|
الغزو الثقافي الأمريكي المفسد: تجربتي مع كلية بغداد والجامعة الأمريكية في بيروت د. حامد العطية قضيت أحد عشر سنة طالباً لدى الأمريكان، خمسة منها في كلية بغداد، أكملت فيها مرحلتي المتوسطة والثانوية، التحقت بعدها بالجامعة الأمريكية في بيروت، وحصلت منها على شهادتي البكالوريوس والماجستير، الهوية الثقافية للكلية والجامعة أمريكية صرفة، والدليل هو أن منهجهما التدريسي والكتب التدريسية واسلوب عملهما مماثل إن لم يكن مطابقاً لمثيلاتهما في أمريكا، كما أن معظم الكادر التدريسي فيهما أمريكي الجنسية، وتتميز كلية بغداد بكونها مؤسسة يديرها رهبان من الكاثوليك اليسوعيين، أما الجامعة الأمريكية التي أسسها رجال دين مبشرون ينتمون للمذهب البروتستانتي فلم تعد صفتها الدينية التبشيرية بارزة أثناء فترة دراستي فيها في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي. التحقت بكلية بغداد في أوائل الستينات، وأغلبية طلاب الكلية المسلمين من أولاد بقايا العثمانيين، الملكيون منهم والجمهوريون، وكلا الفريقين متفقان على احتقار أهل الجنوب باعتبارهم معدان متخلفين حضارياً ومنحرفين دينياً، وكنت المستهدف بسخريتهم ومضايقاتهم، لمجرد كوني معيدياً شروقياً شيعياً من أهل الجنوب، وتحاماني أبناء الشيعة البغداديون كذلك، لأنهم كانوا أولاً وآخراً بغداديين وحضريين، وكنت أنا النشاز بالنسبة لهم أيضاً، ولعقدة نقص متأصلة في نفوسهم تودد هؤلاء لزملائهم البغداديين بالانتماء للأحزاب "المتمدنة" الآتية من وراء الحدود، فانضموا لحزب البعث، وأخمن بأن عادل عبد المهدي، (المنتفجي المتحضر) وأياد علاوي، الطالبين في الكلية، على هذه الشاكلة مع أني لم أعاصرهما، أما أنا فقد كنت ولا أزال متمسكاً بالدين ما استطعت، فهو قلعتي وملاذي. في حينها كان نفر قليل من طلاب المدرسة، يعدون على أصابع اليد الواحدة، يتسللون من المدرسة، ليصلوا الجمعة، أو هكذا كانوا يدعون، فتجرأت على طلب الإذن من إدارة الكلية، للسماح لي بمغادرة المدرسة لأداء صلاة الظهر في الكاظمية، أسوة بهم، فجاءني الجواب باستدعائي من قبل مدير الكلية، واسمه الأب باورز ( ومعنى كلمة باورز باللغة الإنجليزية القوة لذا كان الطلاب من وراء ضهره يسمونه أب القوة)، وفي الموعد المحدد قرعت بابه فانفتح الباب، كان ذلك أول باب يفتح ألكترونياً رأيته في حياتي، قال لي المدير: أنت شاب طيب ومهذب وقد فوجئنا بطلبك الخروج لأداء الصلاة، وإن كنت مصراً فلن أعارض، فهمت من كلامه بأن الطيبة والتهذيب لا تتفقان مع صلاة المسلمين، ونسي الأب المدير بأن الأكثرية المطلقة من العراقيين مسلمون، وبأننا نحن طلابه المسلمون في كليته نقف ست مرات يومياً، عند بدأ كل درس، وبكل أدب، لنستمع من دون مشاركة للطلاب المسيحيين، وهم يرددون صلاة أبانا الذي في السموات، ولم نعترض، مع إننا لا نؤمن بكلمة واحدة مما تتضمنه، ولم يقل أحد منا بأن الصلاة تنهى عن الطيبة والتهذيب. تعمدت الخروج مرات عدة للصلاة لكي أثبت للأب باورز بأن القوة والعزة لله جميعاً. بعد كلية بغداد الأمريكية جاء دور الجامعة الأمريكية في بيروت في 1965م، ومن المعروف بأن بعض خريجي الجامعة خدموا المصالح الغربية بإخلاص منقطع النظير، فكافأهم البريطانيون والفرنسيون والأمريكان بتقليدهم أرفع المناصب في بلدانهم، كما كانت الجامعة مفرخة للحركات السياسية العربية العلمانية الفاشلة، وكلها تتفق على نبذ الحضارة الإسلامية الأصيلة أو توظفها لخدمة أهدافها وأيديولوجياتها المستوردة، وكنت ولا أزال أرى للتأثير الثقافي الأمريكي المفسد دوراً في تشويه فكر تلك النخبة، تردد مؤسسو تلك الحركات مثل عفلق والحوراني على المقاهي المحيطة بالجامعة، وجالسوا قادة الحركات الطلابية فيها، فمن أروقتها ظهرت حركة القوميون العرب، برئاسة جورج حبش، وانخدع بشعاراتها البراقة بعض طلابها، وأتذكر بأن عدداً من الطلبة الخليجيين، وجلهم من البحرين، تحمسوا بفعل تحريض هذه الجماعة، فتركوا الأهل والوطن وشدوا الرحال إلى ظفار في عمان، ليشاركوا في العمليات المسلحة المناوءة لسلطان عمان، وكان من بينهم فتيات جامعيات، هنالك واجهتهم مشكلة شح الخيم، فماذا تراهم فعلوا؟ تروي إحدى المشاركات بأن الرفاق استأثروا بالخيم وفرضوا على الرفيقات المبيت في العراء، ومما تسبب بإصابتها بمرض رئوي، وقد توفيت هذه السيدة قبل أعوام في العقد الخمسين من عمرها. تنافس القوميون العرب مع الناصريين والبعثيين على عقول وقلوب الطلبة العرب في الجامعة الأمريكية، وحتى الشيوعيين حضروا بإعداد قليلة، وهنالك انضم لحزب البعث العراقيان الجبوري وحمادي، اللذان استوزرا في عهد الطاغية صدام وخدماه بإخلاص، والغريب أن الكثير من الأيديولوجيين الذين زخرت بهم مقاعد الدراسة لم يثبتوا على مبادئهم، فقد تحولوا بعد التخرج إلى موالين مخلصين لنظم الحكم التسلطية والرجعية، ومنهم كان السعودي البعثي الذي ما أن رقوه للدرجة الممتازة حتى صار يسبح بحمد آل سعود طويلي العمر، كما زاملت الدكتور عبد الله النفيسي الذي كان مسلماً ملتزماً منذ أيام الدراسة، وكان منصفاً في نظرته للشيعة، ومعجباً بدورهم في ثورة العشرين، وعندما اختار الثورة موضوعاً لرسالة الدكتوراة عرفته على عمي المرحوم رايح العطية، أحد قادة ثورة العشرين، وقد تأسفت لتحول الدكتور النفيسي مؤخراً إلى سلفي طائفي كاره لكل الشيعة من دون استثناء، ومثله صاحبنا الشيوعي الذي انقلب بعثياً، ومع أني لا أرضى بفكرالطرفين، فقد حزنت عندما التقيته بالصدفة في موقف سيارات المركز القومي ببغداد، الذي غدا بفضل إنقلابه الأيديولوجي مديراً عاماً له، فأخبرني بأنه في طريقه للتدريب مع الجيش الشعبي، وفتح صندوق سيارته ليريني رشاشة الكلاشنكوف بعهدته، بعد ذلك بلغني في منفاي خبر القبض عليه بتهمة التخابر مع الأمريكان، وقيل بأنه خرج من السجن مقعداً. لا يخفى على أحد بأن مؤسسي الجامعة الأمريكية مبشرون منتمون للمذهب البروتستاني، وتتوسط الحرم الجامعي كنيسة ضخمة، وهذا شأنهم، بشرط احترام ديننا، ولكنهم لم يفعلوا، في الخمسينات جاؤوا بإستاذ ليسب الإسلام، ولولا إضراب الطلاب المسلمين والضجة الكبيرة التي أثارها الموضوع لما استغنوا عن خدماته وأعادوه لأمريكا، وفي أيامي كان شارل مالك رئيساً لقسم الفلسفة، وهو وزير خارجية لبناني ورئيس وفدها للأمم المتحدة سابقاً، تردد سمير جعجع على مجالسه ويعتبره اباه الروحي، وهل هنالك شهادة أسوء من هذه الشهادة؟ قيل وقتها بأن شارل مالك كان وراء تنصر أحد أساتذه قسم الفلسفة المسلمين، تلك كانت أيام حرب فيتنام، ومعظم الناس، بل معظم الأمريكان، كانوا معارضين للحرب، إلا الجامعة الأمريكية وأستاذها المدلل شارل مالك، وبعد توقيع الدكتور صادق جلال العظم على عريضة إحتجاج على حرب فيتنام طرده شارل مالك من الجامعة الأمريكية، ولم يفلح إعتراض الطلاب في ثني الجامعة عن قرارها التعسفي، وإذا كانت المؤسسات الأكاديمية الأمريكية تحظر على أساتذتها ممارسة حرية الرأي فلا بد من الإستنتاج بأن إدعاء الأمريكان احترام الحريات والحقوق أجوف. طردوا صادق جلال العظم، الذي كنت أختلف تماماً مع أفكاره، وجاؤوا لنا بإستاذ امريكي، لتدريس مادة الحضارة، وفي محاضرة له عن ملحمة جلجامش السومرية قال بأن جلجامش وصديقه أنكيدو شاذان جنسياً، ويبدوا بأن الرجل أو شبه الرجل الأمريكي يظن بأن كل الرجال على شاكلته، فلا غرابة أن تعترف بعض الولايات الأمريكية باقتران الشاذين والشاذات. مرضت يوماً فراجعت المستوصف المخصص للطلاب، وكان اسم الدكتور المناوب مطابق لإسمي العائلي، أي عطية أيضاً، فسألني من أي البلاد أنت، فأخبرته بأني عراقي، فسألني إن كان فلان العطية يقربني؟ فأجبته بأنه ابن عمي، وقد سبقني إلى الدراسة في الجامعة بسنوات، فقال لي بأنه تعرف عليه لأنهما كانا يجلسان على مقعدين متجاورين في الكنيسة أيام الأحد، واستغربت يومها حضور ابن عمي العضو في حركة القوميين العرب قداس الأحد، فاستفسرت، وجاءني الجواب بأن حضور كافة الطلبة لعظة الأحد كان إجبارياً. لا يتسع المجال لبيان كافة أنشطة الجامعة المخالفة لقيم وأعراف مجتمعنا العربي، والتي استنكرها اللبنانيون الأكثر تحرراً وتغرباً، ولكن أكتفي بالكشف عن حقيقة خافية على كثيرين من طلابها، وهي تجسس الجامعة على طلبتها وتزويدها جهات خارج الجامعة بالمعلومات عن الميول السياسية لطلابها، وقد بلغني بأن مدير أحد البنوك اللبنانية طلب من إدارة الجامعة في حينها، أي بداية السبعينات من القرن الماضي، تزويده بما لديها من معلومات عن نشاطي السياسي فأخبروه بأن حامد العطية "ثوري" ، والحمد لله فلم أنتمي لحزب ابداً، ولا زلت مسلماً عربياً ثورياً، أرفض هيمنة الأجانب الأمريكان وغيرهم، وأعارض الحكومات الظالمة والمضطهدة، وأناصر كل المؤمنين المخلصين لدينهم والوطنيين الثابتين على وطنيتهم. قرأت مؤخراً بأن الجامعة الأمريكية في القاهرة ترفض إنشاء مصلى للطلاب داخل الجامعة، فالكنيسة حلال عليهم في لبنان والمسجد حرام علينا في مصر، فماذا سيفعل الأمريكان لو تمكنوا من إتمام سيطرتهم على العراق؟ تلك كانت لمحة مقتضبة من التأثير الثقافي المفسد لمؤسستين تربويتين، زرعهما الأمريكان في مجتمعاتنا، فأنبتتا ثماراً مرة، ونحن نشهد اليوم توالد جامعات أمريكية آخرى، في القاهرة والشارقة وبيروت والدوحة ومؤخراً في العراق، وأخشى من تفشي جراثيمها في فكر أجيالنا الحالية والقادمة، فقد اكتفينا من سموم وتخريب الرجعية والبعثية والقومية واليسارية، والعارفون بأمريكا مدركون بأنها ليست مفلسة إقتصادياً فقط، بل وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وسيكون ربط مصير العراق بهذا المجتمع المفلس المفسد من خلال توقيع إتفاقية أمنية معه مدخلاً لنشر سموم "الثقافة" الأمريكية الفاسدة في مجتمعنا، وهو أعظم الكبائر المحرمة في حق العراق وأهله والإسلام والعروبة والقيم والأخلاق السامية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |