|
الاقتصاد العراقي ومشكلاته الراهنة
كاظم حبيب يواجه الاقتصاد العراقي في المرحلة الراهنة مصاعب جمة ناجمة عن عدد من العوامل القديمة والجديدة التي ستبقى تؤثر فيه وتمنع تطوره المناسب في حالة استمرارها في الفعل واسترخاء النظر إليها لمعالجتها. فبعضها تاريخي وتركة ثقيلة نشأت بفعل السياسات التي مارستها النظم السياسية السابقة والتي ميزت بعض سماته، وبعضها الآخر والأشد وجعاً نشأ بفعل سياسات نظام البعث الصدامي الداخلية منها والخارجية، العسكرية منها والمدنية، وكذلك سياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والإعلامية الزائفة، ثم العواقب الوخيمة للحصار الاقتصادي الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق. وبعضها الآخر مرتبط بالمرحلة الراهنة التي يمر بها العراق منذ سقوط نظام البعث الاستبدادي عبر القوات الأجنبية وفرض الاحتلال عليه وممارسة سياسات تجسد مصالح الاحتكارات الرأسمالية الدولية في العراق، وعلى رأسها الشركات الأمريكية العملاقة، من خلال الممثل المباشر لايدولوجية وسياسة اللبرالية الجديدة المتطرفة المستبد بأمره بول برمير، واستمرارها حتى الوقت الحاضر، بسبب استمرار وجود من يمثل تلك السياسات في الجانب العراقي. يضاف إلى كل ذلك العمليات الإرهابية الدموية والتدميرية الشديدة الوطأة على الإنسان والمجتمع والاقتصادالوطني التي لا تزال مستمرة، وأن كانت بأقل حدة وسعة، ثم السياسات الطائفية التي جزأت المجتمع العربي في العراق إلى عرب سنة وعرب شيعة، التي سعت الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الي تعميقها وتوسيع الفجوة بينهما، ونشوء أجواء سلبية وعدم ثقة، لم تكن موجودة سابقاً في الساحة العراقية، بين الأوساط العربية الديمقراطية المثقفة وبين القوى والأحزاب الكردية التي تشكل اليوم التحالف الكردستاني والتي تستوجب التصحيح. والصعوبات الراهنة ناشئة عن أساس فكري (ايديولوجي) وعن سياسات حزبية ضيقة، ورؤية ومعرفة ضبابية لمفهوم السياسة الاقتصادية والاجتماعية والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة لدى جمهرة غير قليلة من الأوساط الحاكمة والمسئولة عن الملف والسياسة الاقتصادية في العراق، وعن نظام مالي ونقدي ناقص وقاصر وقيادة مالية بعيدة عن فهم دور السياسة المالية والنقدية في الحياة الاقتصادية, وعن فساد مالي وإداري شاملين ومعمول بهما يومياً، إذ لم يعد سراً إن العراق يحتل الموقع الثاني بعد دولة الصومال الفقيرة في الفساد المال والإداري وغياب الشفافية في الدولة العراقية الغنية بموارد النفط والمشجعة على تفاقم الفساد في العام 2007. وقد يكون العراق قد احتل الموقع الأول في العام 2008، إذ لم تتراجع ظاهرة الفساد، رغم الإعلان عن البدء بمكافحتها من السيد رئيس الوزراء، بل تفاقمت في جوانب كثيرة منها والتهمت الكثير من النموارد المالية بطرق شتى. هذا جانب واحد من القضية الاقتصادية في العراق، أما الجانب الثاني منها فهو واقع أو سمات الاقتصاد العراقي ذاته، أي واقع التخلف في البنية الاقتصادية الوحيدة الطرف واعتماد الدخل القومي على موارد النفط الخام بشكل خاص، وتدهور ما تبقى من الصناعة الوطنية في سائر أرجاء العراق وتراجع الزراعة والثروة الحيوانية وتدهور الإنتاج الزراعي، حتى في أكثر المناطق صلاحاً لتطور الزراعة، سواء في وسط العراق وجنوبه أم في كردستان العراق وعموم شمال العراق، واعتماد العراق على الاستيراد المتعاظم سنة بعد أخرى ووجود نسبة عالية من العاطلين عن العمل من إجمالي القوى القادرة على العمل، يضاف إلى ذلك سوء توزيع وسوء استخدام موارد النفط المالية وغياب عدالة التوزيع في المجتمع. وهذه الظواهر تمس واقع العراق كله وتثير المجتمع وتحركه صوب عدم الارتياح والاحتجاج التدريجي والتحرك الجماهيري المناهض لهذه السياسات. ومثل هذا الاقتصاد الريعي الاستهلاكي يكون أكثر عرضة للتأثر بالأزمات الدورية والعامة للاقتصاد الرأسمالي العالمي وعواقبه، إذ يعتبر اقتصاداً مكشوفاً بشكل تام على الخارج. وكان المفترض أن تكون تجارب الحروب المدمرة وتجربة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق دروساً ثمينة وكفيلة في أن تضع أمام السياسيين والاقتصاديين في العراق حقيقة المخاطر الجمة التي يشكلها هذا الفراغ الصناعي التحويلي والزراعي الحديث لاقتصاد استخراجي ريعي واستهلاكي استيرادي وحيد الجانب ومكشوف على الخارج، وخاصة في أمنه الغذائي. النفط الخام العراقي والغاز الطبيعي يشكلان ثروة استراتيجية طويلة الأمد، ولكنهما في الوقت نفسه ناضبتان أيضاً، بغض النظر عن فترة نضوب هاتين الثروتين في العراق والتي يقدر البعض بأن النفط الخام سينضب بعد مرور 160 سنة دون الأخذ بالاعتبار حجم الاستخراج السنوي منه. وللنفط الخام أهمية فائقة للاقتصاد العراقي، باعتباره مورداً أولياً يساهم في تنمية وتطوير سلسلة طويلة من المنتجات البتروكيماوية، إضافة إلى دوره في إنتاج الطاقة، كما أنه مورد مالي كبير يمكن أن يسهم في تنمية الاقتصاد الوطني وفي زيادة الاستثمارات المالية في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والمنافع الاجتماعية العامة، إن انتهجت حكوماته سياسة اقتصادية عقلانية واعية. وأذ يشكل النفط الخام أهمية خاصة للاقتصاد العالمي، كمنج للطاقة أو للسلع المصنعة، فأنه شكل حتى الآن محوراً مركزياً ورئيسياً من محاور كوارث العراق السابقة وسيبقى كذلك لفترة طويلة ما لم تستخدم حكوماته المتعاقبة سياسات صائبة في علاقاتها الاقتصادية الدولية إزاء النفط وفي إطار الأوبيك والأوابك وإزاء بقية فروع الاقتصاد العراقي. ويفترض أن تجد سياسة الدولة التوازن العقلاني بين الحاجة المحلية للنفط وموارده المالية وبين حاجة الدول الأخرى للنفط الخام، سواء أكان ذلك لإنتاج الطاقة أم للأغراض الصناعية التحويلية الأخرى. والموازنة المسئولة يفترض أن تأخذ مصالح العراق أولاً وقبل كل شيء بنظر الاعتبار، على ان تنسق في إطار دول الأوبك سبل تحقيق التوازن العقلاني بين العرض والطلب في سوق النفط الدولي الذي يسمح بإيجاد استقرار سعري دولي للنفط يمكن أن يركن إليه في وضع الميزانيات العامة والاعتيادية في الدول النفطية. إن استنزاف موارد النفط المالية في سياسات إنفاق حكومية استهلاكية غير عقلانية، كما عليه الحال في الوقت الحاضر، وبعيداً كل البعد عن التنمية الصناعية والزراعية الحكومية ودعم القطاع الخاص في التوظيف في الصناعة والزراعة، والتركيز التام على التجارة الخارجية أو الاستيراد السلعي، ستبقي مظاهر التخلف والظواهر السلبية الأخرى في الاقتصاد والمجتمع في العراق، بل وتعمق وتوسع من مشكلاته الراهنة. إن التضحم الذي يعاني منه الاقتصاد العراقي ناشيء عن عدد من العوامل الفاعلة بقوة في العراق، ومنها: ** السيولة النقدية الكبيرة التي تسببت بها ضخامة الموارد المالية المتوفرة خلال الفترة المنصرمة وغياب التوظيف لها في التنمية الإنتاجية، بل تحولها إلى سيولة نقدية بيد فئات معينة دون غيرها، إضافة إلى استنزاف جزء مهم منها نحو الخارج وعبر الشركات الأجنبية. ** وجود عدد كبير من القوات الأجنبية التي يذهب جزء من موارد قوات الاحتلال إلى السوق العراقية ويتسبب في سيولة نقدية إضافية ويساهم في تنشيط زحف التضخم والتهام القدرة الشرائية لفقراء الناس مع غياب دور الحكومة التوجيهي والرقابي على الأسعار. ** سياسة الإنفاق الحكومية غير العقلانية والسياسة المالية غير الواعية والناقصة في أبرز جوانبها والتي تتسبب بدورها في نشوء اختلالات عدة، وخاصة سياسة القروض والفوائد والسياسة الضريبية ودور السياسة النقدية وثبات سعر صرف الدينار العراقي في مقابل الدولار، وتنشيط السياسة الائتمانية لتجارة الاستيراد. ** غياب التنسيق والتفاعل بين وزارة المالية والبنك المركزي وسياسات البنوك التجارية في العراق. ** الفساد المالي الذي يستنزف جزءاً مهماً من موارد النفط المالية ويضخ جزءاً مهماً منها إلى السوق العراقي الذي يساهم في هذا التضخم، في وقت يعجز اصحاب الدخول المحدودة والفقراء من مواجهة ارتفاع الأسعار والذي يؤثر بقوة على دخلهم الحقيقي وقدرتهم الشرائية ويتسبب في بؤسهم المستديم. ** ضخامة جيش الموظفين العراقيين الذي يقدر اليوم باربعة ملايين شخص من مجموع 28 مليون نسمة.، إذ أنهم يستنزفون نسبة عالية من الدخل القومي أو من إيرادات النفط الخام. ** إن الضعف الشديد في حجم الإنتاج الصناعي وتراجع الإنتاج الزراعي بشدة يجعل الضغط على إيرادات النفط شديداً ومتعدد الجوانب، إضافة إلى متطلبات الأمن الداخلي لحماية الأعياد والأحزان المتنامية, وخاصة في الأوساط الشيعية، بحيث أصبحت المأتم على الأولياء الصالحين تلتهم نسبة مهمة من ايام العمل السنوية، وبالتالي تؤثر سلباً على العملية الاقتصادية وعلى الدخل القومي وعلى موقف الإنسان من العمل والإنتاج. ** كثرة الموارد المالية الموجهة من بعض دول الجوار إلى قوى الإرهاب وإلى المتعاونين معه والتي تسهم في زيادة السيولة النقدية في السوق والذي يتطلب بدوره المزيد من الاستيراد حتى بلغت قيمة استيرادات عام 2007 حوالي 24 مليار دولار. إن وضع العراق الراهن يلعب دوره في متاعب العراق الاقتصادية والمالية. وإذا كان ارتفاع سعر النفط الخام للبرميل الواحد يسهم في زيادة السيولة النقد والإنفاق الحكومي غير العقلاني والبذخي ويخلق بدوره مشكلات كثيرة، فأن تراجع سعره يثير بدوره مشكلات أخرى بسبب استمرار وجود جملة من الظواهر السلبية الفاعلة في الواقع الاقتصادي العراقي. ومن هنا تزداد الآثار السلبية للأزمة المالية والا قتصادية الدولية على الاقتصاد العراقي. ولم تنفع كل تحذيرات الاقتصاديين العراقيين من مخاطر الواقع الاقتصادي الراهن ومن تأثير الأزمات الاقتصادية التي يصاب بها النظام الرأسمالي العالمي بين فترة وأخرى وعواقبها السلبية الحادة على شعوب واقتصاديات الدول النامية. لا بد لنا من القول الواضح بإن زيادة عوائد النفط الخام المالية لا تعالج أزمة الاقتصاد العراقي المزمنة، بل تزيده تأزماً بالارتباط مع السياسات الاقتصادية العراقية الراهنة وغياب وضوح الرؤية لما يفترض أن تكون عليه مسيرة التنمية الشاملة في العراق. وأن التخفيف الذي يشعر به المواطن حين ترتفع تلك الإيرادات هو مؤقت وجانبي ولا يعتبر معالجة جادة لمواطن الضعف الفعلية في الاقتصاد العراقي، بل السياسات الرشيدة الواعية لواقع وحاجات العراق الاقتصادية والاجتماعية ووضع كل ذلك في برنامج اقتصادي ينشط القطاع الخاص إلى جانب قطاع الدولة هو الذي يمكنه الاستفادة من عوائد النفط المالية وينمي الاقتصاد الوطني ويغير من بنيته الداخلية ويحسن من الأحوال المعيشية للفئات المنتجة والمجتمع. لقد فوجئت حقاً حين قرأت تصريحات السيد وزير المالية العراقي حين أكد بأن ليس في العالم من توقع مثل هذه الأزمة التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية، وحين اشار إلى عدم وجود من توقع احتمال حصول مثل هذا الانخفاض في أسعار النفط الخام. إذ بهذه التصريحات عبر عن سذاجة اقتصادية سياسية في فهم عالم الاقتصاد والمال وعن اتجاهات واحتمالات تطور الاقتصاد الدولي والاقتصاد الأمريكي وكذلك الاقتصادات الأوروبية وعن حالة البنوك العقارية والمالية والتجارية في العالم وعن سياسات المضاربات العقارية والمالية ونسب الفوائد والأرباح العالية جداً التي كانت تحققها بصورة اعتباطية ومن دون أرضية تستند إليها، فالخسارات في موقع ما أصبحت ارباحاً لجهة أخرى في إطار القوى المهيمنة على الاقتصاد العالمي. ومفاجأتي ليست بسبب هذه التصريحات الساذجة لوزير مالية، فالمقارنة مريرة بينه وبين الشخص الذي احتل هذا الموقع في العشرينات من القرن الماضي، ذلك الاقتصادي الكبير والعراقي الأصيل ساسون حسقيل وفي أكثر من وزارة في عهد عبد الرحمن النقيب وعبد المحسن السعدون وياسين الهاشمي بين 1920-1924، بل بسبب عدم وجود من يقرأ من مستشاريه الماليين لما يجري في عالم الاقتصاد والمال في العالم، أو لا يقرأ ما يكتبونه له حول توقعات الخبراء في العالم بالارتباط مع السياسات الأمريكية ليس في مجال المضاربات المالية وسياسات البنوك العقارية فحسب، بل وفي سياسات جورج دبليو بوش العسكرية والموارد المالية الهائلة التي توجه للحرب في العراق وأفغانستان وسياسات سباق التسلح الجديدة التي تنهك الاقتصاد الأمريكي وتزيد من مديونيته الداخلية وتضعف دور الدولار عالمياً ...الخ. في العالم المتحضر يحتل وزير المالية المرتبة الثانية بعد رئيس الوزراء بسبب أهمية وزارة المالية للاقتصاد والمجتمع, إذ أن السياسة المالية هي الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية, وحين تكون الأداة سيئة ستكون العواقب وخيمة. وحين تكون السياسة الاقتصادية سيئة والسياسة المالية اسوأ، كما هو حال العراق الآن, فأن العواقب التب يفترض أن يتوقعها الناس في كل الأحوال تكون وخيمة ايضاً. لست الشخص الوحيد الذي اشار منذ أكثر من عامين إلى أن النظام الرأسمالي العالمي، وخاصة الأمريكي، يعاني من بدايات أزمة حقيقية، وأن هذه الأزمة مرتبطة بالسياسات التي يمارسها المضاربون الأمريكيون والبنوك العقارية وغيرها، إضافة إلى سياسات الدول الصناعية السبع الكبار ذات الوجهة اللبرالية الجديدة. وقد أعدت الكرة في هذا المجال في حواراتي مع الصديق الفاضل والأستاذ القدير الدكتور سيار الجميل بحدود نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي إلى ذات المشكلة. وفي مقال عن اسعار النفط الآخذة بالتصاعد أشرت قبل أكثر من عشرة شهور وفي مقال واضح قلت بأن أسعار النفط الخام المرتفعة حالياً ليست اسعاراً حقيقية للنفط الخام، بل هي اسعار سياسية، وفي بعض جوانبها مفتعلة ومقصودة وستنتهي بسرعة بعد أن تكون قد أدت أغراضها في هذا الصدد، وفي بعضها الآخر بسبب المنافسة المحتدمة بين الدول والشركات الكبرى على النفط الخام، وبينت اسباب ذلك. كما أشرت إلى أن النظام الرأسمالي العالمي يعاني من أزمة حقيقية في مجال الديمقراطية حيث تتقلص الديمقراطية في هذه النظم ويتراجع دور المجتمع ومؤؤسات المجتمع المدني وتشتد ديمقراطية المندوبين في المجالس النيابية الذين يتحكمون بالبلاد دون العودة إلى المجتمع والذين يرتبط الكثير منهم بعلاقات مصلحية ويشكلون لوبيات للشركات الصناعية والتجارية والمالية العملاقة. ومثل هذه الأزمة السياسية - الاجتماعية لا بد لها أن تنعكس بقوة على الاقتصاد، والعكس صحيح أيضاً. إن ملاحظاتي هذه لم تأت من فراغ أولاً، وليست تنبؤات استثنائية ثانياً، بل هي ناتجة عن متابعة الوضع الاقتصادي والمالي في العالم والاطلاع على آراء المختصين الدوليين في هذه المجالات. وقراءة ما يكتبه الاقتصاديون العراقيون، وفي مقدمتهمن الأخ والصديق الدكتور صبري زاير السعدي الخبير والمستشار الاقتصادي المتميز والزميل الأستاذ الدكتور ماجد الصوري، يمكن أن تكون كافية لفهم ما يجري في هذا المجال. وفي حينها قلت لأحد الأصدقاء بأن سعر النفط يمكن أن يصل إلى حدود 160 دولاراً للبرميل الواحد، ولكنه بلغ في الواقع إلى حدود 150 دولاراً، ولكن كان توقع تراجع سعره مقدرا مسبقاً، إذ أن هذا الاختلال في السعر تسبب في اختلالات اقتصادية أخرى وساهم كأحد العوامل في نشوء الأزمة المالية والاقتصادية، كما أن الأزمة المالية عجلت في انخفاض سعر النفط الخام كثيراً، وأن انخفاض سعر الدولار ساعد على زيادة استيراد النفط الخام وتخزينه، إضافة إلى المنافسة بين الدول الصناعية على النفط الخام. ولكن السعر الحالي للنفط الخام هو الآخر غير طبيعي بل موجه ومقصود، إضافة إلى ارتباطه بمشكلة الأزمة الدولية وتراجع عمليات الإنتاج على الصعيد الدولي، وأن هذا سيخلق اختلالات أخرى على الصعيد العالمي. حين كنت أتابع ندوة اقتصادية يديرها السيد عماد في قناة الحرة تحدث الزميل الأستاذ الدكتور ماجد الصوري بوضوح تام مشخصاً الخلل المركزي في الواقع الاقتصادي العراقي وانكشافه الشديد على الخارج، وهو ما ورد في أكثر من مقال لي في الآونة الأخيرة. وقد شخص الخلل في الاقتصاد العراقي في عدة نقاط مهمة أتفق معه فيها تماماً، ومنها: 1 . عدم وجود استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعدم وجود سياسة اقتصادية للحكومة العراقية. 2 . الخلل في بنية الاقصاد العراقي واعتماده على النفط الخام وسوء توزيع واستخدام هذه الموارد المالية المتأتية من تصدير النفط الخام. 3 . الابتعاد غير العقلاني عن الاستثمار في القطاعين الصناعي والزراعي وما ينشأ عنهما من استمرار التخلف والمكشوفية على الخارج، وهي جزء عضوي من سياسة اللبرالية الجديدة. 4 . اعتماد العراق بشكل تام على الاستيراد وإغراق الأسواق المحلية بالسلع المستوردة حتى بلغ حجم الاستيراد في العام 2007 حوالي 24 مليار دولار أمريكي، وهي السياسة التي يمكن أن تجهز وتدمر ما تبقى من صناعة وطنية. 5 . ويمكن أن يضاف في هذا الصدد الفساد المالي السائد الذي يأتي على الموارد المالية لينهب الكثير منها بطرق شتى وسوء استخدام الباقي. إن السياسة التي تمارسها الحكومة العراقية حالياً ضيقة الأفق وقصيرة النظر وضد مصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي وعواقبها ستكون وخيمة إن تواصلت بهذه السياسة السيئة الراهنة، سواء أدركت ذلك أم لم تدركه. ويوم أول أمس (12/12/2008) قدمت قناة الحرة مقابلة مع السيد عادل عبد المهدي، نائب رئيس الجمهورية العراقية، حول جملة من الأمور، ومنها القضية الاقتصادية، أكد بدوره على غياب سياسة اقتصادية حكومية سليمة في العراق. والغريب، أن كثرة من المسئولين يتحدثون عن هذه المشكلة، ولكن الجميع لا يبادر إلى الضغط باتجاه التغيير, وكأن شللاً عاماً يعم حركة المسئولين نحو إعادة النظر بالسياسة الاقتصادية العراقية. فمن المسئول عن هذا الشلل؟ لن تعالج الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة بعصا سحرية ولا بقدرة قادر، ولا يمكن التعكز على قاعدة "لا تفكر لها مدبر"، بل بتغيير الواقع الحكومي الراهن، بتغيير من بيدهم الحل والربط الذين وصلوا إلى الحكم عن طريق المحاصصة الطائفية واستولوا على مقاليد الاقتصاد والثروة في المجتمع والتي تستخدم اليوم، كما في الأمس، في غير خدمة الاقتصاد والمجتمع. الحلول الترقيعية مع بقاء الرؤية الضبابية حول التنمية الاقتصادية والبشرية وهيمنة فكر التجارة الحرة وفتح الأبواب كلها وعلى مصراعيها أمام الاستيراد لاستنزاف موارد البلاد المالية المتأتية من النفط الخام وبقاء الصناعة التحويلية والزراعة في أدنى مستوياتها وأضعف مما كانت عليه حتى في فترة الحكم الملكي، بل وقبل تأسيس مجلس الإعمار ووزارة الإعمار في العام 1851/1952، واستمرار البطالة الواسعة وتفاقم البطالة المقنعة في أجهزة الدولة، سيقود كل ذلك وغيره البلاد إلى طريق مسدود وإلى عواقب وخيمة حتى في حالة استعادة النفط لسعر معقول يترواح بين 60-75 دولاراً للبرميل الواحد. وحين يتم وضع سياسة اقتصادية جديدة في ضوء استراتيجة تنمية واقعية، في مجالات الصناعة والزراعة والصناعات الصغيرة والخدمات الاجتماعية الإنتاجية وذات المنافع العامة والحد من الانفاق الحكومي الاستهلاكي البذخي وترشيد التجارة الخارجية وزيادة استثمارت تحديث قطاع النفط الاستخراجي بتقنيات حديثة مقللة للكلفة ورافعة للطاقة الإنتاجية السنوية وامتصاص البطالة عبر العملية الإنتاجية والخدمات الإنتاجية للبنى التحتية، وخاصة إنتاج الطاقة والماء، ودعم نشاط القطاع الخاص وتوفير مستلزمات نموه في الإنتاج وتنشيط سياسة الادخار الفردي، لا بد عندها من تغيير مماثل في الساسات المالية والنقدية والسياسة الاستثمارية التي لا وجود لها فعلي في العراق حالياً، وكذلك السياسات السعرية والضريبية وسياسات القروض المصرفية لأغراض الاستثمار والفوائد وسعر الصرف الخارجي وتنويع سلة العملات الأجنبية والتحويل الخارجي، عندها سنجد إمكانية فعلية للحديث عن تراجع الأزمة الاقتصادية في العراق, وعندها يمكن ان نتابع حثول معدلات نمو مرتفعة في الاقتصاد. إن الحديث الذي يجري حالياً عن حجم الإنتاج الإجمالي ومعدل حصة الفرد الواحد منه سنوياً بشكل عام غير عقلاني وغير نافع، بل يفترض البحث في بنية أو تركيب حجم الإنتاج الإجمالي ومدى مشاركة القطاعين الصناعي التحويلي والزراعي فيه، وثم البحث في أسس توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي في الاقتصاد العراقي وفق علاقة سليمة بين ما يوجه لأغراض الاستثمار وما يوجه لأغراض الاستهلاك العام والخاص وسبل استخدام ذلك ومدى عدالة هذا التوزيع في المجتمع.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |