|
ها قد تم تمرير الاتفاقية الأمنية العراقية ـ الأمريكية التي سماها البعض اتفاقية انسحاب القوات ، ونعتها البعض الآخر باتفاقية انتداب جديد على العراق، حكوميا وبرلمانياً، فماذا بعد؟ المعادلة الإستراتيجية التي تحكم مصير العراق مكونة من طرفين، خارجي وداخلي . الطرف الخارجي منها تشغله الدول الإقليمية والعالمية، والطرف الداخلي تشغله القوى السياسية العراقية وامتداداتها المجتمعية العرقية والقومية والطائفية والدينية . هل العراق مهدد حقاً من قبل دول الجوار الإقليمي؟ أم أن التهديد يأتيه من الداخل، ومن مكوناته ذاتها؟ فجميع المكونات وقواها السياسية ـ مع استثناءات نادرة بالطبع ـ تسعى لتحقيق مكاسب ذاتية ضيقة وأنانية لاعلاقة لها بمصير الوطن ولاتستطيع نسيان أحقاد الماضي وانعدام الثقة بينها. فلو أخذنا دول الجوار كل على حدة لوجدنا أن تركيا لاتنوي غزو العراق أو مهاجمته رغم تمسكها بقميص عثمان المتمثل بقضية التركمان ومصير كركوك والتزامها بحمايتهما مما يضعها في مواجهة مع الأكراد سواء في العراق أو في تركيا ذاتها. الأردن والكويت أعجز من أن يخططان لعمليات عسكرية تهدف لغزو العراق أما السعودية فلا تريد أن تدخل نزاعاً مذهبيا صريحاً وبصيغته العسكرية خوفاً من إثارة واستفزاز الأقلية الشيعية المقيمة داخل أراضيها وردة فعل إيران المتربصة بتحركاتها. الوضع في سوريا لايقل حرجاً، فالتدخل العسكري في شؤون العراق يتطلب جبهة داخلية متماسكة واقتصاد قوي وجاهزية عسكرية وتسليحية عالية وكل ذلك تفتقده سوريا اليوم فهي تعاني من حصار ومقاطعة دوليين رغم التحسن الملحوظ مؤخراً في هذا المجال من جانب بعض الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا، واقتصادها فيه الكثير من مكامن الخلل والعجز، والمجتمع السوري يعاني من التضخم والغلاء وانهيار القدرة الشرائية واختفاء الطبقة الوسطى بالتدريج، فضلاً عن تربص إسرائيل بها، فبمجرد تحريكها لقواتها العسكرية نحو العراق سوف تفتقد للغطاء العسكري اللازم لحمايتها من أي اجتياح إسرائيلي لها يمكن أن ينهي النظام فيها خلال ساعات، فهي والحال هذه غير قادرة على التدخل العسكري أو تشكيل خطر مباشر على العراق. الدولة الوحيدة القادرة على اكتساح العراق عسكريا في حالة حدوث فراغ سياسي وعسكري وأمني فيه لاسمح الله هي إيران لكن ذلك سوف يضعها في مواجهة مع العالم العربي برمته ، وعدد كبير من دول العالم الإسلامي السنية وهذا ما لاترغب به طهران قطعاً. هذا لايعني أن تلك الدول لاتتدخل في الشأن العراقي الداخلي وتقوم بتخريب البنية الاجتماعية فيه لكن تدخلها لايرقى إلى خطر الاحتلال والتدخل العسكري المباشر. هناك بالطبع الأطماع الدولية في العراق وثرواته الطبيعية وعلى رأسها النفط، لكن روسيا والصين والاتحاد الأوروبي واليابان والهند وغيرها من الدول لم تبد أية رغبة في غزو العراق واحتلاله ولم يبق سوى الولايات المتحدة من يمتلك نزعة ورغبة في الاحتلال والهيمنة بشكل أو بآخر ، سواء أكان ذلك عن طريق الاحتلال المباشر وإدامته أو عن طريق تكبيل العراق بالاتفاقيات والمعاهدات الطويلة الأمد ، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً لضمان الهيمنة والتحكم بمقدرات وإرادة هذا البلد الجريح. الخطر الأكبر إذن هو في الطرف الآخر من المعادلة الإستراتيجية أي من داخل العراق . فبعد سلخ العراق من الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن المنصرم تأجج من جديد الصراع والتنافس التاريخي بين أهم مكونين مذهبيين في العراق وأعني بذلك السنة والشيعة عرباً وأكراداً ـ حيث هناك عرب سنة وعرب شيعة وكذلك أكراد سنة وأكراد شيعة ـ فكان أن لعبت بريطانيا العظمى ، القوة الاستعمارية الأعظم في ذلك الوقت، على هذا الانقسام لتحكم قبضتها على العراق بعد احتلاله وتطبيق مقولة فرق تسد، فتبنت الطائفة السنية وقربتها لتسلمها مقاليد الحكم في العراق وقامت بتهميش الطائفة الشيعية في أعقاب ثورة العشرين . وبقي هذا الوضع على حاله طيلة ثمانية عقود إلى مطلع القرن الحادي والعشرين وسقوط نظام الطاغية صدام سنة 2003 ، حيث أعيد الاعتبار إلى الطائفة الشيعية التي أراد الأمريكيون أن تكون حليفة لهم إلى جانب الحليف القديم أي الأكراد. عندها شعر سنة العراق بالتهميش وفقدان الامتيازات التي كانت لديهم خلال ثمانين عاماً فانبثق من جديد شبح الصراع والتنافس الطائفي من جديد كالوباء وصار أمثال القرضاوي والملك عبد الله الثاني والرئيس مبارك وغيرهم يصبون الزيت على النار بالتلويح بالخطر الشيعي القادم على العالم السني. انطلقت من مدينة سامراء بوادر حرب أهلية – طائفية مدمرة وانفتح جرح لم يندمل منذ قرون وكاد أن يغرق العراق ببحر من الدماء في أعقاب تفجير مرقدي الإمامين العسكريين على يد أتباع تنظيم القاعدة الإرهابي السني السلفي . حيث صار يذبح كل فرد من أبناء الطائفتين يقع بين أيدي المسلحين من الطائفة الأخرى لا لشيء إلا لأنه يحمل اسم عمر أو عثمان، علي، أو حسين.. وتساءل المراقبون لهذا المشهد الدامي إلى متى يعود تاريخ هذا الحقد الدفين بين الطائفتين ؟ ولماذا يتقاتل أبناء محمد فيما بينهم؟ ولو عاد نبي الإسلام إلى الحياة هل سيصبح سنياً أم شيعياً؟ ولماذا يدفع أبناء الإسلام الأبرياء ضريبة الدم هذه ولمصلحة من؟ خاصة وأن هذا الأمر لايقتصر على العراق بل يوجد مثيلاً له في كل مكان يتواجد فيه شيعة وسنة في لبنان والباكستان وأفغانستان والهند ولبنان ومصر والسعودية والبحرين والكويت وسوريا واليمن ودول الخليج الخ .. ولكن بدرجات متفاوتة. وجهت أصابع الاتهام لهذا الصراع المذهبي الدامي إلى التنافس والتناحر الشديد بين قطبي الإسلام المعاصر وهما إيران والعربية السعودية وكيف يقوم الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة السابق في واشنطن بتمويل الجماعات السنية المسلحة لمواجهة المد الشيعي، ومسؤولية الأيديولوجية الوهابية المتشددة والمتعصبة في تأجيج الصراع منذ عقود طويلة وهناك أمثلة وأدلة كثيرة على ذلك في العراق ولبنان وسورية والباكستان وأفغانستان وهناك الكثير من الأمثلة والأرقام والإحصائيات والقرائن والشواهد الحية المعاصرة والتاريخية. إلى متى يعود عهد هذه القطيعة؟ هناك بالفعل قطيعة شبه نهائية قد حصلت في جسم العالم الإسلامي منذ بدايات الرسالة. و بالتحديد تاريخ لاينساه المسلمون ويصادف في يوم من أيام شهر حزيران سنة 632 ويقال أنه يوم الاثنين بينما يقول بعض الشيعة أنه يوم خميس وسمي بيوم الرزية. في ذلك اليوم اندلع الانشقاق والاختلاف عندما كان نبي الإسلام ومؤسس الرسالة وقائد الأمة يحتضر على فراش الموت في غرفة زوجته الشابة والمفضلة عائشة بنت أبي بكر الصديق، حسب رواية المؤرخ الإسلامي الطبري، الذي استندت إليه أغلب الكتابات التاريخية عن تلك الحقبة. وكانت شرارة السباق على الخلافة قد انطلقت بعنف وقوة وسط أجواء مشحونة وتوتر ينطوي على استعداد لحسم الموقف بقوة السلاح كما يلخصها الطبري في كتابه " تاريخ الطبري "، في الجزء الثالث منه الذي كان بعنوان " محمد خاتم الأنبياء" المترجم إلى اللغة الفرنسية من قبل هيرمان زوتنبيرغ والمنشور سنة 1989. وكان مؤلف السيرة الطبري قد كتب كتابه بعد مضي قرنين على ذلك الحدث أي وفاة الرسول. وحاول المؤرخ أن ينتزع من هنا وهناك نتفاً من الحقيقة الضائعة عن بداية هذا الدين السماوي التوحيدي الثالث وتسليط الضوء على اللحظات الأولى للمواجهة العنيف بين أتباع هذه الطائفة أو تلك للحصول على الخلافة. وحتى لحظة الوفاة وأثناءها وبعدها كان الجو ينذر بالخطر وقد بقي جثمان الرسول مسجى بعد الوفاة بثلاثة أيام قبل دفنه وهو أمر غريب في عرف ذلك الزمن وفي مناخ شديد الحرارة تتفسخ فيه الجثث بسرعة لذلك تدفن جثث الموتى في نفس يوم الوفاة. والسبب هو أن الجميع كان منشغلاً بأمر الخلافة عدا الإمام علي ابن أبي طالب ، صهر النبي وابن عمه، الذي كان يهتم بأمور التغسيل والتكفين والدفن وطقوس الصلاة على الميت بينما تتواجه القبائل والزعامات والشخصيات الطموحة، من أنصار ومهاجرين، في المدينة التي فقدت وحدتها وتآخيها وأخلاقها وقيمها التي أرساها مؤسس الإسلام، وحدد فيها كل شيء تقريباً ، من حقوق وواجبات على كل مسلم ومسلمة، ماعدا مسألة الخلافة كما يدعي جزء كبير من المسلمين الذين يعرفون اليوم بأبناء السنة والجماعة. بينما يؤكد خصومهم ومنافسيهم المعروفين اليوم بالشيعة أن النبي لم يرحل عن الحياة قبل حسم هذا الأمر الشديد الأهمية، وإنه اختار علياً وصياً وخليفة له لاسيما في خطبة الوداع في غدير خم لهداية أتباعه والمؤمنين برسالته . وهكذا برز مفهومان للإسلام واحد يقف إلى جوار الفقراء والضعفاء والآخر مع الأغنياء الارستقراطيين والأقوياء. الأول قريب من الموت وزاهد في الدنيا ولا يسعى إلى السلطة بأي ثمن، والثاني يقف على نقيضه تماماً. كانت سلطة الخلافة الأولى براغماتية واستفرادية أو إقصائية تحابي بعض الصحابة وتهمل البعض الآخر، وكانت دنيوية بحتة التف حولها القادة العسكريون وقادة الفتوحات والأغنياء من الصحابة وابتعد عنها المستضعفون والمثاليون من أمثال أبو ذر الغفاري وعمار ابن ياسر وسلمان الفارسي والمقداد وغيرهم. ولايجب أن ننسى أهمية فاطمة الزهراء ومكانتها عند النبي ودورها قبل وبعد وفاة النبي حيث توفيت بدورها بعد الرسول بستة أشهر ودفنت سراً بناءاً على طلبها حتى لايشارك في تشييعها ودفنها باقي الصحابة حيث ماتت وهي غاضبة على أبي بكر. توجد مصادر ومعلومات وكتب كثيرة تحدثت عن حقبة الخلافة الراشدة الأولى والثانية في عهدي أبي بكر وعمر ورويت تفاصيل وملابسات حكم عثمان ابن عفان ومسرحية انتخابه المتقنة الصنع والإعداد التي ما كان يمكن إلا أن تؤدي إلى انتخابه هو على حساب منافسه علي ابن أب طالب ، ووقائع الفتنة الكبرى حيث كانت السلطة بيد التيار الموالي للخلفاء الثلاثة الأوائل قبل أن تطبق عليهم تسمية أهل السنة، واستفراد معاوية بحكم الشام كأنه ملك من ملوك الروم، وجلد أبو ذر الغفاري ونفيه من قبل الخليفة عثمان إبن عفان ووفاته وحيداً وهو الصحابي الجليل الذي يحبه النبي ويقربه إليه باعتباره أحد أصدق الصحابة. ولكن بعد مقتل الخليفة الرابع عثمان آلت الخلافة بالإجماع لأول وهلة للإمام علي سنة 656 ، ولكن سرعان ما تمرد عليه عدد من الصحابة لاسيما الأثرياء منهم كسعد إبن أبي وقاص والطامعين بالخلافة إلى جانب زوجة الرسول عائشة بنت أبو بكر التي تكره علياً منذ فترة حادثة الأفك التي اتهمت فيها عائشة بالزنا ولكن بدون دليل إلى أن ثبتت براءتها بآية قرآنية وكان علي قد اقترح على النبي محمد تطليقها فلم تغفر له ذلك. فكانت أول من خرج على خلافة الإمام علي عسكريا بجيش جرار وخاضت معركة دامية سميت بمعركة الجمل في البصرة في العراق اليوم، لأنها كانت تركب جملاً وتشجع المقاتلين على محاربة جيش الإمام العلي الذي يوجد من بين قادته أخوها محمد ابن أبي بكر.. وكان معها صحابة كبار من العشرة المبشرين بالجنة كطلحة والزبير اللذين قتلا في المعركة. ثم تمرد معاوية ابن أبي سفيان على خلافة علي وخاض ضده معركة صفين التي كاد أن يخسرها لولا لجوئه لخدعة رفع المصاحف على أسنة الرماح واقتراح خدعة التحكيم. ثم تمرد جزء من جيش الأمام عليه لقبوله بالتحكيم رغم شرعية حكمه وخلافته وسموا بالخوارج الذين حاربوا الإمام علي في معركة النهروان وتمكن أحدهم من اغتيال الخليفة الراشدي الرابع سنة 661 وهو الخارجي عبد الرحمن إبن ملجم، فانتهى عهد الخلافة الراشدة وبدأ عهد الحكم الملكي الوراثي الذي أرسى دعائمه معاوية ابن أبي سفيان في الشام وكانت بداية العصر الأموي الذي دام قرناً كاملاً كان أول ضحاياه شيعة الإمام علي وأتباع آل البيت النبوي. فبعد اغتيال الخليفة الرابع الإمام علي كان من الطبيعي أن يخلفه إبنه الكبير الإمام الحسن إلا أن هذا الأخير لم يجد معه قوة كافية لخوض مواجهة عسكرية مع معاوية والي الشام الطامع بالخلافة فتنازل له عنها بشروط لم يحترمها ولم يطبقها الخليفة الجديد معاوية ابن أبي سفيان الذي حول الخلافة إلى ملكية وراثية وظل يلعن الإمام علي من على منابر المسلمين في كل أرجاء الدولة الإسلامية. مات الإمام علي ولم يورث لعائلته سوى 700 درهم بينما كانت الملايين في بيت مال المسلمين تحت تصرف مؤسس الدولة الأموية معاوية ابن أبي سفيان ينفقها كما يشاء وكيفما يشاء بلا حسيب ولا رقيب. ولم يكتف معاوية بتنازل الحسن عن الخلافة بل اغتاله بالسم بواسطة إحدى زوجات الحسن بعد أن وعدها بتزويجها من إبنه الخليفة القادم يزيد وهي جعدة. بيد أنه لم يف بوعده كعادته واغتال الزوجة المجرمة لتفادي خطورتها عليه وعلى إبنه. وحتى بعد وفاة الحسن بالسم أسيء إليه وعارضت عائشة زوجة جده دفنه بالقرب من قبر جده وأعلنت معارضتها علناً وهي تمتطي ظهر جمل بحجة أن الأرض هي ملكية خاصة لها وصوب حراسها السهام والنبال ضد نعش الحسن أثناء تشييعه وقبل دفنه، كما سبق لها أن حاربت والده علي من على ظهر الجمل وتسببت بمقتل آلاف المسلمين لذلك فإن لدى الشيعة مرارة خاصة من تصرفات عائشة ولايضعها أحد منهم في قلبه أولايحبها أحد منهم. وهذه ليست سوى إحدى مظاهر سوء المعاملة التي لاقاها أهل بيت النبوة. وبقي أمام الخصوم والأعداء هدف أخير هو التخلص من عميد العائلة الهاشمية الباقي وهو الإمام الحسين وتصفيته جسدياً أو إرغامه على الانصياع والاستسلام والمبايعة ليزيد مذلولاً وطائعاً.وهذا الكلام ورد نصاً في كتب التراث الإسلامية المعتمدة التي يمكن من خلالها رسم اللوحة السياسية ـ التاريخية لجذور الصراع العسكري المسلح بين شيعة الإمام علي وعموم أهل السنة الذين التفوا حول الخلافة الأموية الجديدة وأيدوها. وهكذا تم تمهيد الطريق أمام وصول يزيد إلى عرش الخلافة بعد وفاة والده معاوية. وأول هدف قرر يزيد تحقيقه هو التخلص من حفيد النبي محمد ألا وهو الإمام الحسين ابن علي ، رغم كثرة أنصاره ومؤيديه في جميع الحواضر الإسلامية عدا دمشق. خرج الحسين من المدينة بعد أن أصبح بقائه فيها يشكل خطراً على حياته ولجأ إلى الكوفة لكثرة الأنصار المؤيدين له والمعارضين للحكم الأموي، بعد أن تلقى منهم الرسائل التي تدعوه للقدوم ليكونوا مجندين تحت إمرته وقيادته. وقد وعد المسلمون في العراق بتجهيز 120 ألف مقاتل لنصرته وإطاحة مغتصب الخلافة المرتد وإبن الطلقاء يزيد إبن معاوية. بيد أن يزيد تمكن بالحيلة والمال وشراء الذمم وقتل زعماء المتمردين أو سجنهم قبل وصول الحسين إلى الكوفة، ونجح في تفتيت التمرد وتطويق الحسين وعزله في موقع يسمى كربلاء بالقرب من الكوفة وحال بينه وبين مياه نهر الفرات وبذلك غدا العطش أحد أبطال التراجيديا الكربلائية ، كما قطع عليه طريق العودة بقوات عسكرية جرارة ، وذلك في العشرة الأولى من شهر محرم التي استشهد الإمام وأفراد عائلته الذكور وأتباعه المخلصين خلالها حتى اليوم العاشر من محرم الذي سقط فيه الحسين شهيداً ومضرجاً بدمه. وهي المناسبة التي يحيي ذكراها الشيعة في العالم في كل عام إلى يومنا هذا ويوزعون الماء السبيل مجاناً في هذه المناسبة منذ قرون. وهي الطقوس التي منعها صدام حسين لسنوات طويلة وقصف قبر الحسين بالصواريخ أثناء الانتفاضة في آذار 1991 بعد حرب الكويت وقبل سقوط نظامه عام 2003 . الكل يعرف تفاصيل واقعة كربلاء لدى أبناء الشيعة بينما يجهل تفاصيلها أبناء السنة أو يتجاهلونها عمداً ، بينما تزخر كتب التاريخ بتفاصيل ما حدث ، وكيف تحدث السيدة زينب بنت علي ابن أبي طالب وحفيدة الرسول إلى يزيد في مقر خلافته في الشام وخطبت في الحاضرين بجرأة وفصاحة منقطعة النظير وألقت خطبتها العصماء في قلب عاصمة الخلافة التي توفيت فيها ودفنت هناك، حيث رمم الإيرانيون قبرها ووسعوا مزارها ليغدو قبلة للزوار الشيعة من جميع أنحاء العالم اليوم. واعتبر المستشرقون والباحثون في الشأن الإسلامي في الغرب أن مأساة كربلاء هي الفعل المؤسس للتشيع المعاصر والمهد الدامي للثيولوجيا الشيعية. حيث وقع ذلك الحدث بعد أقل من نصف قرن من وفاة الرسول . ومنذ ذلك التاريخ انشطر الإسلام إلى شطرين غير متكافئين بالعدد والقوة . الجرح لم يلتئم بعد فالشيعة يعتبرون أن دم الحسين قد أريق من أجل بقاء رسالة الإسلام حية بينما يعتبره السنة حدثاً سياسياً ليس إلا دفع فيه الحسين ثمن تمرده على الخليفة . وكان :" القرآن الرهينة" بيد المتنازعين على السلطة إذ أن الحرب الأهلية داخل الإسلام أخذت نص القرآن رهينة لديها. لاسيما إذا عدنا إلى ظروف وحيثيات قضية جمع نصوص القرآن وما رافقها من مشاكل وتحديات وتفسيرات ومشاكل عويصة حيث كانت توجد عدة صيغ وقراءات لسور القرآن المبعثرة في الصدور والذاكرة الجمعية وعلى العظام والجلود وسعف النخيل . وتقول بعض المصادر التاريخية الشيعية أن أتباع علي ابن أبي طالب أوجدوا في ذلك الوقت آيات يوصي فيها النبي بتسليم المهمة لابن عمه وصهره علي وقد أثارت تلك الحادثة الخليفة الثالث عثمان ابن عفان الذي شعر ، لأسباب استراتيجية ، وأدرك ضرورة فرض صيغة موحدة للكتاب في كل أمصار العالم الإسلامي. وقد شكل الخليفة الثالث لجنة من الصحابة لجمع نصوص القرآن ومواجهة هذا التحدي والرهان الكبير مما أثار جدالاً واسعاً وخلافات كبيرة فالمعركة بشأن القرآن هي معركة الشرعية . وكان أتباع أهل البيت يبحثون في نصوص القرآن قبل جمعه سنة 650 ميلادية عن براهين ومبررات شرعية لمطالبهم مما يتيح لهم التنظير لإيديولوجيتهم، فأقل حركة أو فاصلة أو نقطة أو سياق يمكن أن يغير المعنى المراد كلياً. وكانت طرق التدوين والكتابة في ذلك الوقت توفر مثل هذه الفرصة. أكد بعض الشيعة في ذلك الزمن أن الصيغة التي اختارها الخليفة الثالث كانت ناقصة ومحرفة. وقالت تلك الأطروحة إن علي ابن أبي طالب وحده ، الوريث والمتربي في كنه النبي وأقرب المقربين له، هو الذي يمتلك النصوص الكاملة للكتاب المنزل حسب تصريح الباحث الإيراني المعاصر محمد علي أمير معزي ومعه الفيلسوف والمستشرق كريستيان جومبيه اللذين كرسا سنوات طويلة من البحث والتقصي وسط تلك الغابة من النصوص والمصادر الشيعية القديمة. فالقرآن الحقيقي حسب هذين الباحثين هو أكبر ثلاث مرات من حجمه الحالي وأن الصيغة الأصلية الطويلة للقرآن كانت لدى علي ابن أبي طالب والذي أخفاها وانتقلت سراً من إمام إلى آخر إلى أن وصلت إلى الإمام الثاني عشر الذي غاب عن الوجود واختفى معه إلى ألأبد النص الكامل للقرآن، ويعتبر الشيعة أن المسؤول عن هذه الإشكالية وحيثياتها هم غالبية أصحاب النبي والشخصيات المؤثرة في قريش وعلى رأسهم أبو بكر وعمر الذين رفضوا قبول كافة النصوص الأصلية ووافقوا على الاستقطاعات للأجزاء الأهم من تلك النصوص التي كان يتضمنها القرآن الأصلي، إلا أن قادة ومراجع الشيعة المتأخرين أمروا بالتغاضي عنها وعدم ذكرها بل والتخلي عنها والقبول بالصيغة الرسمية للقرآن التي فرضها الخليفة الثالث وأحرق غيرها من الصيغ والنسخ التي جمعها قراء آخرين كابن مسعود وغيره، واختيرت صيغة زيد، وكان ذلك القرار الشيعي قد جاء خوفاً من ردة فعل السنة واتهام الشيعة بالزندقة والهرطقة والانحراف والخروج عن الدين كما فعل اليهود والنصارى الذين حرفوا كتبهم المقدسة. فعلى الصعيد الأيديولوجي تستند هذه النظرية إلى قول النبي بتحريف نصوص الأنبياء السابقين له على يد أتباعهم ومريديهم وينطبق ذلك على التوراة والإنجيل. وقد تنازل الشيعة عن معتقد تحريف القرآن كجزء من أصولهم وعقائدهم باسم البراغماتية والرغبة في التعايش النسبي المشترك مع باقي المسلمين لاسيما في القرن العاشر الميلادي إبان الحكم البويهي الشيعي في بغداد والحكم الفاطمي الشيعي في مصر. حيث صدرت أوامر عليا بتبني النص المتداول حالياً كنص وحيد وكامل يرجع إليه المسلمون كافة شيعة وسنة والاختلاف سيكون في التفسير والتأويل للنصوص الموجودة فيه. وقد اختلف المسلمون الأوائل في تسلسل السور والآيات ووضعها بعضهم حسب تسلسل نزولها ومعها حواشي تشرح أسباب النزول، وبمن نزلت، ولماذا، وكان منها مصحف فاطمة، ومصحف علي، إلا انها اختفت كلها ولم يعد يذكرها أحد ووردت تفاصيل ذلك في الكتاب المهم للإمام السيوطي الاتقان في علوم القرآن . وكتعويض عن هذا الجانب المهم في الطرح الشيعي لجأ الشيعة إلى التأويل والقول بالمعنى الظاهر للقرآن والمعنى الباطن الذي أصبح أرفع وأسمى غاية للمعرفة الإسلامية واقتصر فهم واستيعاب وإدراك المعني الخفي للنص القرآني وبات حكراً على المعصومين ومقتصراً على الأئمة الإثني عشر من نسل فاطمة المعصومين الذين خصهم الله بالعلم اللدني وسبر أغوار القرآن ومعرفة أسراره الخفية. فالحقيقة تكمن في القرآن الباطن مثلما كان الحال مع الكابلا والمتصوفة اليهود فيما يتعلق بالتوراة. ويمكن الرجوع إلى شروحات الفيلسوف والمستشرق الفرنسي المتخصص بالإسلام الشيعي الإيراني هنري كوربان الذي ختم بحثه بالقول :" على عكس الإسلام السني ، ذو الغالبية الساحقة في العالم الإسلامي، والذي يقول أن البشرية لاتنتظر شيئاً جديداً بعد الرسالة السماوية الأخيرة التي جاء بها النبي محمد، يترك الشيعة المستقبل مفتوحاً أمام العقيدة الإسلامية حتى بعد مجيء خاتم النبوة فهناك خاتم الولاية الذي يواصل مهمة بعث الرسالة. فالإمام علي قال بنفسه بعد معركة صفين ورفع المصاحف على أسنة الرماح:" إن القرآن حمال أوجه وهو نصوص خفية بين دفتي الغلاف، ليس فيه لسان ناطق ويحتاج للتأويل " وقول النبي للإمام علي " لقد قاتلت من أجل تنزيل القرآن وستقاتل أنت من أجل تأوليه" وهي المهمة التي سيتصدى لها الشيعة ويتخصصون فيها نحو مهمة إنقاذية أو خلاصية جديدة فرضت نفسها بسبب ما آلت إليه أحوال المسلمين بعد فاجعة كربلاء الأمر الذي يرفضه السنة جملة وتفصيلاً. إسلام واحد أم إسلامان؟ إن الفكر العقائدي السني يحاول أن يدعم ويقوي ركائزه الأيديولوجية والعقائدية كونه مهووساً بهاجس التنافس الشيعي الذي يتعقب كل معنى خفي وكل إشارة وكل تفسير باطن يختفي وراء كل كلمة وآية في القرآن والأحاديث . فالفكر الثيولوجي السني يفضل الترديد على البحث والتعمق والتقصي. فالمعلقين الأورثوذوكس السنة لايعلقون أو يجتهدون في التفسير والتأويل بل يكتفون بإعادة إنتاج وترديد النصوص السلفية القديمة. فكل شيء قيل وثبت وشهد وتمت معايشته وكتب مرة وإلى الأبد وساد ذلك الفهم طيلة الحقبتين الأموية والعباسية . فالحاضر هو ترديد وقراءة مكررة للماضي وبالتالي لايجب أن يتحرك، لذلك وجه " الإصلاحيون" المعترضون على السكون والجمود جل نشاطهم وطاقاتهم وتعطشهم للتغيير، نحو الماضي كالوهابيين في القرن الثامن عشر الميلادي والأخوان المسلمين في الربع الأول من القرن العشرين . فالإصلاح الممكن والمرغوب والمطلوب ليس ذلك الذي يعجل ويسرع الزمن ، بل الذي يتسلق الزمن ويتقهقر نحو الماضي التليد . فالتقدم عند الإسلامويين يتمثل بالمضي على الأعقاب أي بخطوات إلى الوراء وليس إلى الأمام. ويتهمون أبناء السنة المعتدلين والتقليديين بأنهم تطورا كثيراً باتجاه شيطاني وتلوثوا بالبدع. فالعربية السعودية، التي جسدت السكون البدوي ـ الفاشي من خلال تبني المذهب الوهابي السلفي المتشدد والمتعصب، أفرزت معارضيها من داخلها وكانوا أكثر تشدداً وتعصباً وانحرافاً من مناصري وأتباع أسامة بن لادن والقاعدة والطالبان. وصاروا ينتقدوها ويلوموها على خنوعها وامتثالها للإملاءات والأوامر الأمريكية وحداثتها الشيطانية التي خانت الإسلام وشرائعه. أما الجد الروحي للسلفيين المتعصبين والتكفيريين المنتشرين اليوم في كل مكان في العالم، فهو إبن تيمية، وهو واعظ متطرف ومتعصب سوري عاش في القرن الثالث عشر وجلب للمذهب السني بصمته السوداء . فتهجماته وتحريضاته ضد الشيعة متعددة وكثيرة لاتحصى . وهو يدين نزوعهم للباطنية ويعتبرهم من أتباع الباطن والنزعة الماورائية في الإسلام ويردد السلفيون اليوم في كل مكان أقواله وتراثه وكتاباته بتقديس فهي تدور وتنتشر عبر مواقع الانترنيت اليوم كما لوكانت قد كتبت في الوقت الحاضر وهذا مقطع من نص مقتبس من إبن تيمية ومنشور ومأخوذ من موقع إسلاموي فرنسي تحت عنوان " رسالة من مجاهد في العراق إلى الأمة الإسلامية" وهو نص يفيد في خدع النفوس الضعيفة بين الجهاديين السنة المغرر بهم ومليء بالحقد الطائفي الأعمى ، في معمعة الاقتتال الطائفي الدموي الذي نشب على ضفتي دجلة ، يقول النص المقتبس من إبن تيمية :" إن قلب الشيعة مليء بالحموضة والحرقة واللؤوم والمرارة والحقد والضغينة ضد المسلمين الصغار والكبار، الطيبين والسيئين، وإن قمة إيمانهم واعتقادهم هي لعن المسلمين ، من أولهم إلى آخرهم، وهم الأكثر اندفاعاً وضراوة في تمزيق وحدة الأمة الإسلامية، ويعتبرون أفضل القادة المسلمين كالخلفاء الراشدين ، أبو بكر وعمر وعثمان، وعلماء المسلمين ، مرتدين ويوجهون إليهم التهم الباطلة والسباب والإهانات". كان إبن تيمية قد أصيب بالصدمة من سقوط بغداد إثر هجمات الغزاة المنغول سنة 1258 وكان قد عزا حدوث هذه الكارثة إلى تحالف الشيعة مع المنغول . وفي الواقع كان الشيعة مضطهدون ومطاردون من قبل السنة السلجوقيين الأتراك الذين تمركزوا في عاصمة العباسيين وحكموا في بغداد منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي لذلك انحاز الشيعة للخلاص من ظلم السلجوقيين إلى زعيم المنغول هولاكو تنفيذا لفتوى أعلنها المرجع الديني للشيعة آنذاك إبن طاووس وتقول:" الحاكم الكافر والعادل أفضل من الحاكم المسلم الظالم" ويبدو أن سيناريو الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 قد أعاد لأذهان السنة ذلك التحالف البعيد . فشيعة العراق كانوا يأملون ويتمنون أن تخلصهم أمريكا من ظلم صدام حسين وقمعه وبطشه "أي الحاكم المسلم الظالم " المتمثل بصدام، الذي أبادهم وطاردهم حتى في أماكنهم المقدسة في النجف وكربلاء ولم يرعوي في قصف مراقد الأئمة الشيعة العظام في عام الانتفاضة 1991 و1999 ، بيد أن أخطاء وتجاوزات واشنطن وعنجهيتها واحتقارها الاستعماري الجديد للشعب العراقي هو الذي ابعد عنها الجماهير الشيعية لأنها لم تمثل الحاكم الكافر والعادل بل كانت ظالمة ومتجبرة هي أيضاً إضافة إلى كفرها، لذلك التحق الكثيرون من أبناء الشيعة بميليشيات جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر تحت ذريعة محاربة قوات الاحتلال . إن هذه المواجهة الشيعية ـ السنية اليوم وعلى صفحات الويب وشبكة الانترنيت العنكبوتية قد عبأت الشباب السنة الفرنسيين ومن أصل عربي مسلم إلى حد التعصب بفعل الخطاب السني السلفي المثير للجدل والقادم من العصور الوسطى الذي أنتجه إبن تيمية، والذي اعتبر الشيعة أسوء من الضالين والمشركين وأحق بالقتل والإبادة من الخوارج والمرتدين وأعداء السنة . وكان إبن تيمية متخلفاً على كل الصعد فهو يكره ويحقد على المرأة ويعتبرها عورة وحرم على النساء لبس الحلي والمجوهرات والزينة واستخدام العطور على عكس ما كان يقول به الإمام علي صهر النبي وبطل الإسلام الذي كان مرهفاً ورحيماً بالأمة وبالنساء. فهو فحل وله قدرة جنسية هائلة ويحب النساء كما تشير بعض المصادر الشيعية التي تبالغ في صفاته وتغالي في مقامه بينما يحتل عمر ابن الخطاب موضوع التقديس والإعجاب المفرط لدى إبن تيمية والذي لاتحبه النساء وكان يغار من جاذبية علي للنساء كما تقول مارتين غوزلان في كتابها عن الصراع بين السنة والشيعة. فالإمام علي البطل المقدام والشجاع والفحل والأسد أو حيدر الكرار كما يسميه الشيعة، الكريم والرؤوف والعالم الذي يخطب بالمسلمين بالقول الجريء " سلوني قبل أن تفقدوني" ، يكرهه صاحب المدونة الفرنسي السلفي الذي تمتليء مدونته بأقوال وكتابات إبن تيمية ويسمي نفسه أبو أيمن ويدعي أنه يرسل رسائله من العراق ويبث الكذب والافتراء مدعياً أن الشيعة تغلغلوا وتسللوا كالأفاعي للسيطرة على مناصب الجيش والشرطة والمخابرات، أي القوة العسكرية الضاربة وأداة السلطة الحقيقية،مع سيطرتهم على النشاط الاقتصادي على غرار سادتهم اليهود وينمون يوماً بعد يوم آمالهم بخلق دولة رافضية ـ يسمي أهل السنة الشيعة بالرافضة أي الذين يرفضون خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل بعد النبي أبو بكر وعمر وعثمان ـ التي تمتد من إيران مروراً بالعراق وسورية ولبنان وانتهاءاً بالإمارات الكارتونية في الخليج" ولنا في حادثة احتجاج النواب الكويتيين السلفيين على إقامة الواعظ الشيعي الإيراني في الكويت بتهمة سبه للصحابة والمطالبة بطرده أو محاسبة رئيس الحكومة داخل البرلمان، نموذج واضح اليوم لهذا التوتر القائم بين السنة والشيعة في كل مكان في العالم الإسلامي . هذه هي الخلفية التاريخية المريرة التي خلقت حالة التشكك والتوجس والحذر وانعدام الثقة بين الشيعة والسنة سيما في العراق والباكستان، وإلى حد ما في لبنان، التي تنتقل فيها المواجهة إلى صراعات مسلحة دامية في أغلب الأحيان بين الجانبين مما يعيق تحقيق الوحدة الإسلامية إلى أمد طويل.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |