صحفيون بلا أحذية..

 

نجاح محمد علي

najahmali@gmail.com 

عندما يرشق صحفي عراقي الرئيس الأمريكي جورج بوش بالحذاء وينسى قلمه الذي اصطحبه معه في مؤتمر صحفي، يصبح من حق رئاسة الوزراء في العراق، أن تمنع الصحفيين الذين يملكون توجها معاديا للاحتلال أو للعملية السياسية أو حتى لديهم ملاحظات نقدية على أداء الحكومة وهذا الوزير أو ذاك، من دون حضور أنشطة الدولة الاعلامية.
والأخطر أن الحكومة ستكون محقة تماما في حظر مشاركة كل الصحفيين من دخول المؤتمرات الصحفية والمشاركة في أي نشاط اعلامي لها، من واقع أن الصحفي هو في الأساس،ناقد للسلطات وهو مرآة الأمة وعينها ودليلها، بل هو السلطة الرابعة... كما يقولون!.

ومهما قيل ويقال عن الاحتلال ومساوئه، فهذا مالا يختلف عليه اثنان. وأنا من أوائل معارضي هذا الاحتلال البغيض لبلدي، وكنت قبل ذلك من القلائل المحرضين بقوة ضد تعاون المعارضة العراقية (آنذاك) مع الولايات المتحدة لاسقاط نظام صدام عن طريق القوة العسكرية حين كنتُ أيضا في طليعة المعارضين لذلك النظام الديكتاتوري صاحب المقابر الجماعية، ومبيد العراقيين بأسلحة الدمار الشامل...عربا وأكرادا وتركمانا..

لكن ْ.. أن ينسى صحفي قلمه الذي هو أقوى بكثير من كل الأسلحة الفتاكة، وهو ليس مجرد قلم بل "...يدٌ، وفمْ. رصاصةٌ، ودمْ.وتهمةٌ سافرةٌ تمشي بلا قدمْ"، ويلجأ الى سلاح رخيص، حذاء "تكرمون"، فهذا ما لايمكن أن نقبله حتى مع ألد أعداء العراق، وأكثرهم فتكا بحقوقه وكرامته..

لقد عارضتُ "إعدام صدام" بالطريقة والتوقيت الذي تم فيهما، برغم أن رئيس النظام السابق ألحق الأذى والموت والعذاب المر الذي لم يخطر على بال، بي وبأسرتي وعشيرتي، وأصدقائي، فقط لأنهم أصدقائي، أو أنهم كانوا زملاء لي في مقاعد الدراسة، وبعضهم اليوم حيٌّ يستطيع أن يروي ماحل به بسبب تلك الصداقة ...المؤلمة!..

وعندما عارضتُ "إعدام صدام"، فلأن ماجرى تم بطريقة إنتهكت بعض حقوقه كانسان وسجين،وهو يستحق بالطبع أكثر من إعدام واحد واحد بحسب شرعة الله والقوانين الوضعية، وحتى وفق تقاليد صدام نفسه نفسها التي أرساها هو في عراقٍ حكمه بالحديد والنار وزرع الكراهية بين أبناء الشعب الواحد، وخرّج جيلا أو اثنين، الكثير منهم يعيش اليوم ازدواجية خطيرة وانفصاما في الشخصية،ولايستطيع بسهولة التخلي عن قيم أرساها وكرسها صدام ..أبسط مافيها الأنا وحب الظهور!..

ولهذا فانني لستُ مع هذه الطريقة البعيدة عن قواعد المهنة، ولايمكن أن نعتبرها فعلا نضاليا أو عملا مقاوما لأن لكل مقام مقال، وعندما يحصل الصحفي على أذن للمشاركة في التغطيات الصحفية داخل المنطقة الخضراء فهو كمن وقع عقدا مع الحكومة، وربما أيضا(بالواسطة) مع قوات الاحتلال، فان عليه احترام عهده "فالمؤمنون عند شروطهم"، أو أن له أن لايشارك أصلا في أي نشاط يجعله "يحترم"قوانين المنطقة الخضراء التي قاطعها الكثير من الصحفيين!.
إن تسجيل غضب العراقيين لمافعله بوش ببلادهم عبر استخدام الحذاء الذي اعتبره البعض موحدا للعراقيين(وتعسا لأمة يوحدها حذاء!)، لا يمكن أن يحظى بتأييد صحفي يحترم مهنته ويفصل بين الحيادية والموضوعية ونقل المعلومة الصحيحة، وبين كونه سياسيا أو مناضلا أو منحازا لهذا الحزب أو تلك الجماعة.كما أن الضرب بالميت حرام شرعا! لأن بوش، خاسر أصلا في العراق الجديد، ولم يحصد من غزوه للعراق ولا لأفغانستان، الا الويل والثبور وعظائم الأمور، وديمقراطية بشّر بها دول المنطقة انطلاقا من العراق،لم تكن سوى فردتي حذاء بال، نخشى أن تسفرا عن قواعد جديدة للمهنة تمنح الحكومة الحق في أن تفرض شروطا قاسية على الصحفيين، للسماح لهم بالمشاركة في المؤتمرات الصحفية. ويصبح المصفقون لها هم فقط من يتمكنون من الكتابة في عراق أُريد له أن يكون أُنموذجا فريدا للديمقراطية في المنطقة!..

ومهما تكن خلفية الصحفي، صاحب الرمية، ومبرراته في اللجوء الى هذا الاسلوب، فان على الحكومة أن لاتعطي القضية أكبر من حجمها، وتسعى الى "لملمة" الموضوع ومنعها من أن تتحول الى أزمة خصوصا وأن هناك قومجية عروبيين، مايزالون في المربع الأول: "يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" وهم يحرضون على قتل العراق، وعلى رؤوس معظمهم أعلام أمريكية!.

وأخيرا ونحن نشاهد هبوطا قيميا، وغوغائية تجعل البعض يصرح علنا أمام الفضائيات إنه يقبل الحذاء الذي ضرب به بوش ويضعه على رأسه، فليس غريبا أن نسمع في مرحلة تالية أن الحكومة العراقية، أو أي حكومة عربية أو في العالم،قررت بعد هذه الواقعة منع الصحفيين من الدخول الى مراكزها الصحفية بالأحذية حتى إذا تساهلت في قضية "الموالين والمصفقين" ولم تفتش عن خلفيات الصحفيين السياسية.وعندها ستكون الحكومات بحاجة الى تعيين موظف جديد بمسمّىً وظيفي جديدا، مهمته استلام الأحذية ووضعها في مكان محدد سلفا، وتوزيع أرقام بدلا عنها الى صحفيين سيغطون الوقائع والأحداث في المراكز الصحفية الرسمية ..بلا أحذية..

وهنيئا للـ "الكيشوانجي" صاحب المنصب الصحفي الجديد..

وله، ولكل الصحفيين الأحرار في العالم أهدي هذه اللافتة..القصيدة التي كان كتبها صديق عمري المناضل العتيد

"أحمد مطر" ...عن القلم، متمنيا أن لايأتي اليوم الذي يمشي فيه الصحفيون حفاة، وربما.. بلا أقدام:

جسّ الطبيبُ خافقي
وقال لي:
هل ها هنا الألمْ؟
قلتُ له نعمْ
فشقَّ بالمشرطِ جيبَ مِعطفي
وأخرجَ القلمْ
هزّ الطبيبُ رأسَهُ
ومالّ وابتسمْ
وقال لي:
ليس سِوى قلمْ
فقلتُ: لا يا سيدي
هذا يدٌ، وفمْ
رصاصةٌ، ودمْ
وتهمةٌ سافرةٌ تمشي بلا قدمْ
 

  العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com