|
الدين.. بين أن يكون عامل بناء أو هدم في المجتمع العراقي
محمد الموسوي/ باحث قانوني الدين بمعناه الواسع هو ما يشمل الأفكار والمعتقدات وطريقة التعبير عنها - بما يعبر عنه بالشعائر والطقوس التي يدين بها الفرد - أو بمعنى آخر يعتقد بأنه مطلوب منه العمل وفقا لمتطلبات هذه المعتقدات ويشعر بان ذلك هو ما يجعله متدينا أو صالحا كما يعتقد . وتتعدد مصادر هذه الأفكار والمعتقدات بحسب تباين التجربة البشرية فان كان المصدر السماء – وهو ما يقصد به الخالق تعالى – سمي الدين بالدين السماوي وان كان مصدرها العقل البشري ومجموع الخبرات الواقعية سمي بالدين غير السماوي وان كان النوعين يشتركان من حيث الأثر في الإلزام عند الفرد المعتقد ، وهو الأمر الذي لا يمكن إغفاله من الناحية الاجتماعية، على الأقل، فضلا عن النواحي الأخرى السياسية منها والاقتصادية أو غير ذلك ما هو مرتبط بمجمل الحياة على هذه الأرض باعتبار إن هذه المعتقدات ستكون المنطلقات النظرية بل والعملية للفرد وهي التي ستحدد سلوكه ومواقفه إضافة إلى أنها ستكون بالتأكيد مصدرا للقوانين التي سيسنها لتنظيم حياته والتي ستكون الإطار الذي سيتشكل المجتمع من خلاله كمقدمة ضرورية لتشكيل الهيئة التي تتولى تنظيم العلاقات فيه وهي الدولة التي سيعمل النظام السياسي الذي يتولى سلطة التنظيم تلك في ضوء ذلك ، ومن هنا تبدو أهمية فهم هذه المعتقدات وحسن التعامل العلمي معها لمن يريد مجتمعا يسوده السلم والتعايش ودولة تقوم على أسس متينة تؤهلها للاستمرار والتطور ونظاما سياسيا قادرا على تنفيذ برامجه ومتمتعا بالرضا والولاء والتفاعل الايجابي من جميع أعضاء المجتمع وهو ما قد يفسر تهالك المجتمعات وضعف الدول وانقلاب الأنظمة السياسية فيها إلى عصابات قمع للاستحواذ على السلطة والثروة بذات الوقت الذي يفسر انعدام المواطنة والسلم الأهلي وبالتالي شيوع الظلم بديلا عن العدل والتخلف بديلا عن التطور والإرهاب بديلا عن السلام والقمع مستأصلا للحرية و مفشيا للعبودية بين الناس بما انزل النقم واذهب النعم ونشر الفساد. كما تختلف هذه الأديان(معتقدات وشعائر) من حيث طبيعة الاتصال بالفرد تارة باختلاف المصدر وتارة بتباين المعرفة البشرية ،فهي من خلال المصدر تتصل الأديان السماوية بالبشر عن طريق الوحي والأنبياء وفي غير السماوية تكون من خلال صاحب التجربة ذاته سواء كان فردا أو مجموعة أفراد ، وهي كذلك مختلفة بسبب تباين المعرفة فمن يتلقى عن الأنبياء إنما يتلقى بعقله هو لا بعقل النبي وهكذا في النوع الآخر كما إن طريقة النقل ألمعلوماتي للعقل البشري تمتاز بالنقصان والنسيان وهو لاشك يؤثر على طبيعة هذه الأديان من جهة وطريقة التعبير عنها من جهة أخرى وهو ما يفسر عصمة الأنبياء التي تمنع حصول ذلك على الأقل في نقل الدين فضلا عن وجود الكتاب السماوي الذي لا تمتد يد التحريف إلى ذاته وان حصلت في نقله أو إعادة كتابته إضافة إلى دور الأوصياء في التوجيه والضبط دون أن يمنع ذلك من التأثر بالسبب الثاني من الاختلاف وهو تباين المعرفة البشرية في الفهم والنقل يزيد الأمر تعقيدا إذا ما كان التغيير أو التحريف منظما أو مقصودا لتحقيق مصلحة شخصية لأصحاب هذا النقل أو التحريف وتجدر الإشارة إلى أن ارتباط الدين بتنظيم الثروة و السلطة حمل عليه الويلات وعرّضه إلى تكالب الباحثين عنهما فعملوا ما عملوا ويعملون من تغيير وتزييف يحقق مصالحهم . من ذلك كله يتبين لنا أهمية الدين ليس فقط في بناء لا بل في وجود المجتمع أصلا وكذلك الدولة والقانون هذه الأهمية التي جنت على الدين نفسه فواقع التجربة البشرية يشير إلى تأثر الأديان بالاختلاف في التلقي والتكالب نحو السلطة والثروة الأمر الذي جعل من( الدين) وسيلة من وسائل التسلط وهو الأمر الذي دعا البعض إلى أن يهجر فكرة إن الدين محرك البشر إلى اعتباره أفيونا أو خطرا لابد من استبعاده وفصل الدولة والسياسة عنه بل وحتى إبعاد أسس بناء المجتمع عنه وهذا لا يعد إلا ردة فعل غير علمية كشفت التجربة الإنسانية قصر نظرها وفداحة الخسائر التي ألحقتها بالحياة الإنسانية عموما إذ أصبحت فكرة التنظيم تنطلق من الحاجة فقط دون النظر إلى الظروف والعوامل الأخرى وإذا ما علمنا دور الأنانية البشرية أدركنا مآل التنظيم الذي يعتمد عليها وهذا ما كشفت عنه نظريات الرأسمالية أو الاشتراكية من خلال النتائج التي ترتبت على إتباع أفكارها في المجتمعات والدول حيث وصلنا إلى مرحلة الاتحاد السوفيتي والأزمة المالية العالمية الحالية فضلا عن كون ذلك سببا في انتشار التطرف الديني بما يعرف بالإرهاب الدولي الذي كان من أهم أسبابه استبعاد الدين عن الواقع التنظيمي للأفراد مما جعل البعض ينتفض غاضبا ومتحولا إلى أداة هدم لكل ما بنته المجتمعات بحجة ابتعاد هذا البناء عن الدين مما احرق الأخضر واليابس –كما يقولون—دون أن نغفل العوامل الأخرى المنشئة لهذا الإرهاب أو التطرف الذي يتعلق بما قلناه سابقا عن تباين المعرفة أو اختلاف التجربة فقد يكون التطرف فهما خاطئا للدين السماوي أو نقلا ملغوما بالمصالح أو ردة فعل بشرية لفكرة غير سماوية تعكس عقدة صاحب الفكرة أصلا وهو ذات الأمر الذي يدعونا للتفكير مليا وبتأمل خال من الانحياز والتحزب إلى أن نبحث الآليات المنطقية للتعامل مع الأديان وفهم طبيعة تأثيرها بالفرد والمجتمع وبالتالي الدولة والنظام فلا يعتقد ذي عقل نافذ إن استبعاد الدين بالكلية أو تبعيضه يمكن أن يكون عاملا في التقدم وما تشهده المجتمعات من أزمات أخلاقية وتنظيمية دليلا حاضرا يشهد بذلك دون أن نغفل سبل الحوار البناء في التعامل مع الأفكار والمعتقدات بما يعطينا خيرها ويجنبنا شرها وهو ما يفسر قوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) ( ولو كنت فضا غليظا لانفضوا من حولك)(وجادلهم بالتي هي أحسن ) وهو سهل يسير ،ذلك انه(قد تبين الرشد من الغي ) كما بشرنا الخالق فلا سبيل إلا البحث العلمي عن الرشد ومحاولة إتباعه وتحديد الغي وتجنبه وهو أمر تنسجم معرفته مع الفطرة البشرية حيث لا يكلف الخالق بما لا يطاق مع الانتباه إلى حقيقة النفس حيث ألهمها فجورها الذي يتبع الغي وألهمها تقواها التي تتبع الرشد وصولا إلى زكاها لا دساها وهو ما يقودنا بالنتيجة إلى تحديد اخص لمفردة الدين باعتبار إن العقل لا يمكن أن يجوّز أي معتقد أو فكر لا ينسجم على الأقل مع الفطرة السليمة للبشر بحجة الحرية فستعود مثلا بريطانيا يوما لاستعادة الفطرة البشرية في منع المثليين الجنسيين من الزواج وهو أمر لابد حدوثه لمن يراقب فالديانات تقيد الفكر إلا بالحقيقة وتقيد التصرفات إلا بالصحيح وهو ما يجب أن يتحدد من خلاله مفهوم الدين وليكون الدين لله وبهذا تكون المناهج والشرائع التي تتخذ الدين أساسا فكريا لها هي المناهج أو الشرائع الجديرة وهو ما يفسر عدم وجود حادثة واحدة تصرف فيها النبي الأسعد محمد (ص ) بعنف مع أتباع الديانات الذين كانوا يعيشون في المنطقة الأولى التي بعثه الله لها بداية الأمر لتكون منطلقا للتبليغ وفق الأسس العقلية التي نص عليها الكتاب المقدس وهو ما يجعلنا أن ننظر بغرابة تارة لمن لا يعتقد بنبوته في تحميله شرور الآخرين وتارة لمن يقول بنبوته وتعرف الكراهية طريقا إلى قلبه وهو أمر لاشك مجل نظر. فالأديان تبحث عن الحقيقة وذلك يدعوا المتصدين لها أو من يسمون أنفسهم رجال الدين أن يعتمدوا المنهج العلمي في البحث والحوار لان ذلك هو ديدن الباحث عن الحقيقة أما التعصب أو النيل من الأخر الذي يخالفني المعتقد فهو بضاعة المفلس الجاهل كما يقر بذلك العلماء. وعلى أية حال وان كان أمر الأديان البحث عن الحقائق الصحيحة فإنها جميعا تدعوا إلى الخير والتضامن بين الناس والمحبة للآخرين كما تدعوا إلى أفضل سبل التنظيم فان كان الأمر كذلك وان كان العلم يقتضي التسليم بالحقائق فعلام التهميش بل الاقتتال بسبب الاختلاف وهو ما يجعلنا أن نقرر أن العنف بكل أشكاله في غير الدفاع عن النفس المحترمة وسيلة اما الجاهلين او العصابات التي تتخذ الدين غطاءا لتحقيق اجرامها وهذا ما ننزه منه الباحثين عن حقائق الخير التي تدعوا الاديان لها . وبعد هذه المقدمة أتوجه بالخطاب إلى مسلمي العراق ابتدءا ومنهم إلى بقية العراقيين من غير المسلمين فأقول إن الإسلام – كما نعتقد- دين الله وانه سبحانه انزل كتابه (القرءان) على نبينا محمد (ص) ليكون دستورا ورحمنا بان كان محفوظ بين الدفتين ولا يأتيه الباطل أبدا وهو كما يقول عنه الإمام علي بن أبي طالب ذلك القرءان فيه علم ما يأتي وهو ما يشير إلى الأصول العامة في الخطط المستقبلية وهي من قبيل العلم الذي يجب أن نتعلمه كما يقول وفيه خبر ما قبلكم ليكون عبرة لنا وهو ما يشير أيضا إلى أهمية الخبرات السابقة في التعلم ويقول وفيه حكم ما بينكم وهو ما يشير إلى منظومة القوانين التي تنظم حياتنا سواء من حيث القواعد الكلية أو بعض التفصيلات الضرورية كما يقول عنه في موضع آخر اعلموا إن هذا القرءان - واستخدام اسم الإشارة دليل لغوي للإشارة إلى قضية خارجية محددة ومشخصة مما يعني أن القرءان هو ما موجود بين أيدي المسلمين – الناصح الذي لا يغش والدليل الذي لا يضل والمحدّث الذي لا يكذب .. فهل هناك رحمة أوسع من هذا القرءان نستطيع من خلالها أن نحيا حياة ملؤها الخير والتنظيم ولكن كيف لنا أن نتخلص من نقص التلقي في العقول وكيف لنا أن نكتشف التزييف المقصود لأصحاب المصالح لا يمكننا ذلك إلا باعتماد المنهج العلمي من قبل المختصين وترك الجاهل لهذا الأمر هو خير عمل يقومون به لحفظ الدين وكرامة العباد وحرياتهم . إن فهما عميقا لغاية الخلق يدعونا جميعا أن نحترم الآخر بكل أشكاله وان نجعل الدليل والحجة والبرهان سبيلنا للحوار والجدال الحسن وهو الجدال بالأحسن وليس الحسن أما التنظيم فقد جعل الخالق ذلك من الأمور الواضحة الميسرة لنا فمن منا لا يعتقد بان الدولة التي تحقق حماية العباد والثروات هي الدولة التي نريد ومن منا ل يعتقد بان الناس شركاء في خيرات الأرض بالتساوي من حيث المصدر وبالعمل والجهد من حيث التلقي والاستئثار ومن منا لا يعرف إن الإنسان وحريته المقيدة بالخير والحب هي الغاية التي يجب أن نعمل من اجلها ومن منا نحن المسلمين الذين نشهد بان لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله لا يعرف إن الله يأمرنا بان نتعامل بالحسنى مع الجميع بغض النظر عن أديانهم فما بالك بالمذهب في الدين الواحد وان كان ذلك كذلك فما الذي يجعلنا متناحرين غير مصالحنا الشخصية الأنانية التي يكون الدين لا بل المذهب بريء منها ما الذي يقوله الذي قتل الشيعة والسنة من المسلمين أو هجرهم أو قتل أو هجّر المسيحيين أو غيرهم من العراقيين لربه غدا عند اللقاء ما هي الإجابة التي اختزنها ليوم السؤال ونحن جميعا نعلم إن من قتل نفسا كأنما قتل الناس جميعا وان الله تعالى يتوقف عند حقوق العباد وهي العقبة وما إدراك ما العقبة وكيف نبرر تولينا لأي مهمة في الدولة والمجتمع ونحن نعلم ما قاله النبي الأكرم بشان التصدي من خلال الكفاءة فهل يكون الدين بعد ذلك سببا لتعايشنا أم لتناحرنا وماذا نقول للذي يعتمد الدين شعارا ويعمل على تفتيت المجتمع وجعل الدولة مركزا للتعسف والظلم . إن الوسيلة الحقيقية لبناء العراق هي أن يقرر الجميع أن يبني العراق من خلال المبادئ الإنسانية العامة التي تقرر أن الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق كما قال الإمام علي بن أبي طالب فالأخوة الإنسانية أفضل مشترك يبني المجتمعات والدول وان العدل أساس الملك والظلم سبب لزوال كل خير أما الاختلافات بيننا فالحوار الذي يعتمد الأسس المنطقية التي اشرنا إليها هو السبيل الوحيد لبيان الحقائق إن كنا نرمي الوصول إليها أما إذا كان ذلك لمجرد إثبات المصلحة فلا شيء يدفع الآخر للقبول بمصلحة الآخر على حساب مصلحته خصوصا إذا تعلق الأمر بالعقائد والأفكار وهذا يشكل دعوة للمتصدين للجانب الديني أن يعملوا من خلال مدارسهم الدينية إلى وضع الاختلاف على طاولة البحث العلمي الذي يعتمد الفقه المقارن وان لا يتقوقعوا في أفكارهم ومذاهبهم فقط الأمر الذي يجعل من المدارس الدينية مكانا لتفريخ الإرهاب والكراهية والتخلف وهذا ما يجعل الدين عامل هدم في المجتمع لا بناء وليعلم الجميع إن اعتبار الآخر باطل وكافر لا يمكن معه العيش سويا وعلينا جميعا أن نعي إن المجتمع السليم هو المجتمع الذي يحترم أهله جميعا ويحاورهم بالحسنى جميعا ويعطيهم حقوقهم من السلطة والثروة جميعا بحسب استحقاقات العدل والإنصاف وان المواطنة التي تعني الولاء للمجتمع الذي نعيش فيه وحبه والصدق في العمل من اجل بنائه لا يتم إلا إذا تأكد الناس جميعا من العدل وليكن احتلال العراق وما جرى بين الناس عبرة لمن يعتبر من العاقلين وان حسابات القوة والبطش متغيرة وان الله جعل الأيام دول بين الناس وان كل من عليها فان ويبقى وجه ربنا ذو الجلال والإكرام فهل سنختار أن يكون الدين عامل بناء إذا ما عملنا على بناء المجتمع العراقي على احترام العراقي لعراقيته وإعطائه حقه الذي يستأهله وأننا جميعا نعيش في هذه الدنيا لنعبد الله بالعمل الصالح والعلم النافع والتعامل المتسامح الصحيح أم يكون عامل هدم إذا ما بنينا صروحا للتكفير والكراهية والتمييز والسعي للحصول على السلطة والثروة بشتى الوسائل ومنها غطاء الدين فكيف لشيعي أن يؤمن بأحقية السني الذي يظلمه ويحاول قتله وكيف للسني ذلك إذا عمل الشيعي ذات العمل فضلا عن المسيحي والصابئة وغيرهم من ورود العراق وهل سيصل المسلمين إلى مرحلة إقناع الأديان الأخرى جميعا بان الدين عند الله الإسلام من خلال القدوة الحسنة والعمل الذي يرضي خالقهم جميعا وإلا كيف لنا الآن أن نقنع الناس بديننا ونحن بيننا متقاتلين ولهم قاتلين أو مهجرين ولحقوقهم وحقوقنا سارقين وبإدارة شؤوننا وشؤونهم مفسدين. إن معرفتنا بان الله خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا يلغي النظرة الاستئصالية التي يدعوا لها المنافقين وان التعارف هذا يقتضي الحوار واعتماد العلم والعمل منهجا في التعامل البشري لا الكراهية والتسلط وان تمايز الناس بقدر التقوى والتقوى أن يعبد الله حق عبادته ومن أهم مظاهر خير العبادة تلك حفظ عباده من كل شر وتقديم كل خير لهم فهل نحن لذلك عاملون...؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |