمالية وتزيد من الذعر والهواجس التي تضرب في عقول المستثمرين الصغار أثناء المحن الإقتصادية والمالية. يلاحظ المتابع للأحداث والأمور بأن هذه الحيتان تكون متواجدة عند جني الأرباح والمنافع ولكنها تغيب عند المحن وأثناء المطبات الإقتصادية حيث تختفي عن الأنظار كإختفاء الخفافيش في وضح النهار! يبدو أن السياسيين الأوربيين أكثر حكمة وتعقل وبعد نظر من نظائرهم الأمريكيين، حيث تدخلت الحكومات الأوربية وبشكل عاجل وحاسم في دعم وإنقاذ بنوكها المحترقة بشرارات النار الأمريكية. عمل الحكومات هذا هو عمل مدروس ومسؤول وفعال وذلك للأسباب التالية: إنهيار البنوك الأوربية يعني إنهيار النظام المالي الأوربي، ويعني إنجراف الإقتصاد الأوربي نحو هاوية الكساد ، ويعني أيضا بلبلة إجتماعية عارمة قد تؤدي الى حالات من الذعر والإضطرابات التي إن إندلعت لا يعرف أحد كيف يتم السيطرة عليها. هذه البلبلة مصدرها فقدان الناس لمدخراتهم من جهة وفقدان الآلاف من العاملين في المؤسسات المفلسة لوظائفهم من جهة أخرى. فوق كل هذا وذاك فأن الحكومات الأوربية ستكون وبحكم القانون مسؤولة عن تسديد تعويضات مالية للمتضررين أي مودعي الأموال في البنوك المفلسة. هنا تبرز مرة أخرى المفارقة حيث أن الحكومات والمواطنين يدفعون ثمن أخطاء العولمة بينما يجني ثمارها عمالقة المال المتحصنون! أسباب الإنهيارات المالية الحاصلة في العالم لا يمكن حصرها فقط بالصعوبات التي تعرضت لها بنوك العقارات الأمريكية نتيجة لهبوط الأسعار في سوق العقارات الأمريكية فحسب ، إنما هناك أسباب كامنة أخرى لا يمكن غض النظر عنها أو تناسيها ومنها : ضعف الإقتصاد الأمريكي، الذي ترتبط به الكثير من إقتصاديات العالم، نتيجة لأسباب عديدة أهمها تورط الأمريكيين بحروب إستنزافية طويلة الأمد في كل من أفغانستان والعراق وهذا ما أضر بالميزانية المالية الأمريكية بشكل مباشر وغير مباشر. كما أن الغلاء في موارد الطاقة لعب دورا هاما في جر الإقتصاد العالمي الى التباطؤ وربما الى الكساد مستقبلا وقد برزت إمارات هذا التباطؤ الإقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قبل غيرها. فوق كل هذا وذاك فأن إمبراطوريات إقتصادية جديدة برزت على الساحة التجارية العالمية وأهمها الإمبراطورية الإقتصادية الصينية التي نزلت الى سوق المنافسة الإقتصادية المحتدمة، إضافة الى الإقتصاد الهندي المتصاعد . علينا أن لا ننسى أيضا الأيادي الخفية التي تضرب في الخفاء من أجل جر الفريسة الجريحة الى جحرها والإنقضاض عليها وإبتلاعها ، هذه الأيادي الخفية تتمثل بعمالقة المستثمرين الذين يتربصون الفرص من أجل التصيد والإنقضاض والذين يلعبون دورا كبيرا في تسقيط المراكز المالية من خلال مضارباتهم وتلاعبهم بأسعار الأسهم في البورصات العالمية! ترهل الرقابات الحكومية للمؤسسات المالية والأفراد يدفع الى ممارسات متهورة وغير ناضجة ترتكبها تلك المؤسسات ويمارسها أصحاب رؤوس الأموال من أجل إرباك السوق المالي وجني الأرباح. كل هذه الأسباب تلعب أدوارا هامة في هشاشة النظام المالي العالمي وتخلخله أمام المحن الإقتصادية والأزمات. العواصف الكاسحة والحرائق المالية التي ضربت العالم والتي لا يذكر التأريخ مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية يجب أن لا تمر دون تمحص وتمعن السياسيين والإقتصاديين في العالم ، كما أنها ستعطي دروس وعبر لا يمكن التغاضي عنها أو عدم الإلتزام بها في التعاملات المستقبلية. أنتقد بعض السياسيين الأوربيين والآسيويين أمريكا وحملّوها مسؤولية النتائج البائسة في أسواق المال والبنوك العالمية. فقد وصف وزير مالية ألمانيا "بير شتاينبروك" ما حصل من أزمات مالية بأنها مصدرة من أمريكا وناتجة عن تهور في النظام المصرفي الأمريكي. كما أنتقد رئيس وزراء روسيا " فلاديمير بوتين" الولايات المتحدة وقال أن أمريكا تدعي قيادة العالم إقتصاديا وهي غير قادرة على السيطرة في مؤسساتها المالية المتهاوية. كل هذا يشير الى أن المؤسسات المالية العالمية يجب أن تتعامل بحيطة وحذر مع المؤسسات المالية الأمريكية وأن لا تطلق عنان الثقة فيها. الأمور الأخرى التي يجب متابعتها وتسليط الضوء عليها هو برامج خطط المتابعة، ففي ظل قوانين العولمة ترهلت المراقبة الحكومية على المؤسسات المالية والإقتصادية الحيوية بسبب توسع دوائر تعاملاتها وكبر مساحات إرتباطاتها. بعد هذه الهزات المالية ستشدد خطط المراقبة الحكومية على البنوك من أجل ضمان حدود دنيا من السيولة تؤمن مدخرات الناس وتحميها من الضياع من جهة وتجعل البنوك سهلة الحركة والتصرف أمام الأزمات من جهة أخرى. هذه المراقبة ربما لا تقتصر على المؤسسات المالية فقط وإنما تتعدى ذلك لتشمل مراقبة الأفراد الذين يستخدمون وسائل المضاربة الجشعة التي تغرقهم بأموال الغير حيث تصبح مصائب الناس فوائد لهم في كثير من الأحيان. كما أنه من المستحسن أن توفر الدول والحكومات ميزانيات خاصة تستخدم من أجل دعم البنوك في الأوقات الحرجة، وهذا ما أوصى به رئيس المفوضية الأوربية " خوسيه مانويل باروسو" ودعى اليه الكثير من القادة والسياسيين الأوربيين. يمكن ان نستنتج من خلال الأحداث والأزمات المالية التي تعصف في مؤسسات العالم المالية في الوقت الحاضر ، بأن النظام المالي العالمي يحتاج الى مراجعة ومراقبة وإعادة دراسة وتغيير، وأن نظام العولمة الذي يقوم على أساس إدماج رؤوس الأموال من أجل بناء هيكل كبير ومستقر لا يسقط ، قد يؤدي الى بناء هيكل ثقيل غير ثابت وغير مستقر قد يسقط بسهولة في ثقوب المال السوداء التي تبتلع وتقول هل من مزيد!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |