|
زراعة أعيُنهم محلَّ أعيننا .. علاجُ عمانا
جلال القصاب مع أوبة حجّاج بيت الله (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) حيث تساوت مجاميع الإنسان المتنوّعة بلا مائز، تعريجاً بذكرى انقضاء ستة عقود لصدور الإعلان العالمي "لحقوق الإنسان" وحرّيته وكرامته، وعطفاً بتنامي "الثقافة الحقوقيّة" في وعينا العامّ لدرجة إعلان وزير التربية نيّته إدراج مادّتها بمناهج التعليم منذ الابتدائية، إلاّ أنّ بيان اختتام مؤتمر التنمية في الدوحة المُعنى بتداعيات الأزمة الاقتصاديّة العالمية أقرّ بعجزِ العالَم رُغمَ تقدّم تقنيّاته: "عن تلبية أبسط احتياجات الإنسان من: الأمن الغذائي العالمي، الهواء النقي والمياه المأمونة، المصادر المستدامة من الطاقة، بل والحدّ الأدنى من الرفاه لنصف سكان العالم، ولا يزال الفقر والجوع والأوبئة والأمراض تهدد أجيالنا المقبلة..الخ"! هذا الفشل عبّرت عنه نبوءات مأثوراتنا المستشرفة خارطة وجودنا بـ"امتلاء الأرض ظلماً وجوراً"، وحفّزت الصالحين لخلق تيّار "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً"، "قسطاً" بإعطاء كلّ كائنٍ حقّه، "وعدلاً" بالمساواة بين مكوّنات عالَمنا الإنساني في الكرامة والحقوق والواجبات، أي لتصيير "الأنا" و"الآخر" سواء، كمواقف الحجّ. وللمباشرة بخلق منظومة هكذا ينبغي تغيير ما بأنفسنا، وإلاّ فالعالَم سيُراوح مكانه لستّين سنةٍ أخرى، وسيُقرّ بفشله حقوقياً وإنسانياً ولو بلغ زُحَل بتقنيّانه. نظرتنا للآخر ينبغي تغييرها في لبّ عقائدنا لنمنحه مساحةً بحجم مساحتنا، وإلا "فالأنانية" ستحكمنا لاجتياحه وسلب حقوقه، تلك التي صنّفت العالم شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وعولمت الفقر والجوع والأمّية والمرض، والاستبداد والعنصرية والاحتكار والمادّية والبطر. العملية سهلة لأنّ عقبتها الوحيدة أنفسنا، وصعبة لأنّ عقبة "الأنا" أكأدها، لقد كان النبيّ(ص) إنساناً قبل بعثِه رسولاً، لذلك اكتملت الإنسانية فيه بالرسالة والوحي ولم تتقزّم كحال بعض مَن يتردّى أردية العلم أو الدين، ظلّ للناس أبًا رحيماً وللمساكين كفيلاً. هذا الإنسانُ المتوهّج(ص) هدانا السبيل؛ أنّه لأجل نشر العدالة "طولا وعرضاً"، علينا بتغيير نظرتنا للآخر (القويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه، والضعيف عندي قويّ حتى آخذ الحقّ له)، علينا ببساطة استبدال مواقعنا مع الآخر (بي إنْ هِز شوز Be in his shoes)، لنتمثّل القاعدة الحقوقيّة الذهبيّة: (أحبَّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها). "فالرجل" ليُدرك كم "المرأة" مسلوبة حقوق وكرامة، عليه ألاّ يقبع في عقليّة "الرجل"، بل ليتخيّل نفسه "امرأة". و"المسلم" ليدرك حقّ "المسيحي والبوذي وغيرهم" بحرّية الاعتقاد وإقامة الشعائر، ليتصّور نفسه أحدهم ولينظر ماذا يأمل لنفسِه من عدلٍ وقسطِ حقوق؟! وكذا السنّي والشيعي وتوابعهما... والأكثريّة لتتخيّل نفسها أقلّية، فما تصوّرته من حقوق طبيعيّة هو المطلوب، والكبير ليتصوّر نفسه صغيراً.. والأبُ ابناً.. والفقيهُ عاميّاً.. والحاكمُ محكوماً، لن نُقيم "القسط والعدل" طالما فكّرنا بعقلنا الحجَري وبهوانا الذاتي، بل بتوقّع طموح الآخر وبمنظارِ عينيْه، الحاكمُ والراعي والكبيرُ ينبغي أن يكونوا عند طموح وآمال مَن دونهم (الآخر) (إذا أحسن بك امرؤٌ ظنًّا فصدّق ظنّه)، وكان في رمزيّات محكيّاتنا يتنكّر الملكُ بثياب رثّةٍ ويعيش كالمستضعفين والمقهورين ليختبر قسوة الحياة وليتلمّس حقوقهم الضائعة فتُسنّ معاينةً القوانينُ المُقيمة لها، حتى في الثقافة الأوربية نسجوا للملك آرثر مُعمّم العدل والرفاه مثلَ هذا الصنيع بمدينة "كاميلوت" (وتعني الكاملة)... على السجّان (وزيراً.. ضابطاً.. مشرّعاً) أن يجرّب ضيق السجن وطعامِه ونظامه الصحّي ولياقة أنشطته وحرّيته الثقافية، ليُوفّر حقوق السجين.. العاملُ والعاملة احسبهما أنت وأخاك وابنتك، لتُدرك أصيل حقوقهما، بعضُنا لا يرى للخادمة المنزلية أيّ حقّ إنساني آخر تُطوّر فيه نفسها خارج ساعات خدمتها المحدّدة.. القرآن يغرس فينا هذه النظرة الإنسانية السامية على "الأنا" لترمق بعيْن الآخر (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ) يدعونا لأنْ نتصوّر ذرّياتنا الضعاف هم أولئك المساكين واليتامى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ). والنبيّ(ص) يتعامل بهذا الميزان حين جاءه من يطلب رخصةً ليزني فسأله (أوَترضاه لأمّك.. لأختك؟) (فإنّهنّ أمّهات وأخوات وبنات آخرين). إنّ الأنانيّة (بالتفكير داخل الصندوق) أو (الإطلال من القصر العاجي) أكبر مصانع سرقة الحقوق الإنسانية، إذْ تُعمينا استبصار حقّ الآخر كمساوٍ لحقّنا، وتُضخّم لنا الأنا (الذاتية/المذهبية/الطائفية/الحزبية/القبلية/النخبوية/الدينية) فتقرّر بالتالي اعتقادات ومقولات ومزاعم: (نحن أبناء الله/المذهب الحقّ/الطائفة المنصورة/الفرقة الناجية/العنصر السامي/الممثّل الشرعي والوحيد..)، تلك التي أنتجت وصم الآخر مِن: معتزلة، قرامطة، جهميّة، قدريّة، أشعرية، رافضة.. وكلّ مختلف، ببطلانه وكفره ونسبة الرذائل والتحلّل والإباحيّة والإلحاد إليه، أفضت للاعتقاد بأنّ ألواناً من الناس يستحقّون الاستباحة، ولا يستحقّون الكرامة، خلافاً لتأكيده سبحانه (ولقد كرّمنا بني آدم)! الثقافات التي اعتقدتْ بالتناسخ، قطعت شوطاً في إحلال "الأنا" مكان "الآخر"، فاتّقتْ ظلم الحيوان اعتقاداً بأنّه ربّما يكون أحد قراباتنا، نحن نُشاطرهم الحكم وليس العلّة، نحتاج هذا الشعور وليس العقيدة، شعوراً كشعور موسى(ع) يتأمّل كلباً مريضاً، فيُخاطب دخيلته: "لعلّه خيرٌ مني، فأنا أعلم بذنوبي"، وأدباً كآداب الأوّلين: "إذا رأيتَ الذي أكبر منك فقل: سبقني إلى الإيمان، وإذا رأيت الذي أصغر منك فقل: سبقتُه إلى الذنوب". العهدُ الدولي يتوخّى الجانب التشريعي والقانوني.. فقصُر أن يعمل بدواخلنا، وإنّنا نتوخّى تغيير المنظومة الثقافية والشعوريّة، أي الفعل الإرادي لتطوير أحاسيسنا وقناعتنا بحقوق الآخرين وكرامتهم، وبوجوب عدلنا معهم: (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). القانون يأتي كبديل موازٍ حين تتعدّى الناس إنسانيّتها وتراحمها ورقابتها الذاتيّة، فالجشع والعدوان والاستعلاء أعراضُ عدمِ رؤية الآخر: (الربّ، الطبيعة، الإنسان)، وهي دائماً تفترض للذّات حقّاً أكبر من مستحقّها، لذلك يُرينا الميراثُ الديني التهذيبي أنّ "المسخ" حصل كإحدى عقوبات المتعدّين على الآخر (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، اعتدوا على حيوان بصيده خارجَ أوانه، فمُسخوا حيوانات ليذوقوا شعور الكائنات التي ظلموها، كما يُخبرنا ذلك الميراث العظيمُ أنّ المغرورين الذين يدوسون الآخرين ويسحقون كرامتهم سيُعاقبون بحشرهم على صورة حشراتٍ يطأها الناس، ينبغي أن نرى أنفسنا بعين الآخر، لنرى مقدار بخسنا حقوقه، فنتأهّل لبسط العدل والقسط "طولاً وعرضاً".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |