عبد الكريم قاسم: الحكايات المُرَّة
 

 

شاكر هادي غضب

abu.zahid1@yahoo.com

لم تكن حكايات هذا الزعيم الوطني أكثر منها جدلاً في حياة زعماء آخرين ساقهم الزمن في تأريخ الشعب العراقي. فهو وطنيٌّ لا غبار عليه، أنهى حقبةً عاش العراق فيها سوءاً لا يمكن تصوره، بين الاستعمار والإقطاع والتخلف ومصائب كثيرة.

مرَّ ما يقارب النصف قرن على استشهاده إلا أن الغصة التي أمسكت بجميع معاصريه الشرفاء لا زال يحملها الأحياء منهم. وأسجل هنا بعض الحكايات الخاصة بتلك الفترة، وما تداول شعبياً منها. ويكفيني فخراً أني كنت المخبر الأول لحدوث الثورة المباركة لقريتي، وكنت في عمري الصغير أنتظر نتائج البكالوريا للصف السادس الابتدائي، حيث أن مدير مدرستنا أعطانا الموعد المذكور بعد آخر مراجعة لنا. ذهبت إلى المدرسة، وكان المكان يلُفه الصمت. طرقت الباب الكبير بكلتيّ يدي. جاء الفراش الطيب قائلاً: "ماذا تريد يا بني؟" قلت: "أسأل عن نتائج البكلوريا." ابتسم الرجل ابتسامة فيها حيرة وقلق وقال: "اذهب يا ولدي لأهلك فإن الدنيا انقلبت، حيث أن الملك قُتل وهرب نوري السعيد." قلت: "ومن حلَّ محله؟" قال: "يقولون أنه الزعيم عبد الكريم قاسم." ومن دون تعليقٍ أحسست أنّي أطير من الفرح. لا لمجيءِ الزعيم، ولكن لخلاصنا من نوري السعيد الذي كان عمود الطغيان في ذلك الوقت. وعدتُ راكضاً إلى قريتي (التي تبعد 3 كم عن المدرسة) وأنا أصيح دون أن يسمعني أحد: لقد تخلصنا من نوري السعيد. وأنا أكرر هذه الصيحة طول الطريق. ونوري السعيد هذا هو رئيس الوزراء قبل الثورة، من العجب أن أسمع عنه أنه شخصية وطنية وأنه عرّاب الديمقراطية في العراق، وأنه.. وأنه.. وفي رأيي أن ذلك يعود إلى رأي الجماعة الذين عاصروا العهد البعثيّ المُباد بمآسيه الخالدة وربما الذين ينحدرون من أصلٍ إقطاعيٍّ أو رأسماليٍّ أو من وجهاء العهد الملكي الفاسد. فإذا كان نوري السعيد وطنياً مقارنة بصدام حسين فذلك ربما يكون فيه بعض الحق. أما تقييمه الحقيقيّ فيجب أن ينبع من التجربة والمقارنة. وأنا أطلب رأي الفقراء والمعدمين في هذه الشخصية، وما أكثرهم في ذلك الزمن. وهناك بعض الحقائق:

لقد كان العهد الملكي مأساوياً بالنسبة لحقوق المواطنة فـ(90%) ليس لهم أن يرفعوا رؤوسهم أمام (10%) من الشعب المختار في كل شيء.

كان قانون العشائر سيءَ الصيت -الذي ألغته الثورة- هو المعمول به في الدولة وفيه التحكم المطلق لرئيس العشيرة أو الوجيه في رقاب عباد الله.

على الفقير أن يخدم ويكد ويتعب ليضع ذلك في جيوب الـ(10%) المذكورين.

كان نظام السخرة معمولاً به، فابن الشعب عليه أن ينفذ رغبات الوجهاء دون سؤالٍ أو مناقشةٍ وإلا تعرض للضرب والإهانة.

لقد كان الاستعمار البريطاني هو الحاكم الفعلي في العراق، وهو الموجِّه لسياسة العراق وهو الذي كبَّل العراق بالمعاهدات والأحلاف الجائرة. ولولا الثورة التي أخرجته منها لكان ما كان.

لو كان نوري السعيد وطنياً لما قامت الثورة، ولما قتله أبناء الشعب، ولما قامت الدنيا ولم تقعد ضده.

هذه هي شهادتي الشخصية، وأنا ممن عاصروا تلك الحقبة المظلمة، ومع أنّي كنت فتيّاً، فقد رأيت من خباياها الكثير. وهي وان كانت رأياً شخصياً، إلا أنها لا تختلف عن رأي الجميع ممن عاصر ذلك العهد.

وبدأت الأحداث تجري وتتلاحق والحكايات تسري بين خلق الله، وكيف أن نوري السعيد لبِس ملابس النساء بعد خروجه من بيت "السربادي" (يقصدون الاستربادي). ورغم ذلك فقد كشفت حقيقته جماعةٌ من مؤيدي الثورة، فأردوهُ قتيلاً في الحال، ووُضع الحبل في عنقه للدلالة على إعدامه من قبل الشعب. ويُذكر أن بعض الغوغاء جروه بالحبال هاتفين بسقوطه. وتأسّف كثيرون لمقتل الملك الشاب لكونه لم يكن سبباً في ما جرى من الأحداث في ذلك الحين. ويقال أن عبد الكريم قاسم شعر بامتعاضٍ شديدٍ عندما بلغه الخبر.

احتلت حكايات هذا الزعيم الخالد الذاكرة الشعبية لفترة طويلة من الزمن، ربما لا زالت بعض الحكايات تتداول بين العامة ممن عاصروا تلك المدة. وذهب البعض إلى وصفه بصفاتٍ حميدةٍ لا توجد إلا عند وليٍّ أو نصف إله؛ فمن قائلٍ أنه من أتباع الحجة المهدي(عج)، وأنه متخفيٍ لإنجاز مهمةٍ إلهيةٍ مكلف بها. وذكرت امرأةٌ رأته مباشرةً "أن وجهه نوراني وعندما رأيته لم استطع إلا الابتهال لله تعالى وأن قامته عندما اعتلى منصة الخطابة كأن لها صلة بالسماء."

ومن الحكايات الأخرى ما ذكره لي المرحوم محمد الوالي (من أبناء مدينة القاسم(ع) المقدسة ومن شهداء الانتفاضة الشعبانية) وكان قد ألمَّ به حيفٌ لم تستطع الحكومة في الناحية أو المحافظة معالجته بما يرضيه، فقالوا له: "عليك بمقابلة الزعيم." يقول: "شددت الرحال إلى بغداد وذهبت لزيارة الإمام الكاظم(ع)، ثم استأجرت سريراً في فندق منهي (قرب سينما بغداد في العلاوي) وهو من الفنادق الشعبية المشهورة لأن صاحبه من أبناء الفرات الأوسط. ومع انبلاج الصبح، أخذت عريضتي وذهبت سيراً على الأقدام". فالرجل لا يعرف كيف أو أين يجد سيارة توصله إلى وزارة الدفاع، ويستطرد: "بعد أن وصلت إلى الباب النظامية، دخلت إلى الحرس فاستقبلوني بالتحية وخاصة بعد أن عرفوا مبتغاي من هذه الرحلة، ولكنهم قالوا لي اجلس: معنا حتى يستيقظ الزعيم من النوم فالساعة الآن الخامسة وأمامك ساعة أو بعضها. جلست فأخرجت كيس التبغ وأشعلت لفافة شاركني بها أحد الحراس ريثما أهديه واحدة منها. وبعد مضي الوقت المؤمل جاءني جندي وقال: أعطني عريضتك ليراها الزعيم. فأصررت أن أصحبه. ذهب ثم عاد بسرعة مصطحباً إياي إلى الغرفة التي يجلس فيها الزعيم. فوجدت غرفة عادية فيها "ميز" خشب وأريكة قديمة دون رياش يذكر. وقال: اجلس ريثما يأتيك الزعيم فجلست. لله دره كيف يحكم العراق وهو يعيش في هذه الغرفة المتواضعة. بعد قليلٍ جاءني الزعيم بوجه ضاحك وعلى رقبته منشفة وهو يلبس بيجاما من البوبلين العادي، نظيفة ولكنها لم تكن مكوية، وسرعان ما رحب بي واحتضنني وتبادل معي القبلات قائلاً: أهلاً بأهالي الفرات. ثم أنه نادى أحد الجنود باسمه وأعطاه نقوداً وهمس في أذنه. ذهب الجندي وتركني مع الزعيم بلا ثالث، وبعد كلام المجاملات والسؤال عن أحوال الناس ومنجزات الثورة وبعد أن اطمأن سألني عن حاجتي فشرحتها له فطمأنني باتخاذ الإجراء اللازم. وسرعان ما عاد الجندي وهو يحمل إناءاً صغيراً فيه قشطة ومعها صمون حار ووضعه أمامي. فقال الزعيم: كُل، فهذا إفطارك. قلت له: وهل تأكل معي؟ قال: لا، فأنا جندي أفطر مما يفطر به الجيش، أتيناك بهذا الإفطار من السوق لأنك ضيف ولا يصح إلا إكرام الضيوف." يقول محدثي: "أن الزعيم طلب إفطاره فأتوه بماعون من الشوربة مع صمونة عسكرية. وعندما أنهينا الإفطار والشاي بعده، غسلنا أيدينا، فذهب هو إلى الميز الخشبي وجلس خلفه وتناول ورقة كتب بها بعض السطور ووضعها في مظروف بعد ختمها والتوقيع عليها، وناولني إياها قائلاً: خذها إلى المتصرف في الحلة وسوف يؤلف لجنةً مختصةً لدراسة مشكلتك وحلها. وأنا سأتصل به وبك بعد ذلك. وودعته داعيا له، فاحتضنني مجدداً وقال بلهجة محلية: سلم لي على الإمام القاسم(ع). وتناول من جيبه ورقة نقدية أعطاني إياها وقال: استعن بها في سفرك. وقد ذكر لي أن المتصرف رحب بالمظروف، وحصلت على حقوقي كاملة. وبعد حوالي أسبوعين جاء شخصٌ غريبٌ إلى داري ومعه شرطي غير مسلح ليطمئن فيما آلت إليه المشكلة فطمأنته."

ومن القصص الطريفة ما ذكره لي أستاذي المرحوم عبد الحميد الفلوجي، مدير دار المعلمين الابتدائية في الحلة عام 1961، إبان المدة الأخيرة من حكم عبد الكريم قاسم. كان هذا الرجل إقطاعياً كبيراً حرمته ثورة تموز من امتيازاتٍ كثيرةٍ واستولت على بعض أراضيه بقانون الإصلاح الزراعي الذي سنَّته ضمن التغيير الذي حملته لصالح الفقراء من أبناء الشعب. ولهذا السبب أصبح الفلوجي داعيةَ ضد حكم الزعيم. وبالرغم من انه كان شخصية دمثة الأخلاق حميدة السلوك سليمة النوايا إلا أن رأيه كان -ضمن المعقول- ضد الثورة. وقد بدا لنا أن من مبادئ الثورة احترام الرأي الآخر. قال الأستاذ الفلوجي خلال درس الإسلامية وهو يسوق هذا المثل ليدلل على هوس الناس بعبد الكريم قاسم: في يومٍ ما، بلغ أتباع الزعيم الناس في الحلة بأن عليهم الخروج عند الغروب إلى ضاحية "اليهودية" (وهو نهر صغير يقع غرب الحلة في تلك الأيام والأماكن المحيطة به مكشوفة) لأن صورة الزعيم سوف تظهر على القمر. فخرج الناس فُرادى وزُرافاتٍ، منهم من كان مستطلعاً ومنهم من كان خائفاً (والعهدة على الراوي). وبعد أن وضح القمر في عتمة الغروب صاح الكثيرون: "يا الله!! تلك هي الصورة!! نعم، ها هي صورة الزعيم في القمر!" إلا أن أحدهم، وكانت علامات الطيبة والسذاجة بادية عليه، قال لمن حوله بهدوء: "ولكني لا أرى سوى القمر كما هو في كل يوم!" وعلى الفور جاءته ضربةٌ على رأسه، فما كان من الرجل إلا أن قال وهو يتألم: "نعم إني الآن أرى الصورة بوضوح." وأخذ يصفق كما يصفق الآخرون.

ومن عجائب ما رأيت أننا كنا نمشي في أحد أسواق الحلة عندما مرت جنازة ومعها أناس كثيرون للتشييع. وكانت الأخلاق في ذلك الوقت تقتضي أن يقف المارة على جانب الطريق حتى تمر الجنازة، منهم من يترحم ومنهم من يقرأ سورة الفاتحة. إلا أن شخصاً كبيراً في السن كان يقف قربي عندما مرت الجنازة بانت على وجهه ابتسامة ماكرة وصاح بأعلى صوته نحو الجنازة: "اذهب، فإنك خلصتَ من خطب الزعيم." ذلك أن إذاعة بغداد كانت تختار يومياً مقطعاً لخطاب من خطب الزعيم عبد الكريم قاسم لا يتجاوز طوله الخمس دقائق لتبثه قبل الرابعة عصراً، وهو موعد نشرة الأخبار. وليت الرجل تأخر به العمر قليلاً ليرى وجه "عبد الله المؤمن" وصوته يهيمنان يومياً على جميع قنوات الإعلام لساعاتٍ عديدة. ترى ما كان هذا الشيخ ليقول أو يفعل؟ ومن الطريف أن نذكر أن هذه الحكاية وقعت قرب المقر الرئيس لمديرية شرطة الحلة، التي كانت تقع في بداية السوق الكبير، وكان عدد من أفراد الشرطة يقفون ومعهم المفوض، والجميع ابتسموا لصيحته. ولكن تلك هي ضريبة الديمقراطية في ذلك العهد الزاهر. وفي الحكاية ردٌ على تخرصات البعض ممن قالوا أن حكم عبد الكريم قاسم كان ديكتاتورياً.

ومن الأقوال التي تداولت في ذلك الوقت ما كان يشدو به العامة في مجالس الأفراح والسرور فيقولون: "عاش الزعيم اللي زوَّد العانة فلس. فقد كانت العانة عملة صغيرة قيمتها (4) فلوس. ولما جاءت الثورة جعلتها (5) فلوس، ولا أدري على وجه الدقة إن كانت تلك المقولة الغاية منها المدح أو الذم أو السخرية والتهكم، ولكني أميل إلى الأول لكون بعض الحاجات كانت تباع بخمسة فلوس فإذا كانت لديك عانة فيجب أن تضع معها فلسا لكي تشتريها وكان في ذلك بعض الصعوبة.

وحكاية "ملكة آل تمر" أود أن أرويها هنا لأن هذه المرأة كانت إيرانية الأصل نزحت مع عائلتها إلى العراق كما غيرها لأسباب ربما دينية أو اقتصادية أو الاثنين معاً. وكانت تسكن نفس القرية التي أسكنها، امرأة فقيرة حد الإدقاع، ومسكينة حد التصوف، وساذجة حد الخبل، وتحب عبد الكريم قاسم إلى حد الهوس. قالت لي يوما بلكنة فارسية صعبة الفهم وبطريقة تدل على ارتياح: ماما، عبد الكريم هازا نئمة من باري جلال." وتقصد أنه نعمة من الباري عز وجل. ولا أدري كيف لهذه المرأة أن تحب هذه الشخصية الوطنية إلى هذا الحد وهي من خارج الحدود وبعض أبناء الوطن يكرهونه.

أما حكاية "طه الأعمى"، الذي كان يقود دراجة هوائية وهو لا يرى مطلقاً، فقد وضع صورة عبد الكريم قاسم بحجم كبير معلقة أمامه في الدراجة، إلا أن بعض الخبثاء سرقوها ووضعوا بنفس الحجم والطريقة صورة عبد السلام. وعندما شاهده الناس تعجبوا كثيراً وتساءلوا عن سبب انقلابه المفاجئ وهم يضحكون. ومرت عدة أيام وهو لا يدري. إلا أنه عندما اكتشف الحقيقة كسر الدراجة بما تحويه. ومن يومها لم يره الناس إلا راجلاً بنظارته السوداء المعتمة.

وحكاية "أركان الأخرس" الذي كان يضع "باجاً" على صدره يحمل صورة الزعيم. وعندما حدث الانقلاب الأسود أفهموه بالإشارة أنه مات. فطفق يبكي بكاءاً مراً، وأصابته لوثة عقلية فأضحى لا يلتقي أحداً. ومن يريد التفاهم معه عليه أن يذكر عبد الكريم قاسم، فهو يقرأ حركة الشفتين. وعندها فقط يتبسم ويقبل القائل وينفذ أمره بسرعة.

أما حكاية "كلفة آل مرموص" فهي عن عجوزٍ بذيئة سليطة اللسان، كان يقصدها طلاب المزاح لتسوق عليهم الشتائم والسباب المقذع وهم يضحكون فلا تسكت عنهم حتى يعطوها مالاً أو هدية. ولما عرفوا أنها من محبي عبد الكريم قاسم، قال لها يوما أحد الخبثاء: "سُبي الزعيم وهاي ربع دينار." وكان ربع الدينار يسيل له اللعاب آنذاك، أعرضت عنه وقالت: "روح ماما روح، ما أريد فلوسك." وعندما كرروا عليها ذلك في أوقات لاحقة لزمت بيتها ولم تخرج حتى ماتت رحمها الله.

والقصة التي رواها لي أحد معارفي في منطقة الحَمّام القريبة من منطقة الزُرفيَّة (الطليعة حاليا) تكاد تكون أشبه بالخيال. فقد ذُكر أن هناك امرأةً مسنةً ليس لها معيل، تعتاش من صلات الناس وتسكن بيتاً من القصب ملأته بصور الزعيم. وعندما قتل أغلقت الباب عليها وما عادت تفتحه لمن يطرق وبعد أيام فتحوا الباب عنوة وعندما دخلوا وجدوها ميتةً وهي تحتضن إحدى صور عبد الكريم قاسم. كان اسم هذه المرأة "فلحة". ومن يومها تسمى تلك الجهة من الهور "عبرة فلحة". وأغلب من عرفها بكى بدمعتين واحدة لها وأخرى لمن ماتت لأجله.

ومن الأحداث التي جرت في ذلك الوقت أن ثُلَّةً من الأشقياء والمغامرين، وأعتقد أن أيادي مدسوسة كانت ورائهم، حاولوا اغتيال الزعيم فأصابوه بعد كمين نصبوه له في شارع الرشيد فأطلقوا عليه النار بكثافة فأصابوه ولكنه نجا من الموت بأعجوبة بعد دخوله المستشفى. وقبض على بعضهم فتمت محاكمتهم علناً وغصت المحكمة بالآلاف، والذي لم يستطع الحضور سمعها أو شاهدها في الإذاعة والتلفاز. ومن طريف ما سمعته شخصياً أن هيئة الدفاع قدمت شاهداً وكان رئيس المحكمة الخاصة في ذلك الوقت المرحوم فاضل عباس المهداوي، وكان يدير المحاكمة بروح ديمقراطية ويتكلم المتهم ما يشاء ويسمع الدفاع كما يروم ولكنه في هذه المرة اغتاظ قليلاً من هذا الشاهد ذلك أن هذه القضية لا تحتاج إلى دفاع يذكر أو شهود يستنجد بهم فالمتهم وقف وأطلق النار وفي ذلك عدة شهود وهو –أي المتهم- قال أنه "يريد أن يخلص العراق من الدكتاتور!" المهم، تم استجواب الشاهد فسأله المكلف بالاستنطاق الأولي. اسمك؟ "فلان الفلاني". عمرك؟ "37 سنة"، شغلك؟ "موسيقي في الإذاعة والتلفزيون". فما كان من المهداوي إلا الالتفات إلى كاتب المحكمة الذي كان يوثق الاستجواب وقال بسخرية: سجِّل "دنبكچي". ولا أعتقد أن أحد يخفى عليه ما أراد بهذه الكلمة.

وعلى ذكر المرحوم المهداوي، كان هناك عرس في القرية التي أسكنها فأقام صاحبه حفل بسيط على مستوى النساء فقط. وكُنَّ يغنين الأغاني الشعبية، وكانت الأفراح عامرة في الذكرى الأولى لثورة 14 تموز، فامتزجت الأهازيج تلك بمدح الثورة وعبد الكريم قاسم. وغنت إحداهن: "رسمك يميل وسط القلوب.. عبد الكريم بين الجنوب.." ولما كان الحفل يضم نسوة ممن أصابهم الضرر بقوانين الثورة كما أسلفنا فقد قامت إحداهن هازجة وصوتها ينم عن غيظ دفين وبعصبية واضحة: "نزيهة بالت بالطشت وتمزلگ المهداوي". ونزيهة هذه هي المناضلة المعروفة المرحومة "نزيهة الدليمي"، أول امرأة عربية تتسلم وزارة في العالم العربي، فهي وزيرة البلديات في أول حكومة لعبد الكريم قاسم والسؤال هنا: ما هي علاقة المهداوي بالطشت الذي تقصده أو لماذا دخل المهداوي ذلك الطشت اللعين. ربما الجواب بعد ذلك عند من وقفوا له في رأس القرية ليرموه بوابل من الرصاص، فكان "الطشت" المذكور أرحم بكثير.

المهم أن عبد الكريم قاسم بعد خروجه من المستشفى بأيام أصدر عفواً عن كافة المتهمين في هذه القضية وجاء ذلك في خطاب له في الإذاعة والتلفزيون بمناسبة عيد السلامة وقال كلمته المشهورة: "عفا الله عما سلف" التي تدل على سماحة ونبل أخلاق.

وعندما اقتاد الجلادون فجر الثامن من شباط المشئوم، سمَّوها "عروس الثورات"، ولكنها كانت عروساً جاءت حُبلى بالدون وسموها الأميرة ولكنها نست تاجها في أحضان عشاقها. وعندما أعلن الانقلاب أصاب الناس الوجوم وعلت وجوههم إمارات الحزن والكآبة. ثار البعض منهم بالعصي والهراوات فكانت لهم نيران البنادق التي أردت منهم الكثير، فاضطروا للصمت والانسحاب وفي قلوبهم حسرات. بعضهم كان يشدو: "اشلون تموت وأنت من أهل العمارة؟" أو "اشلون البُطُل وﮔﻊ ابن كيفية؟" والبُطُل هو الباطل في لهجتهم. ويقال أن الزعيم اسم أمه "كيفية". وبعضهم يقول بمرارة: "عفا الله عما سلف"، ويقصدون أن الذين قتلوه الآن نفسهم الذين أصدر عفوه عنهم. ومنهم من قال: "حيل وياه"، وهم يقصدون بأنه لو لم يصدر مثل هذا العفو لما حدثت له مثل هذه النهاية المحزنة. وقد رأيت بنفسي تظاهرة شبابية كبيرة اجتاحت المدينة التي أسكنها تستنكر حدوث الانقلاب وتطالب بسقوطه ولكنهم سرعان ما طوقتهم السلطة وحدثت مصادمات خفيفة وتم القبض على بعض منظميها وبعد نجاح الانقلاب وقد تمكن المنقلبون من مسك الزمام. توالت الأقاويل والحكايات أن الزعيم حي يرزق وأنه "غاب". لاحظ أن في هذه الكلمة معنى قدسي. ومما يذكر أن لي بعض الأقارب في الديوانية يسكنون حي العسكري، فذهبت لزيارتهم وعندما وصلت وجدت الحي مطوقاً بالجيش، ولا يدعون أحداً يدخله أو يخرج منه. وصاحب ذلك مداهمات للبيوت. وكان حدوث مثل هذا أمراً مستغرباً. المهم أني انسحبت إلى قريب آخر وفي اليوم التالي سألنا عن الأسباب فقالوا أنهم يفتشون عن عبد الكريم قاسم وقد ذكر لهم أنه كان يرتاد هذا الحي. فتساءلت مع نفسي: "كيف يقولون أنه تم إعدامه ثم يفتشون عنه؟" قال أحد أصدقائي: "إنهم يمتصون نقمة الناس عليهم" ولا أدري ماذا يقصد بذلك.. إن هذا الذي حدث ذكرت الأقاويل أنه حدث في أماكن أخرى من العراق.

وذكر لي أحد معارفي وقد كان طالباً في معهد الفنون الجميلة/ قسم المسرح أن الفنانة "فوزية عارف"، وهي زميلة له في ذلك الوقت، ذكرت له أنها في ذلك الحين كانت ترتاد محطة الإذاعة والتلفزيون لعملٍ ما، وأنها عندما أتوا بعبد الكريم قاسم إلى الإذاعة كانت تنظر إليهم من شق في ديكور المسرح. وكان كبيرهم عبد السلام محمد عارف. فقال عبد الكريم قاسم بعد نقاش قصير: "إني عفوت عنكم عدة مرات فلماذا تقتلوني؟" فأجابه عبد السلام: "أنت غبي"، ثم أخرج مسدسه وأطلق على رأسه ثلاث عيارات نارية فأردته قتيلا في الحال. واعتبرت هذه المحادثة -حسب بيان الانقلاب- محاكمةً، ثم حكماً بالإعدام رمياً بالرصاص حسب التصوير التلفزيوني المعلن.

ومما ذكر أن شخصاً حبس عدة شهور لأنه ذكر في أحاديثه أن عبد الكريم قاسم قد مر بهم وتناول طعام العشاء مع أبيه في بيتهم. ومن الطرائف أن "السيد هويدي السيد عبيد"، وهو من أهالي القاسم كان صبياً أبان تلك الأحداث، طلب من أبيه أن يعطيه ربع دينار فرفض أبوه ذلك وأعطاه درهما فصاح: "أيها الناس إن عبد الكريم قاسم تغدى مع أبي هذا اليوم"، فأمسك الأب بإبنه غالقاً فمه بيده وأعطاه الربع دينار صاغراً، متوسلا السكوت.

ومما يذكر أن الانقلابيين عرضوا صورة في التلفاز للغرفة التي كان يسكنها الزعيم وفيها أنواع من زجاجات الخمر وصور خليعة لممثلات أجنبية ومكتبة فيها من بعض كتب "أرسين لوبين" ومغامرات الغانية العالمية المشهورة "ايرما لادوز". ولكن المنصفين ذكروا بأنهم لم يجدوا في جيب قميصه إلا مبلغ (750) فلساً أي ثلاثة أرباع من العملة مع دفتر نفوس، وإن غرفته خالية إلا من سريرٍ وكرسيٍّ ودولاب ملابس عسكريٍّ فيه بدلتان بالرتبة العسكرية وعدد من القمصان وزوجان من الأحذية وعدة كتب عسكرية مع رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فكتور هيجو، وعدة كراسات أخرى لمنجزات الثورة و"ترمس" ماء مع كأس زجاجي وزجاجة كولونيا المسماة في ذلك الوقت "ريف دور".

ومرر الإنقلابيون عبارات تداولت في الإعلام رداً على عبارات كانت موجودة مثل "الزعيم الأوحل" بدلاً من "الزعيم الأوحد"، و"الزعيم الهمشري" بدلاً من "الزعيم العبقري"، و"الزنيم" بدلاً من "الزعيم"، و"قاسم ظهر الأمة" بدلاً من "قاسم حبيب الأمة"، و"قاسم أبو الحقراء" بدلاً من "قاسم أبو الفقراء"، و"عبد الكريم رص الجيوب" بدلاً من "عبد الكريم رص القلوب"، و"أبو الأشرار" بدلاً من "أبو الأحرار"، و"ابن الشغب" بدلاً من "ابن الشعب"، و"العار" بدلاً من "البار". لعنهم الله، لقد سماه الناس بقلوب نابعة بحبه وهم ردوا بحقدهم اللعين.

أما قضية "حامد قاسم" شقيق "عبد الكريم قاسم" فقد اتخذ منها الإعلام في ذلك الوقت حجة للنيل من تاريخ الزعيم في أن هذا الرجل أثرى لكونه من عائلة الزعيم. وعلى حد علمي أن الحقيقة في ذلك لأن حامد كان يملك مالاً قبل الثورة ومن الطبيعي أن يزداد بعد الثورة لأن التجارة مبدأها السمعة. ومع هذا فقد نصحه الزعيم بعدم استغلال اسمه في تجارته، وطلب منه أن يترك التجارة. ولما لم يستجب، أودعه السجن وحجز أمواله. وخوفاً على سمعة الزعيم، طلب منه رفاقه إطلاق سراحه فأُطلِق وهاجر إلى مصر، وكان لديه مال قليل هناك فتابع تجارته فيها. أما المال الذي حُجِز، فقد صادره الإنقلابيون واتخذوه حجة ضد الزعيم.

أما الذين رأوه في المنام فعددهم كثير وفي كل يوم تذبح شاة أو دجاجة أو بطة فمن العادات هنا أن الميت إذا رأوه في المنام قالوا: "اذبح وتَرَحَّم". والذي لا يملك حق ذبيحة، يُعِدُّ شيئاً بسيطاً ويترحم به. ومن أطرف ما سمعت في هذا المجال "السيد عبد الزاملي" أصبح من يومه وعلى حين غرة وهو يتمم إصلاح بيته ويزينه ولما سألوه: "ألديك عرس أو مناسبة؟" قال: "لا"، وسكت ولكنه أسر لبعض أصحابه بأنه رأى في المنام عبد الكريم قاسم وهو يعده بزيارة بيته. ومثل هذه القصة حدثت في منطقة الوسامة، قرب الطليعة. فقد أولم "الحاج وحيد الراضي" عدة ذبائح لعرس أحد أولاده ودعا الناس لذلك ولكنه في الليل حمل قنديله وأخذ يتفرس في وجوه الحاضرين واحداً واحد. ولما سألوه، سكت. وذكر لهم بعد ذلك أن ابن عمه حضر من بغداد وهو يفتش عنه. ولكنه ذكر لي شخصياً أنه يفتش عن الزعيم الذي رآه في المنام وهو يعده بحضور الدعوة التي وجهها له.

اللهم ارحم عبد الكريم قاسم وارحم رفاقه الأحرار وارحم الشعب العراقي الذي عانى الأمرين بعده. تلك هي الحكايات التي عاصرتها، جمعتها صحيحة، وبعض شهودها لا زالوا أحياء يرزقون. فيها بلاغة الحقيقة التي إن تمعنتُ بها أصابتني غصة في الحلق تركت أثرها طعما مراً، وكلما تذكرت أحداثها شعرت بعيني جفاف البكاء وحرقة الدمع المتصلب. ولا أريد أن أزيد على ذلك، فقد أتهم بأني واحد من أبطال الحكايات. فقد سبق للغلاة أن قالوا أن مذهب عبد الكريم قاسم: "مذهب ذوي العاهات". ويقصدون أن الذين يحبون عبد الكريم قاسم أغلبهم مثل هؤلاء. وأنا أقول أن أغلب الفقراء يحبون هذا الزعيم ولكن كظم الجميع غيظهم. وبان الغيظ لدى المذكورين لفرط طيبتهم. فإن كان كذلك فإني أتشرف أن أكون منهم. وكان الأجدر أن يقولوا عنه بأنه "مذهب ذوي الطيبة" أو"مذهب الطيبين" أو"مذهب أهل الله".

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com