التعصب القومي والتشويه الديموغرافي في العراق؟

 

كفاح محمود كريم

 kmkinfo@gmail.com

لم يشهد العراق منذ تأسيسه وحتى سيطرة التيارات القومية المتعصبة أي تغييرات ديموغرافية حادة أو نشاط باتجاه الترحيل القسري للسكان على خلفية الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي إلا ذلك الذي اقترن دوما بموجات من العنصرية أو الشوفينية، فقد كانت خرائط وحدود البلدات والمتصرفيات (المحافظات) وحتى القرى في تقسيماتها العشائرية بشكل لا يمس الآخرين ولا يتجاوز على حقوق الإنسان تحت ثقافة العنصرية أو شبيهاتها في التعصب الديني أو المذهبي، وحافظت على تلك التخوم والحدود في الصحراء أو الجبال وفي أطراف المدن ومراكزها بما لا يخلق نقاط احتكاك أو صراعا بين الأعراق أو الأديان.

ولعله من المفيد أن نذكر إن المجتمعات العراقية من الاهوار والى أعالي الجبال في كوردستان العراق وفي أقصى الغرب وصحاريه وهضابه، استطاعت عبر مئات السنين أن تضع تخوما أو حدودا بين القرى أو العشائر بما يضمن حقوق الجميع دونما مساس بالآخرين أم حقوقهم وحرية التصرف بأملاكهم، سواء كانت تلك العشيرة كبيرة أو صغيرة في حجمها وتعداد سكانها وكذا الحال فيما يتعلق بالمدن أو المتصرفيات (المحافظات) حيث تحتوي أحيانا محافظات صغيرة في تعداد سكانها على أضعاف مساحات الأراضي لمحافظة أخرى اكبر في عدد سكانها قياسا إلى الأرض، ولعل الرمادي كانت نموذجا على اتساع مساحتها قياسا إلى عدد سكانها مقارنة مع محافظات أخرى أو ربما أقضية اصغر منها أرضا وأكثف منها سكانا، ولم تكن تلك مشكلة أو منطقة متنازعا عليها بسبب الأرض أو الاتساع المساحي ( المورفولوجي ) ونقيضه، حتى سيطرة الفكر القومي الشوفيني على مقاليد الحكم ومفاصل الدولة العراقية الحديثة وبداية مرحلة سوداء في تاريخ العراق وشعبه.

حيث دأب هذا الفكر الشوفيني المتطرف منذ استحكامه في السيطرة على الدولة ومفاصلها المؤثرة على تمزيق نسيج المجتمعات العراقية ليس في كوردستان فحسب وانما من أقصى الجنوب في الاهوار وحتى تخوم الغرب مع الأردن وسوريا بما فعله من عمليات تغيير حادة في التركيبات السكانية للمدن والقرى وخرائطها أو عائديتها، إما بنقل مجاميع كبيرة من السكان العرب إلى مناطق غير مناطقهم وتشتيت الآخرين من سكان تلك المناطق من الكورد أو التركمان أو غيرهم من الأعراق في قرى ومدن ذات كثافة عربية عالية في عمليات الإذابة والصهر القومي والعنصري التي تعرض لها الكورد منذ أربعينيات القرن الماضي حينما بدأوا بتوطين البدو في مناطق ربيعة وزمار وأطراف تلعفر وسنجار وصولا إلى عمليات التطهير العرقي السيئة الصيت في كركوك وخانقين والشيخان ومندلي ومخمور والكثير من مدن العراق شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، حيث استقطع مدنا أو مجاميع من القرى والمساحات من محافظة لأضافتها إلى محافظة أخرى وذلك لأحداث تغيير في ديموغرافيتها أو توازنها المذهبي والعرقي كما حصل بين النجف والرمادي أو بين الرمادي والحلة وكربلاء وكذا الحال في الموصل وتكريت وكركوك وديالى وبغداد العاصمة في أبشع عملية تغيير التوازن العرقي والمذهبي لصالح فئة معينة في النظام السياسي.

أما في ما يتعلق بالسيادة الوطنية والمال العام فقد اقترف النظام السابق جرائم كبرى في التنازل عن مساحات شاسعة وغنية من الأراضي المتاخمة للحدود الدولية مع كل من الأردن والسعودية لصالح هذه الدول مقابل صفقات من السلاح والتأييد الأعمى له في حربه مع إيران، وكذا الحال حتى مع إيران التي منحها الأرض والسلاح والمال في أبشع عملية تنازل عن السيادة الوطنية مقابل الاحتفاظ بكرسي الحكم في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وما جرى من تنازلات مخزية في ترسيم الحدود مع الكويت، تعتبر واحدة من اكبر جرائم المس بالسيادة الوطنية وخيانة كبرى بحق الدولة والشعب.

ونعود إلى الداخل العراقي لنشهد أبشع عمليات التغيير الديموغرافي التي أزاحوا فيها وهجروا مئات الآلاف من السكان الأصليين من قراهم وبلداتهم إلى القرى والأرياف ذات الكثافة العربية العالية وبواقع مجاميع صغيرة من العوائل وتوزيعها على القرى أو البلدات أو المدن، مثل ما حصل لعشائر الميران والهسنيان والكركرية والموسى رش في غرب دجلة وتحديدا في مناطق ربيعة وزمار وعوينات وصولا إلى أطراف الموصل منذ أربعينات القرن الماضي بترحيلهم وتشتيتهم في القرى والأرياف والمدن خارج مناطقهم، واستقدام الآلاف من العوائل البدوية وغيرها وتوطينها في مناطق هذه العشائر تحت مظلة توطين البدو، ومن المفيد أن نذكر للتاريخ إن كثيرا من الأشخاص الذين منحوا مساحات واسعة من الأراضي ملكا في الطابو من خارج سنجار وزمار وربيعة وتلعفر وأكثرهم من أطراف الشرقاط وبيجي وسامراء، كانوا لا يعرفون بالضبط أين تقع تلك الملكيات التي منحوا إياها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي على الورق ( السند )، فيما سمي في وقته بتوطين البدو في أواسط الأربعينيات وبالتسوية بين أعوام 1945 م و1965 م في مناطق ربيعة وسنجار وزمار والشيخان وكركوك وخانقين ومندلي وكثير من البلدات والقرى التي مسخت أو أزيلت من على الأرض.

إن تسمية المناطق المتنازع عليها ربما تتجنى على حقيقة ما حدث في هذه المدن والبلدات وتعتبر تلك السياسة العنصرية التي اعتمدها النظام السابق وتسببت في تدمير كوردستان وجنوبي العراق وما خلفته من مآس وويلات عبارة عن واقع حال علينا الاعتراف به والتعاطي معه كما تثقف عليه بعض الأطراف في الحكومة والبرلمان، وليس آثار جرائم أدت إلى تدمير مجتمعات وأجيال من الناس التي فقدت فرصها في التقدم والبناء والتطور، بل عملوا على تقطيع جذورها وانتمائها كما حصل للكورد الذين تم ترحيلهم إلى الوسط والجنوب أو كما حصل للعرب الذين تم إغراؤهم وترحيلهم إلى المناطق ذات الكثافة الكوردية لغرض عنصري وشوفيني الهدف منه القضاء على طموحات الكورد وأهدافهم القومية والسياسية في عراق اتحادي ديمقراطي تعددي، وزرع إسفين وجدار من الكراهية والحقد بين العرب والكورد أو التركمان أو بين السنة والشيعة أو حتى بين منطقة وأخرى.

لقد كانت كل القوى العراقية التي قاومت النظام السابق وعارضته في الداخل والخارج من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والتي تداعت إلى مؤتمر لندن وصلاح الدين قبل سقوط ذلك النظام أو التي اجتمعت بعد سقوطه في بغداد، والتي تحكم اليوم دولة العراق الجديد مع من اخترقوا صفوفها من بقايا النظام السابق وأزلامه المتلونين ومجاميع الانتهازيين والمتسلقين، قد اتفقت على إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل تولي البعث السلطة في العراق وتحديدا إلى إحصائيات عام 1957 م فيما يتعلق بالتركيبات السكانية للمدن، وخرائطها الإدارية وعائدية بلداتها وقراها إلى ما قبل عام 1968م، وقد حولت ذلك إلى مادة قانونية في قانون إدارة الدولة العراقية بعد السقوط مباشرة ومن ثم إلى مادة دستورية تحت رقم ( المادة 140 ) في الدستور الدائم.

إن ما يحدث اليوم منذ انكشاف عمليات المماطلة والتسويف في ماراثون ما يسمى بتطبيع الأوضاع في المناطق المتنازع عليها وما حدث في الثاني والعشرين من تموز 2008م حول موضوع كركوك والنيات المبيتة لذلك يدلل على إن الذين اخترقوا صفوف الحكم الجديد في العراق نجحوا في ركوب قطار يشبه ذلك الذي أقلهم في شباط عام 1963م بفارق الوسيلة والأسلوب وبذات العقلية والفكر، تارة تحت تسمية شروط المشاركة بالعملية السياسية وتارة أخرى في طروحات المس بالدستور وثوابته من خلال إعادة النظر في صلاحيات المركز وتكثيف السلطات فيه على حساب صلاحيات الأقاليم وما ينتج عن ذلك من إعادة الدكتاتورية القومية والمذهبية تحت قبة الديمقراطية بعيدا عن روح التوافق والمشاركة.

على القوى السياسية الأصيلة والمناضلة طوال أكثر من أربعين عاما ضد ذلك النهج العنصري والدكتاتوري أن تعيد النظر في تعاطيها مع هذه القوى التي اخترقت صفوفها تحت أي تسمية كانت والتي تعمل من خلالها على بث سمومها وإيديولوجيتها العنصرية في كل ما يتعلق بالحرية وحقوق الإنسان وثوابت العراق الجديد.

فليس هناك في تقدير أي منصف أو مراقب منطقة متنازع عليها في عراق ديمقراطي اتحادي تعددي لو أبعدت هذه القوى البعثية والعنصرية عن مراكز القرار من خلال تشريع قانون يحرم فكرها وسلوكها على غرار تحريم الفكر الشوفيني والفاشي في كل من المانيا وايطاليا، ولن تكون هناك أي معضلة لا في كركوك ولا في الموصل طالما يحكمنا دستور دائم اتفقنا عليه وآمنا به ونعمل بكل إخلاص وتفان من اجل تطبيقه خدمة للعراق ولشعبه دونما تأويل مشبوه أو تفسير مغرض.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com