من دولة العشيرة إلى دولة القانون
 

 

سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

حينما يعيش أي مجتمع من المجتمعات حالة الانغلاق وهيمنة الحزب والفكر الأوحد وحتى التفسير الأوحد للدين، تبدأ أنماط من الشذوذ الجنسي والعقلي والاجتماعي بالبروز كنتيجة طبيعية لحالة الانغلاق الذهني وحتى الأخلاقي وتنشأ علاقات اجتماعية سلبية – كالزواج من الأقارب السائدة في مناطق عشائرية – ومن المفارقات التي توجد في مناطق من هذا التصنيف الذي يذكرنا بأجواء هيمنة البعث القومي، هوأن السلطة المهيمنة ترفع الكثير الكثير من الشعارات "التقدمية" وحقوق المرأة وكرامتها والحريات الفردية، إلا أن هذه السلطة القومية نفسها تقتل المرأة – باسم العرف العشائري – وتدعم التطرف الديني وتنمّيه لأن هذا الإسلام المصنع حكوميا هوالدرع الحقيقي لهيمنة الدكتاتورية والخطاب القومجي الذي يفتت الوحدة الوطنية العراقية.

من هنا نجد أن إحدى المدارس وحينما تأتي المعلمة لتدرس الطلبة المراهقين عن جسم الإنسان فإنها تشرح كل شيء بشكل ممتاز ولكن ما أن يصل الطلاب إلى موضوع "الأعضاء التناسلية" حتى تطلب المعلمة من الطلاب تجاوز تلك الصفحات لأنها "لا أخلاقية" وقد تثير الأقاويل، إن هذه القصة الحقيقية هي قطرة من بحر التخلف العقلي والأخلاقي الذي نعيشه والمؤلم أيضا أن كل هذا التخلف قد تم دمغه بالمقدس فأصبح الشخص العلمي والحداثي – فاجرا فاسقا ملحدا – ويتناسى رجال الدين "السنة خصوصا" آلاف الآيات والأحاديث النبوية التي تتحدث عن الجنس والعلاقات كشأن إنساني ضروري، وهذا الجهل بالأشياء أوقع الكثير من الناس في مشاكل صحية واجتماعية بل وحتى أدى بالبعض إلى أن يصبح ضحية عملية استغلال جنسي لا أخلاقي وأن تقتل المرأة حتى لمجرد الشك.

إن المعرفة هي شيء قائم بذاته بمعنى أن الاطلاع والثقافة لا تخضع لآليات الحلال والحرام بل إن الفقه وكتب الفقهاء تحوي شرحا مفصلا للعلاقات بين الرجل والمرأة وهوبالتالي نقيض الواقع العشائري القائم على ثقافة "العيب والعار" إذ المهم في هذا المجتمع المتخلف أن تكون مــثاليا وأخـلاقيا أمام أعين الناس والمجتمع بينما لا بأس بكل الممارسات إذا كانت تتم في الخفاء، وهذا هومكمن الخطر، ففي بلاد الغرب يستطيع الإنسان أن يميز بكل سهولة بين المحافظ أخلاقيا وبين المنحل والشاذ أخلاقيا، أما في بلداننا – والعراق من شماله إلى جنوبه جزء منها – فإن الأمور تتطلب الحذر الشديد والاحتياط، بل إن إرهابيين كانوا يصلون ويصومون ثم في الوقت نفسه يذبحون الناس ويتعاطون الشذوذ مع بعضهم البعض، ترى هل من مقياس أخلاقي لمجتمع تنحصر كل أخلاقه في "العـار" و"عري الرجل والمرأة"؟

إن النظام العشائري يعمل ويكون مفيدا بوجه من الوجوه حينما لا تكون هناك دولة وقانون ونظـام، لكن حينما نسعى إلى بناء دولة حديثة أساسها المواطنة والحقوق فإن العشائرية تصبح وبالا ومصيبة إن لم تكن بالأحرى كارثة حقيقية، فالعشيرة تتعصب لأبناءها سواء كانوا أشخاصا إيجابيين وسلبيين، ملتزمين بالقانون وقطاع طرق ولصوصا، بينما في دولة القانون والمساواة الأمر مختلف تماما، فلا قداسة لأحد ولا مكانة إلا بمقدار رضوخه للقانون، من هنا نجد أن دول وأنظمة الشرق الأوسط، باستثناء تركـــــيا وإسرائيل، قائمة على ذات العقل
العشائري الذي تحدثنا عنه قبل قليل، فالدكتاتور ومن وراءه الأقلية الحاكمة هم أناس يتمتعون بكل الصلاحيات دون أي خوف من أن تتناولهم العدالة، بينما الفقراء يرزحون تحت أكثر القوانين ظلما وإجحافا.

إن مجتمعاتنا ستبقى تتفاخر بوقوفها بوجه القانون، لأن العقل المهيمن هوعقل البدوي الريفي الذي يرى في الدولة والنظام خطرا على عقله الفوضوي، بالتالي فالشاطر هوذلك الذي يخدع الحكومة ومنفذي قوانينها، بل إن الحاكم نفسه قد يكون من ضمن منتجات هذه البيئة، وصدام حسين خير نموذج للدكتاتور الذي كان ينظر إلى بلده وكل البلدان الأخرى بمنطق "هذا ربعنا وهذا ربعهم"، وبالتأكيد أن دولة تقوم على أكتاف "ناس من العصر الحجري" وثقافة الحلال والحرام التي تطاولت فامتدت من كونها شأنا شخصيا لتصبح قانونا يحكم دولة بأكملها ليجعلها جزءا من العالم المتخلف.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com