|
الديمقراطة .. تعاقب
نـزار حيدر لم يعد عند الناخب العراقي، اليوم، ما يتحجج به، اذا اخطا الاختيار في انتخاب ممثليه في الانتخابات القادمة، والخاصة بمجالس المحافظات. فبعد ان طوى مرحلتين انتخابيتين، تكون قد اكتملت عنده التجربة، فعرف المرشحين وتياراتهم واحزابهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم ومصداقيتهم جيدا. يفترض انه سيميز بين الصالح منهم والطالح، وبين الصادق والكاذب، وبين الامين على العهد والخائن له، وبين الوطني الذي يحمل اجندات عراقية صافية، والاخر الذي يرتبط بقوى خارج الحدود، اقليمية كانت ام دولية، لا فرق. لقد تحجج الناخب العراقي في المرتين السابقتين بانه لم يكن يمتلك التجربة الكافية ليميز بها مصالحه الوطنية بشكل سليم، كما انه تحجج وقتها بجهله بحقيقة وماهية المرشحين، وعدم معرفته بهم ربما بسبب حداثة التجربة او بسبب قانون الانتخابات الذي فرض عليه طريقة القوائم المغلقة، فكان الناخب يصوت لقائمة وليس لمرشح بذاته، اما هذه المرة، فلم تعد كل هذه مبررات للخطا، فالمدة الزمنية (5 اعوام) كافية لاختبار (المرشح) والتعرف عليه، كما ان قانون الانتخابات تم تحسينه بشكل افضل من السابق. هذه المرة يجب على الناخب العراقي ان يستخدم وسائل الديمقراطية لمعاقبة اللصوص والكذابين والخونة ممن رفعوا شعارات ولم يلتزموا بها، ووعدوا ولم يفوا، فالديمقراطية بمعناها الصحيح التي تقوم على اساس حرية الاختيار، قادرة على ان تعاقب المسئ، شرط ان يعرف الناخب كيف يستخدمها في الوقت والمكان المناسبين. وان اول من يجب ان تعاقبهم الديمقراطية، فيحجب عنهم الناخب الثقة، هم المتورطون بالفساد المالي والاداري، على اعتبار ان هذا الفساد هو اليوم اخطر من الارهاب، حتى، لانه ينخر الدولة من الداخل ويدمرها معنويا قبل ان يدمرها ماديا. يجب ان يعاقب الناخب كل المتورطين بهذا الفساد، شريطة التدقيق في المعلومات حتى لا يقع احد ضحية المعلومات الكيدية، الى جانب عدم التشهير والامتناع عن استخدام الاساليب غير الحضارية في المعاقبة، خاصة قبل التثبت واصدار الحكم من الجهة المعنية، الا اللهم ان نتاكد من وثائق الادانة التي بحوزتنا، والتاكد من ان اللص محمي بقانون المحاصصة، عندها {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم، وكان الله سميعا عليما}. اما اذا ظل الناخب تتقاذفه الشعارات وتغريه الازياء وتستهويه اللافتات، فيظل اضحوكة لكل من هب ودب من المرشحين، فاننا سنشهد عملية عكسية، اذ ستعاقب الديمقراطية الناخب وليس المرشح، وهذا سببه، عادة، اصرار الناخب على ان يضحك على ذقنه قبل ان يضحك عليها الاخرون، واصراره على تقديم منافعه الخاصة، الحزبية مثلا او العشائرية او المناطقية، على المنفعة العامة. وكما ان الديمقراطية تعاقب، كذلك فانها تكرم، وفي كلا الحالتين على يد الناخب نفسه. كذلك فان الناخب سيعاقب من ظل يتذرع بالسين والسوف، من دون ان ينجز شيئا، والاخر الذي ظل يتحجج بالظروف، حتى انتهت مدة استخلافه في موقع المسؤولية. الناخب عليه ان يكرم الناجح فقط، او ان يبحث عن آخرين اقرب ما يكونوا الى تطلعاته وما يصبو اليه. من الجريمة بمكان ان تمر الانتخابات القادمة، من دون ان تكرم الناجح وتعاقب الفاشل، فذلك ظلم كبير، فالتغيير نحو الافضل مرجو في الانتخابات القادمة، لا محالة. يقول الامام امير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد في عهده الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر {ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة، والزم كلا منهم ما الزم نفسه}. ومن اجل ان يبني الناخب موقفه على اسس سليمة، فيختار الصحيح بالاعتماد عليها، يجب ان يضع في حساباته ما يلي: اولا؛ ان يشك فيمن يحاول شراء صوته وولاءه، وبأية طريقة، بالمال او بالمنصب او بقطعة الارض، او باي شئ آخر، فالذي يشتري الناخب اليوم يمكن ان يبيعه غدا، وان الناخب الذي يبيع صوته للمرشح، لا يحق له ان يطالبه بشئ بعد فوزه في مقعد المسؤولية، لانه سيجيبه بانك قبضت الثمن سلفا، فماذا تريد مني اكثر من هذا؟. ثانيا؛ كما ان على الناخب ان يشك في كل من يحاول تهديده وانذاره، سواء من خلال توظيف الرصاصة، او من خلال توظيف (الفتوى الدينية) لارهابه وتخويفه، ليدفعه دفعا باتجاه انتخاب مرشح معين او قائمة بعينها. على الناخب العراقي ان يعاقب كل من يحاول ارهابه، وباية وسيلة كانت، من خلال حجب الثقة عنه وعدم انتخابه، فالذي يخيف الناخب وهو بعد خارج موقع المسؤولية، سيرهبه بالتاكيد عندما تقع بيده السلطة، وتاليا المال والجاه والقوة، فاليحذر الناخب (الارهابيين) الذين يتوعدونه اذا لم يعطهم صوته. كذلك، فان من يصوت لصالح من يرهبه، سيسقط حقه في محاسبته عندما يعتلي مقعد المسؤولية، لانه فقد شجاعته واسقط هيبته امام المرشح سلفا. والناخب الذي لا يتحلى بالشجاعة التي تؤهله لان يدلي بصوته بكامل الحرية ومن دون ضغط او اكراه، كيف له ان يمارس حقه في الرقابة والمحاسبة والمساءلة، فترة ما بعد الانتخابات؟. ثالثا؛ برايي فان على الناخب العراقي ان لا يساهم في تكريس ديكتاتوريات جديدة من خلال تركيز التصويت على جهة معينة، فالتعددية مطلوبة، عبر اختيار الافضل من كل قائمة او تيار او حزب. كما ان على الناخب ان لا يعطي صوته لكل من يكرس سلطة العشيرة والاسرة والعائلة، حتى لا تعود تجربة الحكم البائد مرة اخرى، بل عليه ان يمنح صوته لكل من يساهم في تكريس سلطة الدولة والوطن والدستور والقانون. كما ان على الناخب ان يحذر من التصويت لايتام النظام البائد، ممن تلطخت ايديهم بدماء الابرياء، وكذلك للارهابيين الذي لبسوا مسوح التوابين لخداع الناس. وعليه ان لا يمنح صوته للمتهالكين على السلطة، فلقد اثبتت التجربة ان هذا النموذج لا يصلح لشئ، وانه يقول ما لا يفعل، وانه لا يقدم للناخب اكثر من الكلام المعسول الذي يصل في احيان كثيرة الى حد الهراء. وللناخب ان يعرف مثل هذه الاتجاهات من خلال الدعاية الانتخابية، فليطلع جيدا على ما يقوله برنامج المرشح، فردا كان ام قائمة، وليتابع ما يعرضه المرشح ايام الانتخابات من بضاعة دعائية، فاذا كان اعتماد المرشح على الصورة فقط، صورته الشخصية ام صورة آبائه واجداده، لا فرق، فليعلم الناخب بان مثل هذا المرشح تاجر مخادع، يريد من الناخب ان يصوت للصورة او للماضي وليس لبرنامج او لمشروع، وفي هذه الحالة فان على الناخب ان يقلع عن انتخابه ويدير له ظهره ولا يعيره اهمية تذكر. على الناخب، هذه المرة، ان لا يقبل حججا واعذارا من الفاشل في موقعه، اذ ليس امامه الكثير ليكرر التجربة مع الفاشلين، وكلنا نعرف، فان الحجج كثيرة والاعذار لا تعد ولا تحصى، ولو اردنا ان نعذر احدا لعذرنا غيره، ما يعني اننا سوف لن نمارس حقنا في التغيير ابدا، لان العذر يتبعه عذر آخر، وهكذا دواليك، والى متى؟. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الله تعالى لم يخلق احدا ثم كسر قالبه حتى لا تتكرر النسخة، فالحمد لله فان في العراق الكثير جدا من الكفاءات والقدرات والخبرات القادرة على ملء اي فراغ يحصل بسبب معاقبة الديمقراطية للفاشلين، واقصائهم عن موقع المسؤولية، والامر لا يحتاج الى اكثر من ان يبذل الناخب قليلا من الجهد لاكتشاف الطاقات الجديدة التي تم اقصاءها بسبب او بآخر، وليس الى اكثر من الانتباه الى هذه الطاقات لتتقدم الصفوف وتاخذ مكانها الطبيعي في مواقع المسؤولية. ربما خدعتنا الشعارات والازياء في الانتخابات السابقة، او ربما لاننا كنا بحاجة اليها لرص الصفوف، لا ادري، الا ان الذي اعرفه هو اننا اليوم لسنا بحاجة الى محفزات للتدقيق في انتخاب المرشح الاكفا، خاصة وان تجربة الاعوام القليلة الماضية من الديمقراطية علمتنا بان البلاد لا تبنى بالشعارات، وان الاقتصاد الناجح والمتين والقادر على النهوض بالمستوى المعاشي للمواطن، لا يمكن بناءه بنوعية ولون الزي الذي يرتديه المرشح، كما ان التعليم والبحث والدراسات العلميا لا ينجزها الاميون والجهلة، وان قطاع الصحة لا تحسن اداءه اللافتات والاعلام بالوانها الزاهية. لقد علمتنا التجارب باننا بحاجة الى الكفاءة والحزم والامانة والادارة لانجاز المهام التي ننتظرها من المرشح القادم، فالموقع مسؤولية، والمسؤولية ثقيلة جدا، يجب ان يتحمل اعباءها الناخب قبل المرشح، من خلال التدقيق في هوية من سيمنحه صوته ويحمله الامانة. كذلك يحتاج الامر الى ان يتخلص الناخب من العصبية والحزبية وبعضا من التزمت الديني والاخر في (التقليد) لينفتح على الطاقات وينظر لها بعين المنصف الحريص ليس على (جماعته) وانما على بلده وشعبه ومدينته. ان معاقبة الديمقراطية للمقصرين هي نعمة للناخب وللمرشح، للناخب لانها ستساعده على استبدال السئ بالاحسن، وغير الكفوء بالكفوء، وهكذا، اما انها نعمة للمرشحين، فلانها تنبههم الى خطئهم وتقصيرهم، وتصلح افكارهم ورؤاهم وطريقة عملهم واداءهم، كما انها تحذرهم من تكرار ما وقع فيه قبلهم من المسؤولين، وتحملهم على الحذر عند التعامل مع الموقع. ان من اللازم علينا ان نتسلح بالقابلية على الاقرار بوجود توجهات مختلفة في المجتمع، من خلال الاعتراف بقدرة الناخب على استخدام الديمقراطية وتوظيف ادواتها لانزال اقسى العقوبة في من قصر بواجبه من خلال حجب الثقة عنه في الانتخابات التالية. على الناخب العراقي ان يرصد اي نوع من انواع الاستبداد الذي يخلق جوا من الرهبه تفقده القدرة على الاختيار الحقيقي والواقعي لممثليه ووكلائه. فالاستبداد، كما نعرف، على نوعين، هما الديني والاخر السياسي، والاول اخطر من الثاني بكثير، لان الثاني يستهدف الجانب المادي من الانسان، جسده وجوارحه، اما الاول فيستهدف عقله وروحه وارادته، ولذلك حذر منه القران الكريم اكثر مما حذر من النوع الثاني. الاستبداد السياسي يوظف السلطة وادواتها للقمع، اما الاستبداد الديني فيوظف (الله) وكل رموزه على الارض، كالدين والشعائر والمرجعية والزي والشهداء، الاحياء منهم والاموات، لقمع الانسان وارهابه وارعابه، على طريقة الخلفاء الفاسدين الذين ادعوا انهم (ظل الله في الارض). وكلا الاستبدادين يستهدفان مصادرة حق الانسان في الاختيار، ذلك الحق الالهي الذي وهبه رب العزة للانسان عندما خلقه {في احسن تقويم). يجب ان يرفض الناخب استخدام المرشح للمقدسات لفرض رايه عليه، اذ ان على الناخب ان يعلم المرشح كيف يخدم المقدسات، لا ان تكون المقدسات في خدمته وفي خدمة اجنداته، وهذا يتطلب ان تتراجع المقدسات في الدعاية الانتخابية الى الوراء لتحل محلها صدق الحديث ووضوح البرنامج وحماسة الاستعداد لخدمة المواطن، والكفاءة والخبرة والنزاهة، فاذا حضر كل هذا في الحملة الدعائية للمرشح، وفاز وثبت على عهده، عندها سيكون في خدمة المقدسات بشكل انسيابي وليس بطريقة تعسفية او اقحامية مزيفة، وان العمل الجاد على تحقيق مصالح الناخب تقف على راس المقدسات، لان ابرز مسؤوليات السلطة، كما هو معروف وثابت، صيانة الحقوق، حقوق المواطن. ان مشكلة بعض (المقدسين) ممن يوظفون (الدين) لخدمة اهدافهم، هي انهم يصنفون توجهاتهم على انها (دين) اما توجهات الاخرين، فمتمردة على الدين، بل معادية له، فتراهم يقولون، وان بالتلميح وليس بالتصريح، ان من هو معهم (دينيا) ومن هو مع غيرهم (لا دينيا) وكانهم ملكوا صكوك الغفران، او نصبتهم السماء خلفاء لله في ارضه. بهذه المعاني يتولد الاستبداد الديني الذي يسعى مروجوه الى ارعاب الناخب لفرض انفسهم عليه، بعد ان يصادروا الدين وتاليا حقه في الانتخاب، بوعي وارادة وحرية تامة. من غير المعقول والمقبول ان يفكر امثال هؤلاء بان على الناس ان يقبلوا بهم وبكل ما يقومون به ويقولونه بشكل اعمى، ابدا، والا فماذا يتبقى من الديمقراطية اذن؟. على الناخب ان لا يصغ الى من يقول من المرشحين بان الحرص على العراق يحتم عليه ان يعيد انتخابه ويمنحه الثقة مرة اخرى على اعتبار انه اكتسب تجربة لا يجوز التفريط بها، وان اي مرشح جديد سيبدا من الصفر، ما يعني اننا سنضيع الوقت والجهد والخبرة، في الوقت الذي نحن احوج ما نكون اليها. هذا الكلام تخرصات لا يرقى الى الحقيقة ابدا: اولا: فلو كان مثل هذا قد اكتسب خبرة ومر بتجربة، للمسناها في ادائه، فاين الخبرة فيه؟ واين التجربة فيما انجز؟. ثانيا: لو صح هذا الكلام، فعلينا ان نعيد البعثيين الى السلطة، لانهم (اكتسبوا خبرة في الحكم) على مدى (35) عاما لم يكتسبها احد غيرهم. ثالثا: كذلك، فلو كان هذا الكلام صحيحا فما معنى الديمقراطية اذن؟ وما معنى مبدا التداول السلمي للسلطة؟. ليبق ، اذن، الرئيس بوش في البيت الابيض لانه اكتسب خبرة لم يرها اوباما حتى الان، وليبق كل حاكم في السلطة لا يتركها حتى ينتهي به العمر الى القبر، على قاعدة الخلفاء السابقين الذين كانوا يقولون بان السلطان اما ان يكون في القصر او ان يكون في القبر ولا خيار ثالث بينهما. هذا الكلام هو لتبرير محاولات البعض للتشبث بالسلطة وبالموقع الذي لا يريدون التزعزع عنه. انها محاولة لتبرير الانظمة الديكتاتورية المستبدة الشمولية التي تتشبث بالسلطة على حساب معاناة الناس الابرياء، ولكل ذلك يجب ان لا يصغ اليه احد فهو من عمل الشيطان ووساوسه لعنه الله واخزاه.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |