أم الربيعين سلاماً!

 

نبيل يونس دمان

nabeeldamman@hotmail.com

الاخطار تداهم المسيحيين في الموصل، والموجة الهمجية التي تطالهم في عقر دارهم لا مثيل لها في التاريخ، ففي كل الازمنة كانت الموصل هي الام الرؤوم التي تستقبل الفقراء والمضطهدين وضحايا الحروب، فماذا جرى، وكيف انقلبت الصورة، ومن يستطيع اعادتها الى موضعها الطبيعي؟

قبل كل شيء يجب ان تسود روح التسامح والمحبة بين المجاميع المتنافسة والمختلفة فبدون هذا الشرط لا تستطيع القوة ولا العامل الدولي من تحقيق اللازم، مطلوب اليوم ايقاظ الضمائر، رفع الوعي، والنظر الى المستقبل بعيون الاطفال، ذلك ما ينقذ الاقلية المسيحية المتبقية في الموصل من صراع الكبار، الذين ينتابهم داء الاستحواذ على الثروات والمناصب، معالجة المشكلة تبدأ من هنا، فالعلة في الداخل وليست في الخارج. ولأعطي مثالا بسيطا: عندما شرع الآباء الدومنيكان ببناء برج كنيسة الساعة في وسط الموصل، فما ان يرتفع البناء قليلا في النهار، يأت الاشقياء لهدمه في الليل، مما حدا بالآباء دعوة أغوات باب البيض، في ذلك اللقاء الذي املته الحكمة وحسن التصرف، ليس فقط تفهم هؤلاء الموضوع، بل تعهدوا باناطة مسؤولية حماية البناء اليهم، وهكذا اندحر المخربون وبرز البناء الذي لا زال شامخا الى اليوم برونقه ومعلمه الذي لا مثيل له. من الجانب الاخر مطلوب من الحكومة الحالية اعادة تركيبتها وكل مؤسساتها على اساس الاخلاص والكفاءة وابعاد كل وتر طائفي يبعث نغمات نشاز، ولنقل صراحة اشراك اهالي الموصل الاكفاء بعلومهم وخبراتهم في صنع القرار وتحمل المسؤولية، نحن نقول ان المسيحيين مهمشون، ولكن هناك الكثير من الكفاءات على نطاق العراق مهمشة بسبب نظام المحاصصة المقيت و الذي  ادخل الى العراق عنوة غداة سقوط الدكتاتورية، آن الاوان لانهاء المسلسل البغيض الذي نحن فيه، والشروع بمسلسل جديد ننفتح فيه على الدنيا، ونشرع بالبناء، واضعين الرجل المناسب في المكان المناسب، بغض النظر عن دينه، عرقه، طائفته، وحتى بماضيه السياسي.

     اسألكم ايتها العشائر الموصلية الأبية: جبور، ألبو حمد، الموالي، الحديديين، الشرابيين، الجحيش، طي، وشمر، اين نخوتكم؟ وهل تنامون على الضيم، وتتركون المسيحيين في الموصل يدفعون ثمن الوضع العام، دون ان يكونوا طرفاً، دون ان يرتكبوا جرماً، ودون ان تكون لهم ميليشيا مسلحة، المسيحيون في الموصل تاجها ورمزها الابقى، وهم ورثة امجاد تلك المدينة منذ اشرق فجر نينوى العضمى على العالم، وهي ام الحضارات، فخر الامم، وزهوة التاريخ.

     في العصر الحديث تعرضت الموصل الى حصار شديد من قبل الجيوش الفارسية بقيادة نادر شاه( طهماسب) عام 1743 فوقفت الموصل بكل اديانها ومكوناتها لتصد الغزاة وتمنع دخولهم المدينة، نجحت في ذلك تحت قيادة الاسرة الجليلية، التي تعود اصولها الى المسيحية، وكما تتناقل قصتها الاجيال:

في حدود عام 1600 هجر عبد الجليل منطقة ديار بكر في تركيا مع اخيه الى الموصل، يقال ان عبد الجليل رام حلاقة لحيته، فدخل دكانا لهذا الغرض، وشرع الحلاق في اداء عمله، حتى وصل الى حلاقة نصف اللحية، عند ذلك دخل احد الاخوة المسلمين، استقبله الحلاق بالحفاوة، ثم التفت الى عبدالجليل آمراً " اترك كرسيك للقادم ايها الذمي( من اهل الذمة اي: مسيحي)" أبى عبد الجليل ان ينهض من مكانه قائلاً" اكمل حلاقة لحيتي، وانا من اللحظة داخل في دين الاسلام" وهكذا كان وان لم يكن تصرفاً حكيما، ولكنه اصبح واقع الحال، وبعد مدة من الزمن صار له سبعة ابناء اسمائهم ذاعت في ارجاء المنطقة وهم : ابراهيم اغا، عبد الرحمن اغا، صالح اغا، اسماعيل باشا، يونس اغا، زبير أغا، خليل أغا.

      عوائل مسيحية عريقة برزت في الموصل منها: بيت يوسفاني، بيت سرسم، بيت رسام، دقاق، المعمار باشي، غنيمة وغيرهم، ظلو متفوقين في آدابهم، علومهم، وذكائهم طوال سنين الدولة العثماني وعند دخول الانكليز وايام الملكية، فبرز منهم خيرة الاطباء والمحامين والفنانين والكتاب، طبقت شهرة بعضهم الافاق امثال، الاثاري المعروف: هرمز رسام، المعلم نعوم فتح الله السحار، الوزير يوسف رزق الله غنيمة، الكاتب روفائيل بطي، المطران سليمان الصائغ مؤلف كتاب ( تاريخ الموصل)، المؤرخ كوركيس عواد، الفنان منير بشير، وغيرهم.

     المسيحيون في الموصل هم اول من جلبو المطابع ابتداء من عام 1856، فطبعت هناك الكتب الدينية والادبية واللغوية لاول مرة في تاريخ العراق. عام 1925 وقف البطريرك عمانوئيل تومكا موقفا جريئا ومشرفاً الى جانب الحاق الموصل بالعراق، ونال جزاء ذلك حقد الانكليز فنفوه الى  اسوء مستعمراتهم، وعند عودته من المنفى خرجت الموصل عن بكرة ابيها بالسيوف والبنادق والخيول والهوسات وفي مقدمتهم، اشراف الموصل لتحيته، والقى السيد خير الدين العمري خطابا بالمناسبة، ثم توجه ليصلي في كنيسة مسكنتا. وقد حظي باحترام الحكومة فعينته في مجلس الاعيان من عام 1925 وحتى وفاته عام 1947.

     الكنائس التي هجرها اهلها مؤقتا في الموصل، لم تهجرها الحمائم، والطيور المهاجرة لم تزل تحط فوق قبابها، والدمع في مآقيها، والغصة في صدورها، الصلبان حين تشتد الرياح الغريبة يزداد ثباتها، ومع الرعود والبروق تتلألأ وتومض، انها ارادة الله ان يتعذب محبّيه الحقيقيون، محبّي الجمال، وعشاق الحرية، ومواكبي العصر بل سباقي عصرهم، كل ذلك في تواضع وكتمان، توارثوه من ابائهم واجدادهم المضطهدين على مدار القرون، هؤلاء شاء الزمن ام ابى هم مجد الامم وفخر بني البشر.

     هل نسي الموصليون الايام الخوالي، عندما كان يحل مهرجان( شيرا) دير مار ميخائيل، فيغلقون دكاكينهم ويخرجون على اختلاف نحلهم وطوائفهم، للتبرك والتنزه في ذلك الموقع التاريخي اللطيف، مستنشقين الهواء العليل بين الخضرة السندسية والحقول الزاهرة.

     هل نسيت الموصل ما انشده شاعرها حامد الصراف قبل قرابة القرن:

وعشنا وعاشت في الدهور بلادنــا         جوامعنا في جنبهن الكنائس

وسوف يعيش الشعب في وحدة له         عمائمنا في جنبهن القلانـس

واخيرا وبها نختتم، هل نسي الموصليون شاعرهم المعروف عبد الباقي العمري عندما انشد ابيات تقرن اللغتين الشقيقتين، العربية والسريانية :

شبح لالاها وخلاپــــــــــو         شبحا شمت حيزو لاپــــو

كوذنتا وخمارت شاپــــــو         وقس مسكنتا بشاشه ليل

دنحا والو برطت قاشـــــا         شموقا لوطو وبراشـــــــا

ومارت كركيزا ابن شاشا         يوحنا واسحاقت شموئيل

فرجو قس عمسو قمبازو         بادو واستخلو بى ســازو

ملكت حيزو خازو بــــازو        طينلكا برطت طنبيــــــــل

شعيا سمكا ماتيكـــــــــــــا        وشمونى قاشا طمسيكـــا

بيعة مار جرجس تحرسكا         خوفا موفا بالزنبيـــــــل

چارن خيزو برطت طنـــي          بر بوطت شعيا قبصنى

لخمة غبشه ياقو غبنــــى          ومشيحا بصحفت لنجيل

طنجى ميخا واشبانيثــــــه          دوخو قاطوثا ثرطيثـــا

قرية برطلى وبشبيثــــــــا          قفط عين كاوة ارويـــل   

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com