في معنى تفجيرات مومباي

 

زهير المخ/ كاتب وأكاديمي عراقي

zmuch@hotmail.com

قرع الإرهاب، هذه المرة، بعنف أبواب مومباي معلناً هذا المستوى المقلق لسكانها الآمنين من صحبة الموت. جاء الإرهاب هذه المرة متكئاً على أعمال قتل وذبح وخطف وتفجيرات تطال عواقبه المدنيين الأبرياء. كانت إطلالته اقتحامية وكأنه اندفع لحجز مقعد في مكان فارغ يتسابق مع آخرين لاقتسامه. بكلام آخر، جاء الإرهاب مسلحاً بعموميات لا يصح البتة وصفها بالبرنامج أو حتى مقدمات برنامج، وبدا باكراً أنه يؤمن بأسلوب تحويل المناطق الآمنة إلى حقول للقتل، بل أوحت ممارساته الأولى في الذبح المجاني بأنه قادر أن يخيف أكثر مما هو قادر أن يقنع.

إلا أن السؤال الذي  ما زال يحوم فوق الرؤوس دونما إجابة شافية: من هم  "مجاهدو  ديكان" ؟ وماذا يريدون ؟ وإذا كان القول بأن نصف الإجابة ليس بالأمر العسير، فهذا من باب تحصيل الحاصل، ذلك أن الهجمات الإرهابية التي حصلت في مناطق هندية متعددة حملت بصمة عناصر إسلامية متشددة متحالفة مع مجموعات ذات طبيعة شبيهة بـ "المافيا"، ترعرعت في كنف النظام الباكستاني، أما برنامجها الوحيد فهو الانتقام الحرفي من كل الهند، وبالتالي فإن معظم الهجمات التي قامت بها هذه العناصر استخدمت فيها المتفجرات والأسلحة، فيما ظهرت بصمات أجهزة الاستخبارات الباكستانية بالتعاون مع الإرهاب القادم من الخارج واضحة على بعض العمليات التي طاولت اغتيال عدد من الشخصيات السياسية الهندية.

 والحقيقة أن العمليات الإرهابية التي نفذتها هذه العناصر يمكن وصفها بأنها "تقليدية"، بمعنى أنها إحدى الوسائل المعروفة التي تلجأ إليها عادة أجهزة أمن النظام الباكستاني، إلا أنها، مع ذلك، ليست سوى ديكور هش لواقع أعقد، حيث يتسلل "جهاديون" من خلال ثغرات أمنية كبيرة وفي حوزتهم مبالغ كبيرة يمكن استثمارها لإنتاج "حركات جهادية" وأعمالاً عسكرية مختلفة.

كان من الصعب على المراقب لمشهد الأيام الثلاثة الدامية تتبّع تفاصيلها دون أن يؤدي هذا التتبّع إلى إثارة عدد من الأسئلة المفجعة، لماذا ؟ وما هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء المدنيين كي يستحقوا مثل هذا الموت الأعمى؟ وهل كان بخاطر هؤلاء جميعاً أنهم على موعد مع الموت الجماعي والعبثي.

تتدفق الأسئلة مثلما يتدفق ذلك الرعب المندلق من العيون. تختنق بها المحاجر كما الحناجر. أسئلة تعصر الضمائر وتستنفذ ما تبقى من توازن في العقول فتنتشر في المساحات كما تناثرت وتوزعت في الطرق والأماكن العامة أشلاء الضحايا. أما كان بالإمكان تجنب هذه المجزرة ؟ أما كان متوقعاً أن تكون مومباي وزوارها مسرحاً للإرهاب وهدفاً له في آن معاً ؟

ما بين ما هو مفترض، وما وقع في مومباي لا يمكن أن تخطئه العين، وهما معاً يدفعان الى ضرورة إعادة النظر فيما آلت إليه الحالة الإرهابية حول العالم وقراءة إحداثياتها الجديدة. وهنا يمكن رصد خمس ملاحظات رئيسية، أولاها أننا لم نعد إزاء عمليات إرهابية بالمعنى الكلاسيكي، كتلك التي جرت طيلة الثمانينات من القرن المنصرم من حيث القتال لأجل قضية عادلة أو مبدأ نزيه، كطرد محتلّ أو إعادة حقوق لأصحابها. وإنما بالأحرى إزاء عمليات تقوم بها تنظيمات وجماعات من "الجهاديين" تسعى لتنفيذ أجندات متقاطعة سياسياً وعقائدياً. ثانيها، أن هذه التنظيمات الجديدة لن تتورع عن تحريف و تلبيس "الجهاد" بأفكارها ومعتقداتها الفاسدة، وذلك على غرار ما ينتهجه تنظيم القاعدة في مناطق عديدة في ما يخص مبادئ "فقه التبرير، والقتل بالجملة، والقتل بالغدر، وفقه التترس"، وهي جميعها مبادئ تبدو جليّة في خلفية العمليات التي تقوم بها هذه التنظيمات. وثالثها أن العصب الرئيسي لمعظم هذه التنظيمات هو من الصبية والفتية الذين لم يتجاوزوا العشرين من أعمارهم، وهو ما ينصرف على الملتحقين بتنظيم "القاعدة" في الجزائر واليمن والعراق والمغرب وأخيراً في الهند. ورابعها، أن غير منطقة في باكستان باتت تمثل حاضنة اجتماعية خِصبة لإفراز وتخريج "الجهاديين الجدد"، وهي ظاهرة زادت باضطراد خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ما يشي بضرورة دراسة تشابكات العلاقة بين هؤلاء "الجهاديين" وأوطانهم الأصلية. وخامسها، أن تفجيرات مومباي تعلن عملياً نهاية مرحلة تنظيم "القاعدة"، وانتهاء احتكاره للعمل الانتحاري حول العالم، وتدشن مرحلة جديدة من العمل "الجهادي"، أبرز ملامحها عولمة التخطيط والتجنيد، ومحليّة الأهداف والتنفيذ، وذلك في ما يشبه حركات "المافيا" التي تملأ العالم من شرقه إلى غربه.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com