وكل إناءٍ بما فيه ينضحُ!  [*]


كاظم حبيب

aliali81189@googlemail.com

غالباً ما ينصح أساتذة الجامعات الطلبة في الابتعاد عن الإجابات المطولة عن الأسئلة المطروحة عليهم في الامتحاناات، إذ كلما طالت الإجابة، كلما ازداد احتمال ارتكاب الخطأ وتؤثر على  النتيجة. هذه القاعدة لم يتعلمها السيد رئيس الوزراء العراقي من أساتذته ومدرسيه ومعلميه ولا في الحياة العامة، إذ ازدادت مؤتمراته الصحفية وتصريحاته وتجاوزت الحد المعقول وبدأ يرتكب المزيد من الأخطاء الفكرية والسياسية التي تجسد طبيعة هذا الرجل وخشونته في التعامل مع الآخر، إضافة إلى نرجسية مرضية يمكن أن تتغلب عليه ويعجز عن معالجتها فتصدر عنه بعض الأحكام القاسية ويغر المقبولة التي تؤكد الحكمة القديمة القائلة: "وكل إناء بما فيه ينضح". كل منا قد كون فكرة عن السيد نوري المالكي حين كان في الشام، وحين تميز بالتعصب والتزمت والجفوة إزاء القوى الأخرى، خاصة إزاء القوى الديمقراطية والتقدمية. وكنت أتمنى على الرجل أن يتغير بعد أن احتل موقع رئيس الوزراء الذي يتطلب منه الكثير من الحكمة ورهافة الحس ورقة الشعور والاستعداد لتحمل النقد والتعلم منه ومن الآخرين. إلا أن تصريحه الأخير حين تحدث عن الإنترنيت باعتباره "مكتب نفايات"، أدركت أهمية وقيمة الحكمة القديمة الواردة في أعلاه. فالرجل عجز عن أن يميز بوضوح بين الغث والسمين، بين الطالح والصالح، بين النقد الإيجابي البناء وبين النقد السلبي الهدام، بين كتابات من يريد الخير للعراق وينتقد بحرص ومسؤولية، وبين من يريد أن تسود الفوضى ويعم الخراب وينتشر الموت في ربوع العراق وينعق أو ينعب فيها الغربان، في ما ينشر على صفحات الإنترنيت حيث تكتب فيها جمهرة هائلة من العلماء والمثقفين والمبدعين في مختلف الاختصايات، إضافة إلى جمهرة كبيرة من السياسيين من مختلف الجنسيات والقوميات، ولكن يكتب فيها من لا يريد الخير للعراق، فشملها كلها بحكم واحد، شمل الانترنيت كله باعتباره مكتب نفايات.

يبدو لي بوضوح أن نوري المالكي رجل سياسي من أوساط المعممين المتخلفين فكرياً واجتماعياً وليس من بعض متنوريهم الذين تركوا حزب الدعوة، وأن نزع العمامة وارتداء ملابس الأفندية لا يحول الإنسان إلى مثقف يعي ما يقول ويفهم كيف يتعامل مع المسائل بحكمة ودراية.

لقد وجه رئيس الوزراء الشتيمة لكل من يكتب بالإنترنيت، فكيف يفترض التعامل معه حين لا يقدم اعتذاراً عما تفوه به. لقد تمنى الإمام علي بن أبي طالب لنفسه، وهو يوجه الكلام للجميع، أن تكون له رقبة كرقبة البعير لكي يتأنى في ما يقول ويفكر طويلاً قبل أن يطلق الكلمة، إذ يصعب بعد ذلك سحبها.

كنت أعتقد بأن نوري المالكي، كما يفعل الكثير من مسؤولي حكومات العالم المعقولين, كان قد طلب من مكتبه الإطلاع على ما ينشر في الإنترنيت من مقالات وأفكار وملاحظات وانتقادات وتلخيصها له ليستفيد منها في عمله كرئيس وزراء، إذ أن هذا أحد الوسائل الإعلامية الأساسية للوصول إلى رأي جمهرة من المواطنات والمواطنين في الداخل والخارج حول ما يجري في العراق وحول سياساته ومواقفه وتصريحاته، ولكن من المؤسف أن ظهر العكس وبان الموقف البائس له إزاء ما ينشر في الإنترنيت باعتباره كله نفايات!

لم يوجه نوري المالكي الشتيمة لكتاب الإنترنيت فقط، بل وجهها لهذا الإنجاز العلمي الذي يفترض أن يدخل كل بيت ومدرسة في العراق أيضاً، وبالتالي يمكن أن نقدر كيف سيتعامل هذا الرجل، وكذلك وزير تربيته الذي لا يختلف عنه والذي يرى في خامنئي ولي أمره في الموقف من الاتفاقية العراقية - الأمريكية، من احتمال التوسع في دخول الإنترنيت إلى المدارس والمعاهد والجامعات والبيوت العراقية.

إن الأمية، يا سيد نوري المالكي، لم تعد تقاس بالقراءة الكتابة حسب، بل بمدى إمكانية استخدام منجزات العلم الحديث ومنها الإنترنيت. ويبدو أن الرجل لم ولن يقترب من هذا الإنترنيت (الشيطان الجديد) لكي لا يتلوث بنفاياته، ويعبر بذلك عن أميته الفعلية في ما يخص التعامل مع منجزات العلم والتقنيات الحديثة، ومنها الإنترنيت.

لرئيس الوزراء موقع على الإنترنيت، فهل ما ينشر فيه هو جزء من تلك النفايات ؟ لا بد أن يكون مليئاً بالنفايات الصادرة عنه أيضاً، إذ أن موقعه جزء من التهمة التي وجهت للإنترنيت باعتباره مكتب نفايات. قيل قديماً لو كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، كم كنت أتمنى على رئيس وزراء العراق أن يتعظ بهذه الحكمة المفيدة في بعض أحاديثه التي تنشر على الملأ والتي يحتاج فيها أحياناً على شرح الدكتور علي الدباغ.

لم يعد رئيس الوزراء العراقي يتحمل النقد الذي ينشر على صفحات الإنترنيت، رغم أن على صفحاتها الكثير من المقالات التي تكيل المديح له، وبعضها جاء مني أيضاً، أي حتى ممن لا يتفقون معه في الكثير من مسائل الفكر والممارسة. ومن هذا الموقف المشين من نقد كتابات الإنترنيت يمكننا أن نلاحظ بموازاة ذلك التراجع الفعلي الحاصل في حرية الصحافة في العراق وفي التجاوزات الفظة التي سجلتها مؤسسات مستقلة حول اتجاه تطور حرية الصحافة في العراق. ولكي لا يكون الكلام جزافاً أقدم إلى القارئة والقارئ بعض الحقائق عن ممارسات اجهزة السلطة التنفيذية التي يقودها المالكي، باعتباره رئيس هذه السلطة في العراق، بعد التهديدات التي وجهها للصحفيين والإعلامييم عموماً في العام الماضي وأوائل هذه السنة، ومنها كان الاعتداء الفظ على مؤسسة المدى الثقافية والإعلامية. إليكم ما يلي:

 ** " قالت منظمة “مراسلون بلا حدود” المعنية بالحريات الصحافية في العالم، في تقرير لها أمس، إن دول شرق آسيا، وخصوصا كوريا الشمالية وبورما والصين، ودول الشرق الأوسط، وعلى الأخص السعودية وإيران وسوريا والعراق، تعتبر “أسوأ المناطق في العالم” في مجال الحريات الصحافية بينما صنفت شمال أوروبا بأنها “ملاذ آمن للصحافيين”. (راجع: جريدة السفير-لبنان, الأربعاء،«أكتوبر» 2004.

** " كشف تقرير للحريات عن مؤشرات جديدة حول واقع حرية الصحافة والتعبير في العراق تشكل مخاطر على مستقبل حرية وسائل الاعلام في العراق وتمهد لاتساع سياسة المنع والقمع من قبل الاجهزة الحكومية.
وذكر مرصد الحريات الصحافية في العراق في تقرير نشر اليوم حول تقييم الفترة من مايو العام الماضي وحتى مايو الجاري ان حالات الانتهاك ضد الصحافيين في ازدياد ملحوظ مقارنة بالعام الماضي بنسبة 60 في المئة وبواقع انتهاك واحد كل 43 ساعة. واضاف التقرير ان عمليات الرصد المنظم تشير الى زيادة في عدد الانتهاكات المسجلة ميدانيا او عبر بلاغات مباشرة من الضحايا والى تصاعد عمليات الاعتداء على الاعلاميين بالضرب وبمختلف اشكال الاهانة من الاجهزة الامنية وعناصر الحمايات الخاصة ومنع الاعلاميين من تغطية الاحداث الساخنة خاصة التفجيرات ". (راجع: وكالة الأنباء الكويتية )كونا) في 2/5/2008).

** حسب التقارير الصادرة عن هذه الجهات بروز مؤشرات جديدة تهدد حرية الصحافة والتعبير في العراق فقد شهد العام 2007 مقتل 54 صحافياً وخطف 10 واعتقال 31.. ومداهمة 10 مؤسسات إعلامية. (راجع: الشرق الأوسط، 3 يناير 2008 العدد 10628، حيدر نجم). 

** أورد الصحفي حيدر نجم ما يلي: "حذرت الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين، احدى منظمات المجتمع المدني المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة والاعلام من ان حرية الصحافة في العراق تمضي صوب منزلق خطير بعد ان فقدت معاييرها وحريتها بسبب غياب القوانين وعدم اتخاذ تدابير عاجلة او حتى بطيئة من قبل السلطات لحماية ارواح العاملين في هذا المجال والحفاظ على انسيابية حركة الاعلام والصحافة في البلاد".( راجع: الشرق الأوسط، 3 يناير 2008 العدد 10628، حيدر نجم).

 لم ينته العام الجاري 2008، ولهذا لا توجد إحصائيات نهائية عن عدد شهداء الصحافة والإعلام العراقي والعربي في العراق، ولكن الصحافة نشرت عن مقتل 4 من مراسلي قناة الشرقية مثلاً واستشهاد الأستاذ كامل شياع الإعلامي المعروف ومستشار وزارة الثقافة حيث لم تبذل أجهزة الدولة أي مجهود يذكر أو معلن عنه للكشف عن القتلة حتى الآن، رغم نداءات واحتجاجات المثقفين وكثرة كبيرة من الأوساط الشعبية العراقية.

نحن أمام رئيس وزراء يتحول تدريجاً إلى مستبد بأمره يسعى نحو المركزية المطلقة، التي شجبها نائب رئيس الجمهورية بقوة وصراح، السيد عادل عبد المهدي المنتفكي في خطبة معروفة له في أعقاب تلك الخطبة النارية لرئيس الوزراء عن العراق القوي والمركزي والذي رد عليه بمقال أيضاً القيادي والإعلامي البارز في الاتحاد الوطني الكُردستاني ورئيس تحرير جريدة الاتحاد الأستاذ أزاد جندياني.، يريد عراقاً قويا ودولة مركزية قوية. وهذا القول يذكرني بمن سبق نوري المالكي من حكام العراق السابقين الذين انتهوا إلى قير وبئس المصير. ولا أتمنى مثل هذه النهاية للسيد نوري المالكي.

إن التدحرج من على قمة جبل سهلة جداً، ولكنها تحمل معها احتمال التعثر والموت في آن واحد، ولكن ارتقاء الجبل هو الصعب ويحتاج إلى بذل الجهد ونفس طويل وصبر ودراية في آن, أي أن التحول صوب الديمقراطية بالنسبة لأي إنسان، ومنهم رئيس الوزراء، هي عملية صعبة ومعقدة وأشبة بصعود جبل، خاصة وأنه ينتمي إلى حزب إسلامي سياسي شمولي الإيديولوجية، يرى في الديمقراطية وسيلة أو أداة للوصول إلى السلطة وليست فلسفة يعمل بموجبها الحزب، كما صرح رفيق نوري المالكي في قيادة حزب الدعوة الإسلامية على الأديب في ندوة تلفزيونية على قناة الحرة، في حين أن التحول إلى الاستبداد أشبه بنزول أو التدحرج السريع من على قمة جبل يمكن أن يقود الإنسان إلى نهاية مشئومة.

إن استخدام عبارة مكتب نفايات لما ينشر من كتابات أو نقد على صفحات الإنترنيت والتي تحدث عنها رئيس الوزراء هي التي تقود صاحبها إلى الاستبداد والقسوة في التعامل لأنه لا يملك إذناً صاغية لسماع النقد ويرفض الانتباه لمن يوجه له لنقد ويعتبره عملاً عدوانياً ضده شخصياً وضد السلطة التي يقودها، وأملي أن لا يعتبر نفسه من بين المعصومين من الخطأ، لكي لا يقع بنفس الخطأ الذي ارتكبه صدام حسين واعتقد بأنه معصوم من الخطأ، فليس في البشرية كلها من هو معصوم من الخطأ!

أملي أن يفكر رئيس الوزراء بما قاله وأن يوجه اعتذاراً إلى  كتاب الإنترنيت وإلى المنجز العلمي الكبير، إلى ثورة المعلومات والاتصالات، ثورة الأنفوميديا، التي دفعت بالبشرية خطوات كبيرة نحو الأمام وحولت العالم إلى قرية صغيرة متجاورة البيوت، والتي كما يبدو بعيدة عن ذهن وممارسة رئيس الوزراء العراقي، وأنه مؤمن بمقولة المحافظين القدامى والمنسوبة لأبي حامد الغزالي "ليس بالإمكان أبدع مما كان" وأن النقد شتيمة غير مرغوب به!    

[1] ملاحظة: ليست من عادتي أن أكتب بهذا الأسلوب في الحوار ومناقشة الأفكار، إلا أن السيد رئيس الوزراء تجاوز كل حدود الاحترام في التعامل مع الآخر وضرب عرض الحائط كل الشخصيات العلمية والأدبية والثقافية والإبداعية العراقية وكتاباتهم حين أطلق على الكتابات والكتاب في مواقع الإنترنيت إنها مكتب نفايات، وأعتذر للقارئة والقارئ الكريم عن ذلك. ك. حبيب 

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com