الحقائق الناصعة في عملية الهروب من سجن الحلة 5
 

 

محمد علي محيي الدين
abu.zahid1@yahoo.com

الرسالة الخامسة

الأخ الأستاذ محمد علي محي الدين المحترم

تحية طيبة ...

متابعة لرسائلنا السابقة نستأنف برسالتنا هذه استكمال الصورة الحقيقية لواقعة نفق سجن الحلة وما رافقها من ملابسات وإشكالات..لم يتطرق إليها معظم الأخوة الذين كتبوا عن النفق أما عن جهل بها أو بقصد التستر وتشويه الحقيقة .

ولابد من كشف الحقائق الناصعة أمامكم والرأي العام بأمانة ومصداقية بعد عودة الهدوء واستتباب أوضاع السجن كما أسلفنا في رسالتنا السابقة وبعد الاتفاق بين منظمتنا الحزبية بقيادة الرفيق حسين سلطان ومنظمة المنشقين على العودة إلى العمل في النفق لإنجاز ما تبقى منه بحدود ثلاث أو أربعة أمتار بدأنا العمل من جديد في أوائل تشرين الأول من العام 1967 .

ولكن العمل في هذه المرة لم يكن كما اعتدنا عليه في البداية..إذ غابت الروح الرفاقية وتغلبت الأنانية وحب الذات..وبات كل من إفراد المجموعة ينظر الي وكأني خصم أو ند لهم ولست رفيق شيوعي حتى نظراتهم لي قد تغيرت..وبدأت المضايقات والضغوطات بهدف التخلص مني وإبعادي عن العملية والذي يهدف بالأساس الى إبعاد الحزب عن العملية والانفراد بها على إنهم أي المنشقون الثوريون هم الذين خططوا ونفذوا العملية ولا علاقة للحزب بها وذلك لأني الوحيد من المجموعة بقيت مع الحزب كما أسلفت وقد أخبرت الرفيق حسين سلطان بهذا الأمر فأشار عليً الرفيق أبو علي بضرورة تحمل الصعاب وضبط النفس لأني في مهمة حزبية على حد قوله وهكذا استمر العمل ومن الطريف أن اذكر هذا الموقف المحرج الذي تعرضت له..ذات يوم وأنا في عملي داخل النفق تغمرني الفرحة وانشد أنشودة يالرايح للحزب خذني وإذا بطرقات سريعة على باب الصيدلية ( النفق ) فانتابتني الحيرة والقلق الشديد..والخبر هل كشف أمرنا وضاعت الأحلام..شلت يدي عن العمل..وازدادت الطرقات على الباب وخرجت مسرعاً من النفق وإذا بصوت يناديني ( جدو...جدو...) اخرج بسرعة يمعود..أخوك كَلب السجن يبحث عنك فتحت الباب وإذا به الرفيق المهندس علي حسين السالم..يقول.. لك غسل أديك ووجهك بسرعة أخيك جاء لمواجهتك وهنا اطمأننت واغتسلت يدي ووجهي بسرعة وذهبت الى القاعة مسرعاً..وكان هناك أخي حسين ومعه ابن أخي الأكبر نضال وهو طفل لا يتجاوز التاسعة من عمره لاحظت الغضب والانفعال على وجه أخي حسين..وصرخ في وجهي..وين جنت..ما خليت قاعة ما دورته كَلي وين وليت..ابتسمت بوجهه محاولا تلطيف الجو بسرعة وأخذته الى صدري معانقاً إياه ثم انحنيت على ابن أخي وقبلته..وهنا فاجئني الطفل الصغير بسؤاله المحرج ( عمو ) شنو هذا التراب بركبتك وتشاغلت عن الجواب بانحناءة أخرى لتقبيله..ورحت اسأله عن دراسته بيد إن أخي حسين أيضا سألني ذات السؤال بشيء من الاستغراب..وتشاغلت عن الجواب بسؤاله عن الأهل وأخي الأكبر أبو نضال وأنا امسح التراب من عنقي الذي كان معتقلاً هو الآخر وكان حسين قد أطلق سراحه من سجن نقرة السلمان بعد انتهاء محكوميته عام 1965 .

وفي نهاية الزيارة طلبت من أخي و رفيقي حسين أن يجلب لي في المواجهة التالية ( دشداشة و سترة وحذاء رياضي ) وقد أثار طلبي هذا استغرابه بشكل واضح وقال أنت بالبيت متلبس دشداشة!! شلك بيها؟ ولك شغلة الدشداشة مو خالية..فأجبته على الفور : مو الدشداشة اروح من البجامة والحذاء أريده للرياضة الصباحية..ولم يقتنع بذلك لكنه لبى لي طلباتي في المواجهة التالية في الأول من تشرين الثاني .

وكانت هذه الطلبات باتفاق مع الرفيق حسين سلطان حيث كنت قد أخبرته في وقت سابق بأني لا اعرف طريق الحلة ولا شوارعها لأني لم أراها من قبل ولا اعرف أين أتوجه عند هروبنا من السجن فقال لي الرفيق أبو علي..

لا عليك..سأكون بانتظارك عند الخروج في باب الكراج لأصطحبك معي الى الريف ولذا فضلت الدشداشة لأنها مناسبة لوضع الريف .

كنا في هذه الفترة قد بلغنا بالعمل في النفق نهاياته..فقد أصبحنا على مقربة من الكراج الملاصق للسجن..حتى تركنا مسافة أو مقدار طابوقتين أو ثلاث وهي الفوهة التي تتسع لعبور شخص..وتوقف العمل لحين ورود إيعاز من الحزب فقد كانت منظمتنا الحزبية على اتصال بمنظمة الحلة ( محلية الحلة ) إذ كان من المتفق عليه بين منظمة السجن ( ومحلية الحلة ) أن تقوم المحلية بتهيئة بعض المستلزمات الضرورية لتسهيل عملية الهروب ومنها تهيئة السيارات من داخل الكراج لنقلنا الى مكان يرتئيه الحزب ولم يكن لنا علم بهذا المكان..ولكن وفقاً لما قالته الرفيقة وابلة الشيخ للرفيق حسين سلطان من إن الحزب لا يستطيع إيواء الهاربين في المدن لكنه يستطيع إيواء الهاربين في الريف وعلى هذا فأن اغلب الظن كان التوجه نحو الريف..وان تكون السيارات بحماية عدد من الرفاق من تنظيم الحلة وعلى هذا الأساس توقف العمل ولم يكن هناك أي موعد متفق عليه بين مجموعة العاملين في النفق أو بين منظمتنا الحزبية ومنظمة المنشقين .

ويبدو إن المنشقين استغلوا فترة توقف العمل هذه فواصلوا العمل بمفردهم من وراء ظهر منظمتنا الحزبية ودون علمي كشريك في العملية واتخذوا قرارا أيضا بأبعادي عن العمل من طرف واحد أي دون إبلاغي بالقرار وأكملوا رفع مسافة الطابوقتين والثلاث التي اشرنا إليها وقاموا بتغليف النفق بالبطانيات وسحب سلك كهربائي الى داخل النفق للإنارة وقد اتضح هذا الأمر في الليلة الحاسمة التي سيأتي ذكر في الرسالة القادمة .

الليلة الحاسمة

17 / 10 / 2008

كانت هذه الليلة التي أسميتها ( الليلة الحاسمة ) مفاجئة لنا ولمنظمتنا الحزبية التي كانت تتهيأ مع كافة السجناء للاحتفال بالذكرى الخمسون لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى .. وكانت منشغلة بأعداد فقرات برنامج الاحتفال بهذه الليلة العظيمة فالجميع كانوا مشغولون وفرحون بأحياء ذكراها العاطرة ولم يدور في خلد أي منا أن يحدث ما حدث إذ لم يكن هناك أي اتفاق أو موعد محدد مع منظمتنا على تنفيذ عملية الهروب في تلك الليلة كما أشرت الى ذلك في رسالتي السابقة لأننا كنا بانتظار الإيعاز من الحزب أو محلية الحلة كما أسلفت لكن الذي اتضح هذه الليلة إن المنشقين كانوا يخططون بمفردهم وقد حددوا هذه الليلة للهروب بمفردهم وقد استخدموا أساليب ملتوية بهدف إبعاد النظر عما يخططون فقد التقى صباح اليوم 6 / 11 حافظ رسن بالرفيق حسين سلطان وابلغه بأنهم ( المنشقين ) سيعقدون اجتماعاً لهم في القاعة الكبيرة رقم سبعة المحاذية لغرفة الصيدلية فقال له أبو علي هذا أمرا يخصكم ثم أعقبه بعد سويعات الشاعر مظفر النواب وطلبة من الرفيق أبو علي تزويده بصور الرفاق الذين تقرر هروبهم مع أسماء مستعارة لهم لتثبيتها في هوياتهم على أن يأتي في صباح اليوم التالي لاستلامها لكن عملية الغدر قد اكتشفت قبل ساعة من تنفيذها حيث كنت أقف في ( الكشك ) لمزاولة عملي في بيع المشروبات الغازية وقناني الحليب المعقم شاهدت عناصر من المنشقين ( من القلعة القديمة ) وهم يدخلون الى القلعة الجديدة ويتجهون الى القاعة الكبيرة المحاذية لغرفة الصيدلية وكلاً منهم يحمل كيس من القماش تسمى ( البقجة ) وكان عددهم بين 12 – 15 شخصاً وفي مقدمتهم حافظ رسن ومظفر النواب وحسين ياسين وعقيل حبش وفاضل وآخرون وشاهدت شخصاً يقف في باب القاعة الأمر الذي لفت نظري وبقيت أراقب هذا التحرك المريب وفجأة قطع التيار الكهربائي للحظات ثم عاد مرة أخرى وبانقطاع التيار الكهربائي تبادر الى ذهني مباشرة إن الجماعة قد سحبوا السلك الكهربائي الى داخل النفق واتجهت مسرعاً الى الرفيق حسين سلطان الذي كان هو الآخر في الساحة يراقب ( الاجتماع المزعوم ) الذي أوهمه به حافظ رسن وأخبرته بخطورة الموقف فقال لي أبو علي جدوا هل أنت متأكد مما تقول هذا الكلام خطير وقلت له نعم وإلا لماذا قطع التيار الكهربائي يقيناً إنهم سحبوا سلك الكهربائي الى داخل النفق ... ولماذا الأكياس بأيديهم بالتأكيد فيها ملابس للهروب فقال الرفيق أبو علي تذكر رفيق أنت ستكون المسؤول أمام الحزب إذا ظهر عكس ذلك فأجبته بثقة وإصرار نعم أنا المسؤول أمام الحزب وهنا أشار الي الرفيق أبو علي بحمل قضيب حديدي صغير ( شيش ) كان موجود في الكشك والتوجه به الى باب الصيدلية الرئيسي لكسر القفل واتجهت الى باب الصيدلية الرئيسي أما الرفيق ابو علي فقد ظل واقفاً في الساحة أمام الممر المؤدي للصيدلية ووقف الى جانبه الرفيقين عبد الأمير سعيد وصاحب الحميري لمراقبة الموقف بانتظار ما سيحدث وعند باب الصيدلية استرقت السمع من خلف الباب فسمعت وقع خطوات داخل الصيدلية وصوت همس يقول هل الإنارة جيدة أيقنت ساعتها ان المنشقين يغدرون بنا وناديت على حسين ياسين بصوت منخفض وقلت له هل هذه هي الأمانة الحزبية التي تربيت عليها في الحزب .. الغدر برفاقك ووضعت قضيب الحديد في القفل وإذا بشخص يحاول أن يجذبني ويأخذ الشيش من يدي ( يبدوا انه مكلف من المنشقين بحراسة باب الصيدلية ) وبعد شد وجزر بيننا لسحب الشيش كلاً إليه انتصرت عليه بجذب الشيش وطرحته أرضا وحاولت أن أسدد له ضربة إلا إن رفاقنا الثلاثة أبو علي و الحميري وعبد الأمير الذين كانوا يراقبون في الساحة جاءوا مسرعين ومنعوني من ضربه ويبدوا إن حسين ياسين قد سمع بالمشاجرة من خلف الباب أي من داخل الصيدلية فناداني بصوت مرتعش ( جدو .. جدو ) تعال هنا نتفاهم في القاعة فأجبته على الفور ليس لي أي تفاهم معكم .. التفاهم مع الحزب وهكذا اتضح أمر المنشقين ونواياهم وانسحبوا من النفق الى القاعة الكبيرة الواحد تلو الآخر مخذولين وكما يروي الزميل عقيل حبش ( من جماعة المنشقين ) في مذكراته الطريق الى الحرية صفحة 49 ( اخبرني فاضل نقلاً عن مظفر انه يتوقع ردم النفق وعليكم الاستعداد لردمه ( هكذا سادت حالة من الإرباك بينهم وعاد عقيل الى القلعة القديمة غاضباً ليأخذ قسطاً من النوم والمهم وبعد أن انتهت المشاجرة مع المنشقين أوعز الرفيق حسين سلطان للرفيقين الحميري وعبد الأمير بالوقوف في باب القلعة الجديدة الرئيسية لمنع دخول أو خروج أي من السجناء كأجراء امني واحترازي خشية تسرب الإخبار الى إدارة السجن مما يعني فشل العملية وضياع الجهود المضنية التي بذلناها وعولنا عليها في خلاصنا من قيود السجن والالتحاق بصفوف الحزب وذهبت مع الرفيق ابو علي للتفاوض مع المنشقين في القاعة الكبيرة التي تجمعوا فيها بعد خروجهم من غرفة النفق وكان هناك حسين ياسين وحافظ رسن ومظفر النواب وآخرون وكانت الوجوه متجهمة غاضبة وترتسم عليها الانفعالات والتوتر العصبي وبدأ الكلام الرفيق ابو علي بكل هدوء قائلاً رفاق نحن كلنا مناضلون شيوعيون وإذا كان الحزب قد انقسم اليوم فلابد أن يتوحد غداً وتاريخ حزبنا غني بالتجارب وقبل أن يتم الرفيق أبو علي كلامه انبرى مظفر النواب مقاطعاً بانفعال وعصبية شديدة قائلاً لا...لا انتم اليمين ( ورفع يده اليمنى الى الأعلى ) ونحن اليسار ( ورفع يده اليسرى ) ولا يمكن أن نلتقي أبدا- ارجوا إن لا يفهم من حديثي هذا الإساءة لشاعرنا الكبير الأستاذ مظفر النواب فهو رفيق وصديق عزيز ولكن له كل التقدير والاحترام لكنها الحقيقة- وعندما رأى الرفيق ابو علي إن النقاش والتفاهم في مثل هذه الأجواء المتوترة والانفعالية لا جدوى منها وليس في الوقت متسع للطالة في الحديث فالموقف محرج وحساس وأصبح الأمر مكشوفاً أمام الجميع قال الرفيق ابو علي المهم أن نتفق الآن على تنظيم العملية وهنا قال مظفر واحدا منا وواحداً منكم أجابه الرفيق ابو علي إذا كان هذا رأيكم فلا بأس ولكن يجب أن يكون الأول منا استغرب النواب كلام ابو علي وقال له من الأول إذا أجابه ابو علي الأول جدوا مشيراً بيده نحوي فوافق النواب أما أنا فقد رفضت أن أكون الأول تقديراً واحتراماً للرفيق أبو علي فهو اكبر مني سناً وهو عضواً في اللجنة المركزية للحزب وقلت له لا يا رفيقي أنت أول من يخرج وبعد هذا الحوار الساخن تم الاتفاق على العشرة الأوائل خمسة منا وخمسة منكم أي واحد من جماعة الحزب وواحد منهم وفعلاً بدأنا التهيؤ للانطلاق الى عالم الحرية ولقاء الحزب وأعطاني الرفيق ابو علي خمسة دنانير وكان ابو علي أول من خرج ثم أعقبه مظفر ثم جدو .

نهنئكم من القلب بزفاف ولدنا العزيز زاهد ونرجو له كل خير والموفقية وبالرفاه والبنون

يتبع

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com