الوطنية العراقية في رسائل المس بيل .. (دراسة وثائقية مقارنة بين الاحتلالين للعراق)
 


عادل ال سيد نور الياسري/ مؤرخ

 عراقي/ الولايات المتحدة الامريكية
ALYASRIY@EMAIL.COM

(1 )

بنت بائعة الحليب و الاتفاقية البريطانية

كتبت المس بيل سكرتيرة المندوب السامي في العراق في احد رسائلها شكوى من بائعة الحليب ؛ الطفلة الصغيرة ؛ حيث قالت جاءني احد اعضاء البرلمان يشكي من مقاطعة الناس له ؛ لانه صوت لصالح الاتفاقية البريطانية . ثم قال( خاتون ) ان بنت بائعة الحليب رفضت ان تلعب مع إبنتي الصغيرة ؛ سألتها إ بنتي؛ لماذا لاتلعبينَ معي ؛ قالت بنت بائعة الحليب : سوف لا ألعب معك لان ابيك صوت لصالح المحتلين .. الجدير بالذكران بناية البرلمان العراقي يومذاك لم تكن داخل ثكنة عسكرية تحميها الجيوش المحتلة كما هو الحال لبرلمان ألمنطقة الصفراء في بغداد .ولايخفى على احد ان معظم اسر اعضاء برلمان المنطقة الصفراء ووزراءها تعيش خارج العراق المحتل ولن تجذ بنت بائعة الحليب ؛ طفلة تلعب معها اليوم .

( 2 )

من هي المس بيل

كتبت مقالات كثيرة عن المس بيل ومذكراتها ؛ مثل الوحدة العراقية ؛ والنكتة في رسائلها ؛ و الصحافة العراقية ؛ وغيرها ؛ كلها مقارنة بالواقع العراقي بين الاحتلالين ( الامريكي و البريطاني )؛ ولي دراسة مهمة عنوانها ( أنجال المراجع الايرانية بين الاحتلالين في العراق ) الغريب ان تلك الدراسة كانت معززة بالوثائق والحجج الدامغة ؛ ولكنها واجهة حملة مسعورة من الشيعة المستعربة ؛ حماة الأمن القومي الايراني في العراق والعالم العربي ؛ ومن بعض المواقع الكردية الانفصالية المدعومة من الموسادـ المخابرات الاسرائيلية ـ وكما تعرضت تلك الدراسات والمقالات الى سطو في رابعة النهار من قناصة شبكات الانترنيت . ولايسعني إلا ان اشكر مجلة ابيض و اسود السورية لاحترامها حقوق النشر .

لقد مات المس بيل في العراق بتاريخ 12 تموز 1926 في بيت إستأجرته في بغداد ويقع في محلة السنك بعد احتلال الانكليز بغداد في اذار 1917 . وقد دخلت المس بيل العراق لاول مرة في عام في 1909 . وفي عام 1915 اصبحت موظفة في ادارة المخابرات البريطانية بصفة خبيرة في مكتب القاهرة . وفي عام 1916 عينت في المكتب العربي او مكتب ادارة المخابرات البريطانية في البصرة ؛ ثم التحقت بالحملة العسكرية . يمكن القول ان العقد الاخير من حياتها كان في العراق ؛ لتصبح احد الذين رسموا الخارطة السياسية في الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الاولى . وقد سميت في بغداد ب خاتون وفي مدينة الديوانية ب الكاولية ـ الغجريةـ وبعيدا عن الاسماء الشعبية فهي كانت سكرتيرة المندوب السامي البريطاني في العراق . حيث كتبت التقارير الكثيرةعن العراق ؛ واجدرها بالذكر فصول من تاريخ العراق وغيرها من الكتب ؛ وكانت تكتب رسائلها الى ابيها عن العراق ؛ وجمعت بعد وفاتها ونشرت في كتاب وسمي برسائل المس بيل ؛ واعتقد فيه قضايا مهمة لمراجعة الامس القريب .. وفاتني القول ان المس بيل كانت مديرة إدارة الاثار الفخرية وقدمت خدمات كبيرة لحماية اثار العراق وأسست المتحف العراقي ؛ و لكن في زمن الاحتلال الامريكي للعراق صارت اثاره من المسروقات ؛ وان معظم الذين نهبوا اثار العراق في بغداد هم من أبناء مدينة الصدروليسوا من أبناء مدينة الثورة..ولولا الحسينيات والمساجد لما عادت قسم منها ..وشتان بين مدينة الثورة ـ قاسم ـ التي عانقت الدليمي والمشهداني وبين مدينة الصدر في زمن الاحتلال الامريكي التي تذبح العراقي على الهوية الطائفية .

الغريب ان حزب الدعوة الشيعي ؛ يرى ان ظاهرة النهب والسلب تعبر عن فرحة الناس بالعهد الديمقراطي ؛ ويقول الجعفري ؛ ففي التجربة العراقية ؛ بدأت الديمقراطية صباح اليوم التاسع من نيسان ؛ وكانت صورتها الاولى فوضى عارمة ؛ عبر الكثير من الناس عن فرحتهم بالعهد الديمقراطي من خلال إقتحام مباني الدولة ودوائرها ونهب كل مايمكن حمله. والجدير بالذكر تقول الوثائق البريطانية لقد كتب الزعيم السيد نور الياسري بعد ان برزت ظاهرة النهب و السلب في مدينة بعقوبة(( ان الثورة جهاد مقدس و ليست ذريعة للنهب و السلب )) وتقول المس بيل فقد خرج الالاف من أفراد القبائل للنهب و السلب وعرفت الثورة في بعقوبة بانها اشد الحوادث التي عرفناها وحشية .

( 3 )

الولد الواحد يساوي اربعة أولاد

وقد سجلت المس بيل شكوى اخرى من بائع متجول في السوق حيث كتبت في رسالتها :

جاء عجيل ؛ شيخ القبيلة العظيم الهادئ ؛ ليراني في هذا اليوم . فقال لي (( خاتون ؛ جئت اقول لك أنه ليست قوة هناك على وجه الارض تستطيع امرار المعاهدة من هذا البرلمان . فليست لديك أية فكرة عما يجرى في هذا البلد . ان بائعا متجولا في السوق يقف على بابي ليل نهار ؛ حتى انه لم يتقدم كثيرا في عمره ؛ انه ولد أشعث صغير ممزق الثياب . وفي كل مرة اخرج من البيت أو أدخل اليه يمسك بيدي فيقبلها ويقبل عباءتي وملابسي ثم يأخذه البكاء والعويل ويقول : ( ياايها الشيخ ؛ يا والدي إرفض هذه المعاهدة .. لاتبيعونا للانكليز ..لا تبيعونا للانكليز ؛ وتقول المس بيل بات واضحا في قرار نفس البائع انها عقيدة وطنية يموت من أجلها .ويضيف الشيخ في مقابل الولد الواحد الذي يقف على بابي هناك أربعة أولاد يقفون على باب كل عضو آخر من اعضاء البرلمان .

وفي رسالة أخرى لها بعد ان زجت الحكومة نخبة عراقية وطنية مثقفة معارضة للاتفاقية في السجون كتبت قائلة : واخيرا أخذوا يدركون الحقيقة التي بقيت أشرحها لهم منذ سنة 1920 . وهي ان الموالين لنا هم الذين يكونون موالين لهم بالفطرة ؛ والذين يكونون خونة بالنسبة لنا سيخونوهم هم ايضاـ تقصد الحكومة ـ هذه هي نظرة المحتل يخون الاحرارإذا أرادوا حرية الوطن ؛ ومن خلفهم صنيعتهم الحكومة . تلك هي سنة المحتلين منذ الازل .

(4 )

المدرسة الوطنية العراقية مراكزها وعمادتها

من الصعب كشف دقائق المدرسة الوطنية العراقية وطبيعة خصائصها وتكوين بداياتها غير ان الباحث الضليع علي الوردي يبين مقدمات هذه المدرسة؛ ويعتقد في تعليقه على مرحلة الاستفتاء (1918 ـ1919 ) ان الفئة القليلة التي طالبت بالحكم العربي في أثناء الاستفتاء ؛ تعتبر البذرة التي انبثقت منها ثورة العشرين . فهي أخذت تنمو بمرور الايام وصار ينظم اليها كل متذمر من الانكليز . وأطلق الناس على هذه الفئة اسم (( الوطنيين )) أما المخالفون لها في نظر الناس خونة وموالين للكفار .

ولابد من الوقوف على عناصر تلك الفئة القليلة الوطنية والبحث في مكوناتها الفكرية وثقافتها وسلوكيتها في المجتمع العراقي . لقد كانت البداية الاولى للاستفتاء في مدينة النجف والمدن التي تحيط بها ؛ وان الذين دعوا الى الاستفتاء هم احفاد الرسول العربي الاعظم ( ص ) من البارزين في المجتمع ؛ الذين يطلق عليهم بالسادة وزعماء القبائل العربية ؛ الذين قاموا بمواجهة الاحتلال مند الوهلة الاولى عسكريا ؛ ولم يحضروا رجال الدين الايرانيين في الاجتماع الرسمي الاول . ومن الملفت للنظر ان المرجعية الشيعية الرسمية ( كاظم اليزدي الايراني ) كانت عائقا امام الحركة الوطنية ولايختلف الزعيم الرسمي الديني للمسلمين السنة في العراق عبدالرحمن النقيب الكيلاني عن اليزدي الايراني ؛ وقد كتبت المس بيل الكثير عن موقفهما المؤيد للاحتلال وكذلك الوثائق البريطانية . الغريب اني وجدت علة جسدية مشتركة بين اليزدي و الكيلاني ؛ فقد كان كلاهما اعرجا ؛ وحتما العقل السليم في الجسم السليم . ولاشك ان العروبة هي التي كانت تتوهجت فيها سراج الوطنية العراقية .

واعتقد لابد من اعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية في العراق ؛و أرى إن رجال الدين تطفلوا على الحركة الوطنية في العراق ؛ وبالذات علماء الشيعة الايرانيين ؛ وقد عللت الدوافع و الاسباب في مقالات ودراسات سابقة ( دوافع قومية ؛ نفسية ؛ اجتماعية ) ولايحفى على احد ان المرجعية الدينية الشيعية هي ميراث قومي الى ال فارس في العراق والعالم العربي ؛ قبل ان تصبح ميراث ديني . وان الفقه الشيعي السياسي هو جزء لا يتجزء من الامن القومي الايراني . ومما يؤسف له لا توجد دراسة عن الفتاوي الدينية لمراجع الشيعة الايرانيين في اسقاط الوطنية عند المسلمين الشيعة العراقيين من العرب والتركمان و الاكراد الفيلة..وقد اسهم الفقه الشيعي السياسي في إستفحال عقدة تضخم تصادم الولاء للوطن لدى الشيعة العراقيين في الازمات الوطنية ..وان مبدأ التقية المغلظة هي من صناعة الفقه السياسي لحفظ ماء وجه رجال الدين الايرانيين في العراق عند الازمات ؛ ( لقد قامت مؤسسة الخوئي في الندن ندوة تحت عنوان أزمة شيعة العراق بإشراف مجيد الخوئي ؛ وكانت من بين الافكار و التساؤلات المطروحة ؛ لماذا لم يصدر الخوئي فتوى بالجهاد ضد الدكتاتورية في العراق . ؟ وكانت الاجابة هي ان للخوئي مقلدين خارج العراق في الدول العربية و الاسلامية؛ بالرغم ان هذا هو تبرير غير منطقي من سماسرة المرجعية . وواقع الحال ان من يطلع على ملفات المخابرات العراقية للمرجعية الشيعية ؛ يرى هناك فرقا كبيرا بين الحقيقة و الخيال وما ذلك التبرير إلا سراب في موائد تفكيرهم ) . وخلق هذا الفقه ؛ القنوط و الذل عند الشيعة العراقيين؛ في مواجهة الازمات الوطنية للبلاد ..وقد صنع هذا الفقه طبقة من الروزخونية جلّ همّها في تعظيم رجال الدين الايرانيين وتعظيم ثقافة ال فارس وجعلها هي الثقافى العليا عند السواد الاعظم من الشيعة العراقيين . و التساؤل متى نرى دراسة موضوعية عن الفقه الشيعي السياسي ودوره في تكوين المعارضة السلبية الشيعية في العالم العربي ؛ من قبل المفكرين الوطنيين الشيعة العرب او من غير الشيعة ؟ ويا حبذ ان يقوم المفكرون الشيعة بها قبل غيرهم حتى لايتهم الاخرون بالطائفية السياسية .. فهي مسوؤلية وطنية كبرى في نشر الوعي الوطني و من موجبات المفكرين الشيعة العرب قبل غيرهم . وتجدر الاشارة ان عبدالله النفيسي الباحث الكويتي ؛ قدم بحث حول الشيعة ودورهم في ومواجهة الاحتلال البريطاني في العراق وتطوير الحكم ..ولاشك ان هناك فرق بين الاحتلال البريطاني الاول للعراق والاحتلال الامريكي للعراق .. وان الاحتلال الامريكي للعراق كشف حقيقة المرجعية الايرانية الشيعية في العراق بوضوح لا لبس فيه ؛ وان الجلوس وراء الزجاج المضلل بات مكشوفا للملأ ..

ولم يختلف الاكراد عن ال فارس في العراق من امثال حميد خان( معاون الحاكم السياسي البريطاني في النجف ) وغيره فقد وردت في احد رسائلها : ( مازال الفرنسيون يمارسون حيلهم القذرة كالمعتاد . . انهم يقومون بتحريض الاكراد على عدم الاستماع لنداء العراق والالتحاق به ؛ وعلى طلب انتداب فرنسا عليهم ..) وفي رسالة اخرى تقول ان الاكراد لايعرفون ماذا يريدون ..!

اعتقد ان المراقب لتطورات الاحداث التاريخية في العراق يجد ان احزاب الاكراد ومعظم رؤساء العشائر هم الإرضة التي تعبث في لحاح شجرة الدولة العراقية منذ تاسيسها وحتى يومنا هذا ؛ لايستثنى منهم الا العلمانيين؛ ولاسيما احزابها ؛ فهم لعبة الاقليم ضد العراق . ( للمزيد راجع مذكرات رجال الموساد المنشورة في تل ابيب وبالذات ملا مصطفى برزاني وعن طبيبه محمود عثمان وعلاقته الوثيقة بالموساد ( و بالصور ) ؛ وايضا راجع تصريحات طالباني بعد الانشقاق من البرزاني) حيث كتبت احدى الباحثات الاسرائيليات في جريدة الشرق الاوسط بعد احداث 1991 ان الاكراد هم ضد الدولة. ولم يفقه هذا القول كثيرا من الناس إلا بعد الاحتلال الامريكي للعراق . فقد استمر بغيه حزب طالباني بالإعتداء على طالبات الوسط والجنوب العراقي في جامعة مدينة السليمانية في شمال العراق ؛ مما جعل السلطات العراقية ان تغلق جامعة السليمانية وكان طالباني يرى تلك الاعتداءات قمة النضال القومي الكردي . تلك نماذج من نضال الاحزاب الكردية ؛ والاغرب من ذلك سطو حزب طالباني على جريدة الجمهورية العراقية وهي جريدة رسمية وليست جريدة حزبية بمؤازرة الاحتلال الامريكي .وعند مراجعة التقارير البريطانية عن العشائرالعربية لاتوجد علاقة بين الطرفين. وان قراءة تقريرالاستخبارات البريطانية عن العشائر و السياسة نجد ان العلاقة بينهما شبه معدمة هذا جانب و الجانب الاهم فقد كتبت المس بيل ان علي السليمان رئيس قبائل الديلم كان بريطاني النزعة بشدة وتعقل . ولا ادري هل الصحوة ؛ هي البديل الاخر عن الشبانة ؛ الشبانة وهم من ابناء العشائر يقومون بحفظ النظام يأتمرون بأوامر الاحتلال البريطاني ؛ مقابل أجور معينة . مما يؤسف له ان صحيفة يو أس أ توديّ الامريكية الواسعة الانتشار كتبت في16 جنيوري 2003 ان ثلاثة الف من العراقيين في المنفى سيكونون هم ادلاء للجيش الامريكي في العراق . واعتقد ان في هذا الرقم مبالغة كبيرة وهو من ضرورات الحرب النفسية .

ومن الطرائف الغريبة ان صحف المعارضة الشيعية الدينية العراقية في طهران ؛ سخرت من الادلاء الذين مع الجيش الامريكي لكن الشيء الذي يدعو للسخرية أيضا ؛ ان عبد العزيز الحكيم الاصفهاني حين أجرت معه صحيفة نيويورك تايمز مقابلة بعد الاحتلال ؛ وسألته كيف ترى نفسك بين الجنرلات الامريكية في العراق ؛ قال علاقتي بهم وطيدة منذ قبل الاحتلال.

إذا حددنا زمن البدايات المدرسة الوطنية العراقية فمن هم عمادة هذه المدرسة وأركانها ؛ ولعل الوقوف على شخصية الزعيم الكبير السيد نور الياسري ؛ تتضح الابعاد الحقيقة لهذه المدرسة ؛ ان تسمية الزعيم الكبير لم تأتي من رغبات النفس ؛ ومما يثير الجدل ان صحافة الاحتلال ( صحيفة العراق ) وصحافة ثورة العشرين لم تختلفا في التسمية او تفقتا على تلك الزعامة .

لم يكن الزعيم الياسري نور يبحث عن مال ؛ فكان أكبر من المال؛ وتقدر مصادر الثورة إنه أنفق خمسين الف ليرة ذهبية . وثمة خسارة أخرى ؛ وقد هدمت سلطات الاحتلال البريطاني جميع بيوته الفاخرة وخاناته في كربلاء والنجف والمشخاب و ابي صخير والكفل وغرامات من السلاح ؛و عشرات من البنادق . وتقول التقارير اليريطانية إنه أغنى رجل في العراق . و كانت الوطنية عنده هي اكبر من المال .

ولم يبحث عن جاه فهو السلطان المقدس على العشائر ؛ وذو النفوذ العريض في الثورة وموحد القبائل ضد الاحتلال وإشتهر بأعماله الخيرية . وقد ربح الشيوخ المناؤين للانكليزربحا عظيما وسمعة كبيرة بمعاضدته ؛هكذا هي تقول مذكرات رجال الاحتلال . وكان محط انظار الجميع ؛ ورفض ان يصلي وراء كاظم اليزدي المرجع الايراني المساوم للاحتلال البريطاني ؛ بالرغم ان العلاقة كانت حميمة بين الاثنين ؛ وكان شعاره لا اصافح من يساوم الاحتلال ؛ وخلع المرجعية الدينية كما يخلع خاتمه بعد ان عدل عن تقليد اليزدي . فقد كان عمره في ثورة العشرين (1920 ) ثمانين عاما ؛ ولعب دورا كبيرا سياسيا و اقتصاديا و عسكريا.. وكان يقود اول مجموعة تقاتل الاحتلال البريطاني في حرب الشعيبة ـ البصرة ـ قبل سقوط بغداد ؛ بعد ان هتفت جموع الثائرين ( جدمنا الله ونور عليه ) أي ان السيد نور هو المقدم في الهجوم الاول لشرفه الرفيع ولشجاعته؛ وكان اول جريح بن اخيه في المعركة الاولى؛ ولاقى ربه محتسبا . وظل طول حياته يرعى ابناء الشهداء .. وان الوطن كان عنده هو اكبر من الجاه .

وهاجر من اجل الوطن صوب الحجاز؛ وأشعل النار عند دخوله المدينة المنورة؛ وصاح مناديا من له حاجة فأنه يقضيها .. ولم يكن عميلا لمخابرات زعيم الثورة العربية الشريف الحسن بن علي ملك الحجاز ؛ من اجل حفنة من الدولارات ؛ أو يتفاخر بالعمالة للاجنبي ؛ أويسرق مصرفا من الهاشميين ؛ بل اقرض الشريف الحسين بن على ؛ عشرات المئات من الليرات الذهبية ..وكان ضيفا كريما عليه .. وحين يدعوه لضيافته في ديوانه ؛ يبعث له سيفه وفرسه .. ولو ساوم على الوطن لصار هو ملك العراق بلا منازع .

لم يبحث عن منصب في الدولة الجديدة الحديثة الفتية ؛ الذي كان هو احد مؤسسيها ؛ واقرض ميزانيتها الخاوية من ماله بلا فوائد وسددتها الدولة له من الضرائب التي كان يدفعها لها ..وان الوطنية عنده ان من يضحي من اجل الوطن لايبحث عن تعويضات من الدولة . وتقول المس بيل في رسالة لها بصدد المال و إفلاس الدولة و بستياءها من طلبات السياسين المدنيين : ـ ( وافكار وأراء عصبة فجة متسرعة من السياسين المدنيين الذين يلومنك على عدم تأسيس جامعات في بلادهم ؟ وإذا سألتهم من أين يوتى بالمال لهذا الغرض يقولون من الحكومة ؛ وهم لم يطلعوا بعد على ان الحكومة ليس لديها بنس واحد لم يؤخذ من جيوب الشعب ..)

لقد ارسى الزعيم الكبير السيد نور الياسري دعائم المدرسة الوطنية العراقية بمواقفه النبيلة و الشجاعة؛ وكان احد اركانها ؛ ويجب ان لاننسى ادوار الاخرين الخيرين الذين اسهموا في صناعة المدرسة الوطنية العراقية امثال الشسخ عبد الكريم الجزائري و السيد هادي مكوطر و الشيخ عبد الواحد ال سكر وغيرهم من الذين حفظت لهم الذاكرة العراقية الوطنية المواقف الخالدة .

ان احد مقدمات طوفان المدرسة الوطنية الخالصة هي احياء ذكرى الوطنيين الاحرار على الدوام ؛ الذين أرخصوا الغالي من أجل أ ن يبقى الوطن عزيزا كريما؛ ومن موجباتها ان نسمي الانتهازية واعوانهم من الخونة وارباب الطائفية السياسية ؛ بأسمائهم ؛ بلا تردد وان الله يبارك لنا من حولنا (( ان الله لا يحب الخائنين ـ الاية 57 من سورة الانفال )) .

ومن كبائر منهاج المدرسة الوطنية ان تتناسي و تتغافل دور الابطال الوطنيين؛ وتمجيد سير الجبناء من الطائفيين و الانتهازيين و مرتزقة الاحتلال وتجعل من الاقزام أبطالا.. ولاشك ان شعار لا تسل الوطني ماذا كسب ؛ سله ماذا وهب ؛ قد صنع لنا الوطنية الحقة في بدايات العشرينيات من القرن المنصرم في العراق . ومن الحقارة ان يفتخر البعض بالامتيازات الاحتلال له.. يا لها من محنة على المدرسة الوطنية .. وليست من أدبيات المدرسة الوطنية أن يقول الفتى كان أبي او جدي وإنما من يقول انا على نهج أبي وجدي في احياء الوطن .

وتقول المس بيل؛ ذهبت لمشاهدة رواية وطنية كان يقوم بتمثيلها جماعة من الشباب الوطنيين المتطرفين.. وكلما كانت تذكر كلمة ( الاستقلال ) وكثيرا ما كانت تذكر ؛ كانت تقابل بتصفيق حاد مسموع الصدى.. فقابلت بود شديد جميع من يعمل على مناوئتنا بكل قوة؛ وصافحتهم ببشاشة .

وكانت من مراكز المدرسة الوطنية العراقية اثناء الاحتلال البريطاني للعراق ؛ هي المدارس وكانت مدرس التفيض من اشهر المراكز المهمة في بغداد واسسها الوطنيين الاحرار كل من الشابين جعفر ابو التمن وعلى البازركان واخرين واسهمت الحركة الكشفية لتلك المدرسة في نشر الوعي الوطني وتقدم لنا المس بيل نموذج من تلك الفعاليات ...

فقد اقيمت يوم الخميس حفلة كشافية عظيمة ذهبت اليها ؛ وجلسنا هناك في وسط ريح شمالية لاتحتمل .واشترك في أداء الحفلة ألف وخمس مئة كشاف عراقي؛ وكان معلمو الكشافة جميعهم من العراقيين . أما مكانها فكان السراي ؛ المقر العسكري التركي القديم ( القشلة ) . وكانت الشرفات كلها مكتظة بالناس ؛ وكذلك الساحة الكبيرة ؛ وقد بلغ عدد المتفرجين خمسة الاف شخصا . والى جانب ما قامت به الكشافة من اعمال كشفية إعتيادية وضرب الخيام ؛ وقد أبدعوا فيها . فقد إغتنموا الفرصة لبث شيئ من الدعاية الوطنية ؛ إذ رسموا العلم العراقي بواسطة صغار الكشافة ؛ وكانوا يرتدون الالوان الوطنية ؛ كما رسموا في أرض الساحة بالطباشير خارطة كبيرة للعراق؛ واصطف خط من الاولاد على حدودها؛ ووقف بعض الاولاد وهم يحملون العلم العراقي ؛ ويشيرون بها الى المدن العراقية الثلاث هي البصرة و بغداد و الموصل ...

( 5 )

سوف يلي بعد هذه الحلقة دراسة؛ هي سقوط الوطنية عند العراقيين .. ولا اعتقد ان الوطنية العراقية سقطت في 9 نيسان بعد سقوط بغداد .. ربما سقطت بعد تأسست الاحزاب الكردية الانفضالية ؛ أو الاحزاب الشيعية الدينية ؛ أو ربما سقطت بعد تأسيس حزب الدعوة ؛ ودعوت اساطين فقهاءه ان يذوب العراقيون في إيران ؛ او ربما سقطت بعد نشوء الجمهورية الاسلامية الايرانية ؛ أو سقطت عندما تأسس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية المرتبط بولاية الفقيه؛ أو ربما سقطت بعد ثورة النعل في مدينة قم الايرانية ؛ او ربما سقطت بعد أن هيمنت الدكتاتورية على مرافق الدولة ؛ وربما سقطت الوطنية حين مجدنا الصور ولم نرفع علم الوطن ؛ او ربما سقطت الوطنية حين هجر البعض الوطن ليبحث عن دولارا ليشبع البطن دون القهر ؛ وصار طريدا برغبته ؛ او ربما سقطت الوطنية بعد هيمنة الحزب الواحد الاوحد ؛ أو ربما اسقطت الوطنية العراقية هي المرجعية الشيعية الدينية الايرانية .. ولاادري هل اراد الزعيم الكبير الياسري نور ان يحذر الاحرار من سقوط الوطنية العراقية وعن خطر المرجعية الايرانية ؛ حين كتب في وصيته تنقل اموالي الى أبنائي وإذا إنقرضوا الى عالم من العرب خاصة .. الوصية موثقة رسميا في محكمة مدينة الكاظمية من قبل القاضي جميل الأرفلي وايضا مهرة باختام المراجع العرب و العجم ..!

واعني بسقوط الوطنية هي غياب المسؤولية الوطنية في المجتمع العراقي ؛ ولماذا كتبت مجموعة مقالات ( العراق وطن بلا وطنية ) بعدعودتي من زيارة العراق ؛ وكيف ينتصر المرء الى ام الحواسم و تنهزم الوطنية ؛ وليس لها من ناصر و معين ؛ وكيف يستولي الروزخون المعمم على بعض بيوت الشباب الرياضية ويجعل من تلك البناية محلا تجارية بمباركة المرجعية الشيعية الدينية ؛ وكيف رايت الحزب الشيوعي العراقي في النجف حين عاد الى مقره القديم الذي اشتراه من ماله الخالص ؛ كأنه عاد القمر كالعرجون القديم ؛ خلافا للاحزاب الدينية الشيعية.. كلها من فصيلة ام الحواسم وبامتياز .. الحزب الذي كفرته المرجعية الدينية الشيعية بفتواها ان الشوعية هي كفر و الحاد .. سوف تحفظ الذكرة العراقية تلك الصور المخجلة ؛ مثلما حفظنا حكاية بائعة الحليب وصورة الكشافة و هتافات الاستقلال وغيرها ؛ وان الوطنية هي لباس الاحرار .. وتجوع الحرة ولا تأكل من ثديها ..

خير الكلام ماقل ودل

لاتسل الوطني ماذا كسب ؛ سله ماذا وهب

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com