الروائي العراقي صبري هاشم يحلق بعيداً إلى كبد السماء

 

عصام الياسري

 yasiri4kultur@hotmail.com

عن دار كنعان الدمشقية صدرت مؤخراً رواية "هوركي أرض آشور" للشاعر والروائي العراقي البصري صبري هاشم. وللكاتب صدرت مجموعة مؤلفات متميّزة في الشعر والقصة والرواية التي يصلح بعضها ومنها هذه الرواية لعمل سينمائي درامي إذا ما كان للمخرج فلسفة فنية قادرة على نقل المشهد السردي للأحداث بجزئياته في حاضر المكان الذي مازال قائماً، يتوهج في عمق الزمان ومفاصله. زمن شاءت الأيديولوجيا أن يكون مليئاً بأحداث ستبقى عالقة بالأذهان، ولا يزال يسجل من جديد ما لا يتقبله العقل وكأن الذاكرة أغفلت ما حدث بالأمس وإلى الأبد.

 إنها رواية العشق الوطني المجنون.. رواية للوفاء وهي أيضاً رواية سياسية بامتياز، بذل الكاتب جهداً كبيراً لتقريب المسافة بينه وبين أبطاله، سهيل وهاني، ليتقاسما الأدوار على نحو رومانسي.. امتطى الكاتب صهوته الشعرية بعيداً عن السرد "الوثائقي" فارتقى أسلوبه الشعري / النثري لينسجم مع محيط الأحداث، يناغم وقائعها التاريخية بألم ومرارة خلدتها مشاق النفاق السياسي ووهج الحنين لأيام الشباب حيث الحب والعشق الإنساني يطفو فوق عراء الظلمة الأزلية:

وسهيل في غفلة منا صار شيوعياً. تأدلج خلسة حتى تورمت ثناياه، وتحت سطوة تأثير سهيل الذي كان أنا وكنت هو تعلمت الماركسية فصارت ليّ قضية.

وفي مكان آخر: ظل البصريون كغيرهم، تتداعى أمامهم حصون وقلاع أحزاب عريقة ما كان ينبغي لها أن تفقد توازنها فتختل عندئذ موازين البلاد. إنه زمن لصعود نجم أسود في سماء العراق. فيما راح الشيوعيون يصنعون مجداً من أوهام على هامش هذا الزمن، فيدفعون برقاب المناضلين إلى مقصلة النظام.. يدفعونهم إلى الموت في السجون والشوارع والساحات. آلاف من الشباب والرجال والنساء، ردح السياسيون المؤدلجون على جماجمهم وأجسادهم، في زمن العهر السياسي كي يصنعوا مجداً مؤثلاً لقيادات خائنة لمبادئها قبل كل شيء.

جاء وصف صبري للأحداث وصفاً دقيقاً جعل من الأزمنة مركبة تختلس مروج الأمكنة، دافئة على همس خلجات كستها ذاكرته المتقدة دوماً ومخيلته المبدعة بلا حدود. الأيدلوجيا صنعت الحدث ولم تتمهل في كشف الحقائق وقلبها على خنادق المتصهرجين فيها لقمع الضعفاء المؤمنين بقضيتهم مهما طال الزمن وانتكس الفكر. وبسبب الأيدلوجيا رحلت الأرواح بعيداً عن أهلها. هناك عانق بعضها عالم الأموات أو كاد.. ماذا كان يخبأ القدر من حمل ثقيل، يرفعه أولئك الساذجون الطيبون، غير وهم وفقاعات وفرقعات كاذبة، صرخ بوجهها ممتعضاً جنين ما زال في رحم أمه مرفوعاً ينتظر النور فوق قمم الجبال المكسوة بالثلوج، ساعة سقوط الرصاص والمطر.. والأم يتصبب من على وجنتيها العرق في حلكة الإعصار وشدة البرد، فيما الأمل يوشم روح الأب فيقف مخاطباً:

هنا في هذه العزلة القاتلة سوف نقيم في القمة الجرداء، وستضعين حملك الأول إذاً. لا تخافي يا عزيزتي فمن أجلك ستحضر للصلاة الملائكة.

لأجل ولدٍ يمسح عن وجه الصبح حبيبات المطر الحزين. ففوق أعلى قمة في هوركي لم تتمخض من قبلك امرأة ولن تتمخض من بعدك امرأة.

ورواية "هوركي أرض آشور" رغم مرور زمن بعيد على أحداثها التي يجهلها الكثير من العراقيين وتدور رحاها في مرحلة كان فيها الصراع آنذاك ولايزال محتدماً لأجل السلطة والمكاسب الحزبية والفئوية بطرق انتهازية لا تخلو من النفاق والتآمر والمساومات. ولأجل الامتيازات بلغ الأمر حد الخيانة وتشويه الحقائق وإنكار حق الأعضاء وإذلالهم داخل الحزب الواحد، الأمر الذي نتج عنه استشهاد الكثير من المنتسبين اللذين أرسلوا إلى أقاصي البلاد لمحاربة السلطة باسم الحزب لا باسم الوطن، فيما بقي مصير البعض منهم مجهولاً والبعض الآخر لازال يعاني من تلك الحقبة السوداء التي لعب فيها الطرفان، السلطة ونقيضها، دوراً فوضوياً سيئاً.!

 في ملكات روايته المتميزة، حلّق الكاتب صبري هاشم فوق أعلى قمة من قمم البناء الفني ، حين نقل لنا الأحداث بلغة شعرية زاهية ثرية الوصف والتأمل. وهو على الرغم من ذلك قد أعطاها، سواءً يدري أم لا يدري، بعداً فنياً متألقا، ألقى بظلاله على الجوانب الإنسانية والتاريخية درامياً. إنه أقترب كثيراً مما راح إليه الشاعر الجيكي "جيري تاوفر" في الأربعينات من باب المقارنة:

إن ماكنة جهنمية تحوم حول أرضنا

ترعب المدينة التي تدور فيها الحياة وكأنها بيت نحل،

وترعب القرية والحقول المحروثة،

وتخيف أشجار الغاب.

فيما يقول صبري في مطلع روايته:

ونحن نحو برج في السماء نصعد هلعاً، يزفنا الموت ونيران الكتائب،

في القمة قرية أخبرونا عنها قبل أن نأتيها،

قالوا:

هي هوركي التي تقصدون.

إليها حين عصفت بنا العواصف أخذنا الرصاص والمطر،

هي قرية كالبيت وبيت كالقرية،

هي بيت شُيد من كومة أحجار، أمَّها النحس قبل أن يدرك أهلها الهلاك.!

هكذا صعد صبري يغترف نثره من أعالي الفرات وبقايا آشور، ملاذ العابرين، ومن هم هؤلاء العابرون في قضمة التيه المطلق إلى ما لا نهاية؟ هم أبناء المنفى الأبدي في أرض آشور المنكسرة أمام الغزاة، تطحنها جزم وأساطيل العبودية.. في مقاربة تاريخية بين نصين فصل الزمن بينهما أكثر من نصف قرن، أدرك الكاتبان مدى الشر الذي ينتظر مصير أوطانهم. المطر عند صبري والأرض المحروثة عند تاوفر يجسدان "الخير" الذي لابد في النهاية أن ينتصر. إنه رهان في زمن احتدمت فيه المفاجئات بما لا يتصوره العقل السوي.

إن هروب المخيلة لتصوير أحداث تبدو غريبة عن الواقع لكنها في الحقيقة واقع أغرب من الخيال .. واقع بمخيلة مجنحة، طبع الرواية بكثير من المصداقية ومنحها الأولوية للدراسة فيما لو أراد دارس ما تناول هكذا نوع من الروايات.. ويبدو أن الكاتب أراد أن يجعل بطليه، سهيل و هاني، يتبادلان الأدوار في استعراض الأحداث من مواقع تبدو بعيدة أحياناً، يقود إليها فضول التعرف على أحوال الآخر في تيه المجهول، وأحيانا أخرى قريبة يشتد فيها دفء الحديث بينهما. تارة تتوارد الخواطر والأفكار وتارة يعلو السجال ثم يرقد ليغفو على الذكريات الخوالي. وسهيل كما أعتقد من خلال قراءتي للرواية بإمعان، هو البطل الحقيقي الذي تقمص شخصية الكاتب على نحو "مجازي" فيما تقمص الكاتب دور بطله سهيل بموهبة استحضر فيها كل أدوات صنع الرواية التي خلدت شخصيته ذاتها.

 

ولم يفكر الكاتب على الرغم من بلوغ روايته المستوى السياسي في كل فصل من فصولها في الانجرار وراء التبريرات والتساؤلات أو الاحتمالات، إنما بحث بطريقة جديدة، ولا أقول نمطاً تجريبياً جديداً، عن أطياف لاكتشاف لغة مشتركة بين "النص والصدى" يتناغم فيها النثر مع الشعر المسرود وتطرح فيها وجهات النظر الأيديولوجية بشكل رمزي لتتفاعل بالمطلق مع ظواهر التحدي من موقع الحدث.  

 

انتزع الشاعر العراقي صبري هاشم في روايته الحديثة "هوركي أرض آشور" كلماتها من جذور قاموس اللغة العربية بطريقة رائعة تستريح "المحاكاة" كأسفار تعبيرية على النص النثري بشكل منسجم وجذاب، يتناسب نمطياً مع بعضه البعض. وهو بهذا لم يبتكر طريقة جديدة في أسلوب كتابة الرواية في أدبنا العربي المعاصر وحسب، إنما استحدث أسلوباً جديداً في طريقة السرد بلسان آخر تعودنا عليه في لغة كليلة ودمنه أو أسفار كلكامش. إن الجمع والتوليف بين الفكرة والسرد "النص والصدى" اللذان أستعملهما الكاتب كأبجديات نادرة من نوعها، هما طيب الرواية واكتمال نصابها من حيث بدأت إلى حيث انتهت "النص" البطل الغائب الحاضر و "الصدى" البطل الشاهد الآخر على الأحداث. كلاهما يحثو الثرى في كل الاتجاهات، يغور في عقم الزمان يبحث عن فرائده ومرارته في حدود بلد كان ولا زال مستباحاً.. ضاع فيه الأمل وعصفت الرياح بأرجوان غزله وعشقه. إنها محاولة ثرية باتجاه انتقاء أجمل وأدق النصوص السردية:

أه لو كنت تطيرين .. وعلى جنحي تسافرين

لعبدتك يا حبيبتي ولسوف تشمخين مثل آلهة تشمخين،

إليك أطير.. إليّ تطيرين. أشتهيك.

وطناً نلوذ به أشتهيك.

في نص متقارب خاطب نيرودا حبيبته ماتيلدا في قصيدة " نهاية " يستميلها رغبته في أن تطير لترى من الأعالي جمال بلاده:

يداك الطائرتان في الضوء،

مع ضوئي أنا،

فوق بلادي.

كان جميلاً أن نعيش،

حيثما تعيشين!

 قادنا الكاتب في أكثر من موقع إلى نصوص تغمر الفؤاد تساؤلاً وحزناً وتأملاً، وأوقعنا في أكثر من مرة في حبائل الفضول لمعرفة الحدث قبل أن يفاجئنا به ونضيع في غمرة الدهشة:

هنا يا حبيبتي في خيالنا..ننزف العشق ونستبيح الكلام. وهنا إلى أعماقك يا نائلتي أغوص ومن عرض صحرائك أشدّ الرحال. أجوب أدغال الكون وإليك أعود.. فيما البصرة تصرخ بملء شدقيها رعباً. ولهدير لوعة البحر تفتح فخذيها.. أه كم هو مكلف يا بصرة اللعب!

وفي موقع آخر يغوص "النص" في أعماقنا ينادي: افتحوا يا أنتم. أيها النائمون افتحوا لوليد قادم. قل لي من سيفتح لك في هذا القفر؟ من سينتظر كراية غيري؟ أنا الوحيد الخفاق في هذا العراء ونائلة بك سترمي بعد حين وتتعب. هي مجهدة وهوركي لا تمنح للمتعبين رحمة. هوركي عاصمة الجبل المخبول الذي نسكن قمته وينثر على رؤوسنا الرصاص والمطر.. هنا هدنا الترحال فوقفنا نستريح، أنا ونائلة ننتظرك.

   هناك على مشارف الزمان بعيداً، لازال هاني ينتظر حبيبته "أروى" التي اختفت فجأة في ليلة بنفسجية غراء ولم تعد. لا يعلم إلى أين ذهبت، هل ماتت؟ أم تم اختطافها وفي أحد السجون تم تغييبها؟ ظل مهووساً، يحلم، يتألم شوقاً إليها وإلى أبويه اللذين فقدهما في ظروف غير سائدة :

كانت أروى كوكباً يشع في سماء الصالة الواسعة.. سيدة الهديل التي لم يكف عن الغناء والرقص، هي موجة جذلى تدغدغ روح الحفلة حين تتغنج.

أروى لهذه الليلة خلقت وما بعدها لا تدري. شربت، ارتوت، غنت، رقصت ثم شعرت ضيقاً.

قالت: أريد أن أشم الهواء.

خرجت إلى الحديقة الغناء تستنشق هواء نظيفاً، نقياً. خرجت لتعود. انتظرتها ساعة ومعي الحفل ينتظر لكن أروى لم تعد. أطلقنا أصواتنا، خرجنا إلى الشارع وأطلقنا لأقدامنا العنان في البصرة بأكملها بحثاً.. لا أثر لأروى. أروى سرقتها الريح. أروى ابتلعها الهواء.

أه يا أروى يا رئة العشق وأمل الصبايا.. يا طيب الأرض ودفء المنام وعذوبة الملتقى. 

 وعلى الرغم من جمالية اللغة التي أستعملها الكاتب، ألا أن الرواية بالغة التركيب، "فالنص والصدى" وهما سهيل وهاني، اللذان يتكلم كل منهما في سرد الأحداث والتأمل بلسان الآخر تارة، والضمير المستتر تارة أخرى. لكن هذا لا يدفع إلا باتجاه إمكانية تفكيك الرواية وتحويلها إلى نص "سيناريو" يصلح لعمل سينمائي أو مسرحي، كما أضفى عليها نوعاً من الخصوصية التعبيرية.

لم يستطع الكاتب صبري هاشم في روايته "هوركي أرض آشور" التي طرق فيها كل فن من فنون الكتابة، رمي أحداث أكثر من ربع قرن خلف ظهره، لمعرفته وإصراره على أنها نالت من الفكر والمجتمع مثلما نالت من الإنسان وحقه في الحياة كما يريد، كأن بهذه الرواية كما في رواياته السابقة كان يريد أن يقول بأن قلمه، زاده المقدس ومناط سعادته، لا يساوم على قضية ولا يقبل إلا أن يكون فَرداً يناضل لأجل الوطن.

 يحضرني هذا الموقف القائم على مبحث أدبي وفكري في نص روائي، يرصد الأزمنة وينتقي منها خبزه لمواجهة الحصار الثقافي والسياسي، ضرورة الحياة. يتحرى في عمق المحنة وهجرة العقول، قول الفيلسوف الصيني " Hú Shi هوو شي" في معرض نقده للأوضاع التي كانت تمر بها بلاده في فترة حكم شان كاي شيك والاحتلال الياباني، والذي عانى منهما بقسوة: أرادوا إجباري أن أبيع ما أملك، لكنني لا أملك سوى قلمي وهو ليس قابلاً للمساومة أو البيع.. ولا تخلو الرواية في مجملها، من مفارقات وأحداث تجهش وفي اتعس صور تتجلى:

ففي هذا الوحل القاتل الذي أسمه هوركي أخذنا الغمر. ندور حول الغمر.. ندور وعنه نبتعد كلما لانت حافاته وانهارت ثم اتسعت دائرته. ندور ونبتعد ولا ندري أننا نغترب.. وسقطت من يدي جميع الحيل إلا إصراري على إنقاذ نائلة والوليد القادم.. وهوركي حينئذ زمن مغلق.. مكان كحلقة فولاذ عظيمة. كتلة هائلة من رماد.. قمم تتناسل عن قمم.. استراحة الخائفين، ملجأ الهاربين والعابرين.. ستأتي إذن أيها الولد الجميل.. الآن.. بعد ساعة.. بعد ساعتين.. لكنك في كل الأحوال تأتى وهذه المرة لن تتأخر.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com