ثقافة الحذاء الصدامية وإهانة مهنة الصحافة!

 

كاظم حبيب

anoori41@hotmail.com

قبل البدء بالتعليق على هذا الحادث غير الحضاري الذي جرى في إحدى قاعات مجلس الوزراء العراقي واستخدام "الصحفي!" منتظر الزيدي لحذائه بدلاً من سلاح الصحافة الوطنية والدولية الوحيد, الكلمة الحرة والجريئة والمحرجة والمفحمة, أود الإشارة إلى بعض المسائل المهمة التي لا تخفى على من يستطيع التفكير بعقلانية ويمتلك الحس المرهف لمواجهة الأمور:

1 . لو حصل مثل ما حدث بوجود السيد المالكي في فترة حكم صدام حسين, لكان منتظر الزيدي في ذات اللحظة في عداد الأموات هو وأفراد عائلته حتى ثالث ظهر من جهة, ولربما كان قد قتل العديد من الصحفيين المجاورين له اثناء ذلك من جهة أخرى. ولا يمكن لأي إنسان عراقي أن ينكر ذلك.

2 . ولا شك في أن سهام النظام الصدامي كانت قد توجهت أيضاً إلى قناة البغدادية التي حولت برامج قناتها إلى "عيد حذائي" يناسب سياسة القناة وغمرت الناس بالأناشيد الوطنية والقومية وكأنها تحتفل بعيد انتصار الشعب العراقي على الفقر والجهل والمرض والطائفية السياسية, وهي تذكرنا بسياسات وبرامج القنوات التي كان يشرف عليها ويديرها الشقي المجرم عدي صدام حسين ووالده. 

 3 . هناك اختلاف حقيقي بين من أيد الحرب ضد النظام ومن كان ضدها, بغض النظر عن الموقف من النظام الصدامي في حينها, فأن هذا الاختلاف يفترض أن يتحرى الإنسان عن سبل معالجة الأوضاع, بعد أن اصبحت الحرب في عداد الماضي, بروح أخرى غير رمي الأحذية أو حمل السلاح, علماً بأني كنت ضد الحرب وضد الاحتلال في آن واحد, وكذلك ضد السياسات التي مارستها الإدارة الأمريكية في العراق وشجبتها بقوة وخاصة سياسة التمييز الطائفي والمحاصصة وسياساتها في معتقل "ابو غريب" , وسياساتها الاقتصادية ...أو نقلها للقتال ضد الإرهاب إلى أرض العراق مباشرة ... الخ. وقد كتبت عن هذا الكثير ولا أدعيه الآن.

4 . ربما نختلف أو نتفق بأن الولايات المتحدة قد ارتكبت بحربها وبعد الحرب اخطاءً فادحة. ولكن , رغم هذه الحقيقة , فأن الشعب العراقي قد تخلص من نظام سحق كرامة كل العراقيات والعراقيين بحذائه ومن سيطرة أبشع دكتاتور مجرم عرفته المنطقة بأسرها خلال القرن العشرين هو صدام حسين الذي مزق العراق وإقام حكمه على اشلاء العراقيين وعلى القبور الجماعية وعلى تهجير الكرد الفيلية والعرب الشيعة  وعمليات الأنفال الدموية وتجفيف الأهوار. ولم تبق عائلة عراقية في كل أنحاء العراق لم تفقد لها واحداً أو أكثر من أفرادها, بل حتى بعض أفراد عائلته وجد الموت على يدي هذا الدماتور الأهوج, الذي سمي يوماً بقائد الضرورة وقائد الأمة العربية .. التي فاقت أسماؤه أسماء الله الحسنى!

5 . كل صحفيي العالم لا يملكون سلاحاً غير سلاح الكلمة الحرة والجريئة والقادرة في التعبير عن مشاعر الصحفي ولا يحق للصحفي في كل الأحوال أن يستبدل ذلك بالسلاح أو الحذاء. ولهذا يقتل الصحفي على ايدي إرهابيين دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه بأي سلاح كان. ولكن هذا الصحفي البائس فكرياً استخدم الحذاء الذي لا أعتقد بأنه إضاف إلى شرفه شرفاً, بل أساء إلى شرفه الصحفي وشرف الصحافة. وتصور أنه بهذا يستطيع أن يخلد نفسه, وربما كذلك ولكن في أي صفحة من صفحات التاريخ سيسجل هذا الحدث! من يضمن أن لا تضطر الحكومات إلى أن تفرض على الصحفيين في العراق خلع أحذيتهم قبل دخول المؤتمرات الصحفية لكي لا تتكرر الحادثة! لقد قدم نموذجاً وقحاً وسيئاً لكل صحفي العالم.   

6 , كلنا يدرك بأن جورج دبليو بوش كان ممثلاً لسياسة اللبرالية الجديدة الفاشلة في العالم لا في المجال الاقتصادي فحسب, بل وفي المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية, ومنها الحروب الاستباقية. وفي العراق لا ترتاح غالبية الناس إلى جورج دبليو بوش, وبالتالي حصد هذا الرجل غضب شعوب العالم وقاد حزبه إلى الفشل الذريع في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. ولكن ما من إنسان عاقل في العالم فكر في ممارسة رمي الحذاء عليه, لأن في هذا تعبير عن عدم احترام الصحفي لنفسه ولمهنته والذي يفترض أن يعاقب من نقابة الصحفيين أولاً وقبل كل شيء. ولا شك في أن من أيده لا يختلف عنه في الجهل والبؤس الفكري والسياسي وهيمنة العاطفة على العقل, فـ "شبيه الشيء منجذب إليه".

7 . إذا كان رمي الأحذية عملاً غير حضاري ومن أعمال أولاد الشوارع في كل الأحوال, فأن ممارسة ضرب الصحفي في القاعة من جانب الحماية المسلحة بدلاً من اعتقاله وتقديمه إلى محاكمة عادلة أمام القضاء العراقي لإهانته رئيس دولة زائر ورئيس وزراء عراقي مضيف, بغض النظر عن موقفنا من تلك الدولة أو من السيد رئيس الوزراء, هو الآخر عمل غير حضاري ولا يعبر عن وجود دولة قانون في تلك القاعة في كل الأحوال.

8 , لا شك في وجود وجهات نظر مختلفة بشأن هذا الفعل غير الحضاري, فهناك من احتفل به, كما لاحظنا ذلك في مدينة الثورة في بغداد أو قناة البغدادية, وهناك من اعتبره إهانة للعراق. وللحقيقة اقول بأن ثقافة استخدام الحذاء هو جزء من ثقافة النظم القائمة على التقاليد الأبوية العشائرية ( بالكاله ناخذ لندن) والنظم الدكتاتورية ومدرسة صدام حسين الاستبدادية. (أشير هنا بأن جلادي أجهزة الأمن الصدامية كانوا يستخدمون الأخذية أيضاً في التعذيب, حيث كانوا يضربو الضحية على رقبته بهدف إلحاق أكبر الأذى بحبله الشوكي. وقد مورس هذا الأسلوب , إضافة إلى أساليب التعذيب الأخرى, معي حين كنت معتقلاً في جهاز الأمن الصدامي في البتاويين في تموز/يوليو من العام 1978, وقج كان قد كتب بخط يده ما يفترض أن يجري معي في فترة الاعتقال والتي كشف الورقة لي في حينها الدكتور فاضل البراك , مدير الأمن العام حينذاك).  

هاج وماج الكثير من العرب في الدول العربية, وكذلك في مدينة الثورة في العراق, حيث لا تزال معقل الصدريين, وحيث ينحدر "الصحفي الغضنفر" منها , بما قام به هذا الصحفي الأرعن. وليس هذا بغريب في بلدان ما تزال العاطفة تسير الناس وما زالت المجتمعات تعاني من بؤس فكري وسياسي واجتماعي وثقافي واسع النطاق وعميق الجذور, ولكن الغريب أن تتطوع نقابة الصحفيين العرب ومنظمات عربية أخرى لكي تدافع عن عمل لا يشرف مهنة الصحافة ولا يشرف النقابة التي تدافع عن مثل هذا الفعل , بل كان الأجدر بها أن تدين هذا العمل وتشجبه وتطالب بمحاكمة عادلة وشرعية له على وفق القوانين العراقية المعمول بها حالياً وليست على وفق قوانين فترة حكم صدام حسين التي كانت تقتله ثم تحكم عليه بعد موته بالإعدام.

إلى أولئك الذين تطوعوا دفاعاً عن هذا الصحفي البائس, أين كانوا حين كان المجرم صدام حسين يقتل بالعراقيات والعراقيين من عرب وكرد وتركمان وغيرهم, أين كانوا حين كان القتل يخطف عشرات بل مئات الوف الناس في كردستان العراق وفي الوسط والجنوب والكثير من البشر في سامراء والموصل والدليم . وخاصة بين الضباط من المناطق الأخيرة.

أدرك تماماً بأن الغالبية العظمى من الشعوب العربية تعاني من البؤس الفكري والفاقة الثقافية وضعف الوعي السياسي وغياب التنوير الاجتماعي والديني, وأعرف أيضاً قوة العاطفة المهيمنة على سلوك الغالبية العظمى من الناس في بلداننا, ولكن أعرف أيضاً بأن هذه الحالة هي نتاج سياسات الغرب القديمة, وكذلك نتاج سياسات الحكومات المتعاقبة على السلطة في الدول العربية حتى الوقت الحاضر التي مارست الاستبداد والقوة والعنف في قهر الثقافة والمثقفين في بلدانها ومنع التنوير من الوصول إلى  فكر وذهن الناس.

الكثير من بنات وأبناء شعوبنا يرتع في الجهل والأمية السياسية , ويعاني من علل نفسية كثيرة ويحتاج إلى عناية طبية ونفسية فائقة, وإلا لما صفق هذا الكثير لرمي فردتي حذاء في مؤتمر صحفي باتجاه المنصة التي كان يمكن أن تصيب الاثنين والعلمين في آن واحد. الصحفي الذي استخدم الحذاء مريض نفسي ويعاني من مرض عصبي في آن, وإلا لكان قد استخدم أقوى الكلمات وأكثرها جرأة في مواجهة من كانت سياساته سبباً في الكثير من المشكلات في العراق والتي سنبقى نعاني منها فترة طويلة لاحقة.    

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com