اضطهاد المثقفين

 

 د. سّيار الجميل

www.sayyaaljamil.com

المثقفون الحقيقيون يدفعون الاثمان الباهضة

المثقفون الحقيقيون هم نخب من المبدعين المنتجين المحترفين المخصبين .. الذين يقفون في مقدمة ابناء المجتمع، كما هو الحال عند امم تحترم نفسها، ولكنهم في مجتمعاتنا، انما يدفعون الاثمان الباهضة، ليس لأنهم اصحاب دماء زكية زرقاء، بل لأنهم يشكلون خطورة على كل الاطراف .. وما دامت تلك الاطراف بقضّها وقضيضها تعيش الفجاجة والرعوية والتخلف ومأساة غياب الوعي وامتلاك السلطة والقوة والمال فهي طفيلية فارغة وتافهة .. وان الخصم اللدود لها امام الجميع هو هذا " المثقف الحقيقي " الرافض لكل اساليبها وزيفها ومناوراتها واساليبها وكل افعالها الرعناء .. انه الذي يمتلك فهم الماضي، والوعي بالحياة، والخوف من المستقبل، وقوة الكلمة، واصالة الرأي، والدفع بالحجة كي ينسف بها كل الابنية المشّوهة الشاهقة المبنية على الرمال المتحركة، ويهّدم كل الجدران الكئيبة السامقة التي اقيمت لاغراض دنيئة وخاصة .. انه الذي باستطاعته كشف الساسة المزيفين، وفضح اكاذيب اللاعبين، وتجريد القدسية الماكرة من الملالي الافاقين، وتحرير  الاخرين من كل اوراقهم .. انه يتكلم باسم المسحوقين في المجتمع، وهو الذي من الواجب ان يرسم للدولة طريقها السوي ويضيئه بالانوار، بل باستطاعته نسف اي خطاب لا يراه يتسق وقيم الحياة الطبيعية والانسانية .. وهو الذي تنجذب اليه كل الاجيال من القادمين .

المثقف والسلطة

المثقفون لا يسعون الا لكسب رزقهم، فهم ليسوا بافواه طامعة بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطة .. ربما للمثقف كبرياؤه ومكابرته جراء قوة حجته وكونه لا يبارى في اي محفل يجمعه بثلة من الساسة او بجماعة من رجال دين، او بفئات من المتحزبين او اشباه المتعلمين .. ان الثمن الذي يدفعه المثقف الحقيقي في مجتمعاتنا كبير جدا .. فهو مضطهد من قبل السلطة، سلطة الدولة وسلطة المجتمع، كونها لا تريد ان يكون ازاءها احد ممن يفضحها، ولا يتستر على مساراتها الخفية ولا اجندتها الخطيرة .. وقد تنجح سلطات عدة في دول ومجتمعات كثيرة بتجنيد بعض المثقفين ليكونوا ابواقا لها، ولكنهم يحسبوا تحت يافطة ( مثقفي سلطة ) !  ان اضطهاد المثقفين ليس في مقاطعتهم ولا في قطع الارزاق عنهم .. بل حتى في سجنهم وقتلهم ..انني اعتقد اننا مقبلين على مرحلة متوحشة من اضطهاد المثقفين في مجتمعاتنا العربية، خصوصا وانها مجتمعات تعيش فراغا سياسيا وديمقراطيا مع غياب حتى هامش الحريات .. ان من اصعب ما اجده اليوم في مجتمعاتنا المتعبة ان يختلط تقويم المثقف الى جانب السياسي .. ونحن نعلم الفرق الكبير بين الاثنين، وكما كنت قد كتبت يوما .. ان باستطاعة المثقف ان يكون سياسيا، ولكن من المستحيل ان يكون السياسي مثقفا . والثقافة ليست كلمة عابرة في حياتنا العربية كما غدت عليه اليوم، وكما تبدو من سذاجة اصحابها في الخطاب المعاصر، لكنها ـ عندي ـ اسمى واكبر واثقل واخطر بكثير مما يتصوره المرء !

الذاكرة التاريخية الصعبة

انني اسأل نفسي مرات عدة : لماذا قتل اشهر الكّتاب والمفكرين القدماء، وها هو  احد ابرز الكتّاب بالعربية : ابن المقفع قتلة شنيعة بوضع جسدا عاريا على مسامير حادة في تنور وبعد ان نزف طويلا اوقدوا التنور ليسجر حيا ! اهذه مكافأة المثقف عالي المستوى في الحياة العربية ابان عصر الازدهار ؟ .. لماذا سجن ابو حنيفة ؟ لماذا محنة ابن حنبل ؟ لماذا هرب الشافعي من بغداد الى مصر ؟ لماذا اضطهدت الائمة ؟ لماذا قتل المتنبي ؟ لماذا ابعد ابن خلدون ؟ لماذا قّضى احدهم حياته فوق مئذنة ؟ لماذا لوحق احدهم من بلد الى آخر ؟  وذاك الملك الصالح الذي اتوا به عاريا ليدهنوا جسده بالسمن والعسل ويتركوه مربوطا على عمود في قلب الصحراء حتى تجتمع عليه الحشرات والذباب لتأكله وهو حي !! ويمكن للقارئ الكريم ان يقرأ عشرات الامثلة على اضطهاد المثقفين الحقيقيين، وصولا حتى يومنا هذا الذي نتساءل فيه : لماذا انتحر بعض المثقفين اللبنانيين ؟ لماذا اعدم بعض المثقفين في كل من مصر والعراق ولبنان ؟ لماذا مات اغلب كبار شعراء ومثقفي العراق المعاصر في غربتهم، وتفرقت قبورهم بين القارات ؟ لماذا قتل العديد من الصحافيين في لبنان والعراق والجزائر ؟ لماذا اختفت بعض الاسماء نهائيا من واجهتنا الثقافية العربية ؟ وما نجده من قطع الرؤوس علنا امام العالم كله نساء ورجالا .. وحتى صور اليوم البشعة في العراق والجزائر واليمن ولبنان لا يمكن ان يتقبلها اي عقل ..

نحن والآخر : تبدل الزمن وتطور الوعي

 هنا، هل يمكننا ان نكتفي بسرد الامثلة والنماذج التاريخية والمعاصرة  من دون التعمق طويلا في فلسفة هذا التوحّش الاجتماعي، وهذه العدمية لكل مقاييس الحياة وانعدام الاخلاق ؟؟ .. بل وان السكوت سيجعل من هذه الامراض الاجتماعية اوبئة تاريخية ليس لحاضرنا، بل لكل مستقبل العرب والمسلمين الذين طالما تشدقنا بحضاراتهم .. فلا يمكن ان نشهد التضادات بمثل هكذا تنافر ! بل ليبدو الامر كما لو اننا نعيش ـ حقا ـ حياة الغاب .. وحتى حياة الغاب، بل أي جنس لا يمكن ان يكون ضد بني جنسه .. ان الجسد ليبدو بلا ثقافة عند العرب، وان العرب والمسلمين لا يمكن اعتبارهم كلهم يحملون هذا الوباء، بل ان هناك من الاطياف الجميلة المسالمة التي تتطهر باكرام ليس روحها حسب، بل حتى جسدها . ان ثمة تخريجا لكل التوحش الانساني وما تفعله بالاجساد والارواح من اضطهادات وقمع، ذلك ان الامر لا يقتصر على العرب والمسلمين وحدهم .. فتواريخ المجتمعات والامم الاخرى قد شهدت توحشا وافعالا لا يمكن ان يصنعها بشر في الدنيا . ان من قتل وسحق وعّذب واوذي وحرق وقطّعت اوصاله وهو حي .. او دقت عظامه او خرمت اقفيته بالخوازيق او دق عنقه بالمقصلة او بحد السكين .. او رمي به في اقفاص مليئة بالوحوش .. كلها افعال انسانية بحق الانسان، تمّرس على فعلها الانسان في كل بيئات الارض .. ولكن جرى ذلك في ازمان غير زمننا بالرغم من ان المشكلة لا يمكن حصرها عند عرب ومسلمين فقط! ولكن عقلية الاضطهاد لم تزل تعشش في مجتمعاتنا ..

المشكلة ان العالم كله قد تغيّر واختلف من خلال الوعي بالماضي ازاء حجوم المستقبل، على عكس ما تعانيه مجتمعاتنا من تخّلف عارم على مستوى فهم الماضي وعبادته وايقاف التفكير بالحاضر وتحريم الرؤية الى المستقبل تماما . ان كل العالم اليوم يعيش توازنا، او اي شكل من اشكال التوازن بين المثقف وبين الحياة، بل وان تجسيرا حقيقيا يقوم اليوم بين صنّاع القرار ونخب المثقفين . ان الحياة لا يحكمها السياسي لوحده، فالدولة مجموعة مؤسسات يقف على رأسها كبار المثقفين المحترفين، والمجتمع بنفس الوقت لا يمكنه ان يخطو خطواته الى الامام من دون ابداعات المثقفين ومتابعتهم وخصب اعمالهم وتجديد اساليبهم .. وقيمة كلمتهم وحجتهم في كل الميادين .

استنتاجات : الاحرار لا يعيشون في اقفاص

قلما نجد من نخب المثقفين الحقيقيين الذين كانوا قد تحرروا من شرانق الماضي الصعب .. وطوال القرن العشرين، عاشت مجتمعاتنا في العقود الاخيرة، وهي في مزايدة علنية بين ثقافة حقيقية وبين عهر سياسات مؤدلجة .. لقد خدع الناس على امتداد عقود طويلة من السنين بـ " مثقفين " روجّوا لأنفسهم مجموعة شعارات زائفة، اذ كانوا وما زالوا من الديماغوجيين الذين لا يريدون الوقوف على حقائق الاشياء مع نزق كتاباتهم الانشائية، والاخطر من هذا وذاك تقلباتهم ذات اليمين وذات الشمال، تجده ماركسيا تقدميا  وفجأة يعلن عن انتماء طائفي يدافع عنه دفاعا مستميتا .. وتجده بعثيا وقوميا يؤمن بمبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية ( كذا ) .. وفجأة تجده مع ذيل جوقة احزاب اسلامية  .. تجده يحكي بالقيم الوطنية والتراب المقدس، وفجأة تجده  يسّوق لمشروعات غير نظيفة البتة .. او العكس، ان حياتنا العربية لن تؤخرها الا التناقضات، وغياب الاحرار، وغياب المثقفين الحقيقيين .. ان المثقف الحقيقي هو مغترب في ارض بلاده ومغترب في المهجر .. انه الخصم اللدود عند اشباه المثقفين .. انهم لا يريدونه ولا يريدون ان يحيا كي لا يكشف بضاعتهم وتفاهتهم .. انهم يشاركون في اضطهاده والامعان في قمعه .. ولكنه اقوى منهم، واكبر منهم، وافضل منهم، بالرغم من تهميشه وتجاهله وهو يعيش محنه ومكابداته .. ان الجيل الجديد بحاجة الى زمن ليس بالقصير للوعي بمثل هذه الحالات  والمطلوب  ان ينقلب ضدها انقلابا جذريا  . لقد طفحت حياتنا العربية بالطفيلية والطفيليين الذين حملوا للمجتمع كل الموبقات مع ضياع القيم، وتبدد ثبات المواقف .. بل ولم يعد المثقف الحقيقي بمستعد للاضطهاد هذا اليوم بعد ان سحقت معنوياته واحبطت آماله، ولم يعد يفكّر بتحقيق احلامه في صالة يكثر فيها الذئاب !

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com