رسالة مهندس عراقي إلى العالم

 

محمد عارف

مستشار في العلوم والتكنولوجيا

Iraq4Iraqis@googlegroups.com 

أينما يتجول المرء في معرض "ألف اختراع واختراع"، أو يتصفح كتاب "التراث الإسلامي في عالمنا" يعثر على العراق. وتحتل أجمل قصص الاكتشافات العلمية والمبتكرات التكنولوجية التي انطلقت من العراق قلب هذا المشروع المتعدد الوسائط، والذي وضع بالإنجليزية لعلاج "فقدان الذاكرة الغربية ألف عام من تاريخ العلوم والتكنولوجيا العربية الإسلامية"!

صُمِّم المشروع أساساً للأحداث، لكنه تحول إلى دائرة معارف زاخرة بالرسوم والصور الفوتوغرافية والمخطوطات الإسلامية الآسرة بألوانها ورسومها، وبالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وأقوال الحكماء والفلاسفة. وتُعِّرف الموسوعة بحياة وأعمال نحو 400 عالم ومهندس وطبيب وجغرافي ومؤرخ، من عالم الاجتماع ابن خلدون في المغرب العربي، وحتى الفيلسوف الكندي عالم الطب والرياضيات في العراق، وعالم الطب والفلسفة ابن سينا في آسيا الوسطى، وعالم الطب والجراحة "الزهراوي" في الأندلس، والمعماري التركي "سنان باشا"، وأدميرال البحر الصيني المسلم "زهين هي". وتُسجل عبارات مقتطفة من أعمال العلماء علامات مضيئة في تاريخ العلوم العالمية، كقانون العلم الحديث الذي صاغه جابر بن حياّن في كتابه "التجريد"، والذي يلخصه بالقول: "كمال الصنعة العمل والتجربة، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبداًً".

وتعيد كتابة تاريخ العلم العبارة المأثورة لعالِم الفلك الأندلسي "ابن حزم" في القرن التاسع الميلادي: "الأرض كروية على الرغم من الاعتقاد العام... والبرهان على ذلك أن الشمس قائمة دائماً رأسياً في موقع محدّد من الأرض". كشوفات مدهشة مماثلة من "ألبتاني"، و"ابن الشاطر"، و"الزرقالي"، و"الصوفي"، و"الإدريسي"، و"الفرغاني"... في فصول "الكون" و"علم الفلك" و"الإسطرلابات" و"أطوار القمر" و"النجوم". ويصحح فصل "الطيران" الخطأ الشائع حول موت عباس بن فرناس خلال محاولته الفاشلة للطيران، ويكشف أنه عاش بعدها سنوات عدة ابتكر خلالها صناعة الكريستال وقص الزجاج.

وتعرض فصول عدة العلوم والمبتكرات التقنية التي كان العراقيون يستخدمونها في منازلهم، وجامعاتهم، ومستشفياتهم، خلال القرون الوسطى التي يعتبرها الأوروبيون "الفترة المظلمة". كانت المكتبات العامة في بغداد آنذاك تتبع نظام تصنيف الكتب، وتعرض قوائم بالموجودات في صالات القراءة، وكانت فنون التجارة تنظم "طريق الحرير" حتى الصين، وتتعامل بالصكوك المالية، وتستخدم القياسات والموازين الدقيقة، ومسح الأراضي، والساعات.

ويروي الفصل الخاص بالمدارس كيف أنشأ البغداديون أول مدرسة حقيقية في التاريخ اسمها "النظامية" عام 1066 عندما كانت أوروبا مسرح الغزوات الإقطاعية. وفي فصل "الحمامات العامة"، يصف الرحالة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي، أي بعد قرنين من الغزو المغولي، "دُور الاستحمام الباذخة في بغداد برخامها الأسود... وفي داخل كل حجرةٍ حوضٌ من الرخام مجهز بحنفيتين، تتدفق إحداهما بالماء الساخن والأخرى بالماء البارد"!

و"البغددة"، رمز الترف العراقي، حملها إلى أوروبا زرياب، المغني في قصر هارون الرشيد في القرن التاسع الميلادي. يروي تفاصيل ذلك فصل "الأزياء والطُرز" الذي يعرض شهادات مؤرخين فرنسيين عن الثورة التي أحدثها زرياب في طرق العيش الأوروبية، حين نقل إلى الأندلس فنون الأزياء والأناقة، وآداب المائدة وأدوات الطعام، والشطرنج، ولعبة الكرة على متون الخيل "البولو". و"جلب زرياب إلى أوربا تقليد ارتداء الأزياء حسب الفصول، وعيّن الأوقات المحددة لكل زيٍّ، وأضاف أيضاً أزياء ما بين الفصول".

بدأ مشروع "ألف اختراع واختراع" كموقع على الإنترنت أسسه المهندس العراقي سليم الحسني، أستاذ الهندسة الآلية في جامعة مانشستر ببريطانيا. أشرف الحسني على نحو مائة شهادة دكتوراه وماجستير، وتولى مسؤوليات أكاديمية وصناعية في بريطانيا والبلدان العربية، واشتهر عالمياً بخبرته في المنصّات النفطية الساحلية، وقد استُدعي للشهادة في حادثة المنصة النفطية "بايبر ألفا" Piper Alfa عام 1988 في بحر الشمال ببريطانيا، والتي تعتبر أكبر كارثة من نوعها.

وفي حين يُتوقع التحاق خبير من هذا الطراز بوليمة الاحتكارات العالمية على نفط العراق، كرّس الحسني وقته ومكانته العلمية، وعلاقاته الأكاديمية لإنشاء "مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة" التي أطلقت مشروع "ألف اختراع واختراع". وتحولت المؤسسة خلال أقل من سبع سنوات إلى حركة علمية عالمية يشارك فيها عشرات الباحثين الأكاديميين المرموقين من مختلف بلدان العالم، بينهم من سوريا "سامي شلهوب" أستاذ تاريخ العلوم في جامعة حلب، ومن ليبيا "محمد القُماطي" أستاذ الإلكترونيات في جامعة "يورك" ببريطانيا، ومن العراق "نبيلة داوود" أستاذة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة بغداد، ومن السعودية "سهير القرشي" عميدة كلية "دار الحكمة" في جدّة.

وتنظم "مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة" معارض ومؤتمرات حول العالم، أقيم آخرها في الشهر الماضي في مقر منظمة الأمم المتحدة بنيويورك، خلال الدورة العامة للمنظمة الدولية، حيث زار المعرض العاهل السعودي والرئيس التركي، وعدد من زعماء الدول والحكومات. وتوسط المعرض نموذج "ساعة الفيل" المشهورة التي صممها "بديع الزمان الجزري" عام 1206 ميلادي، واستخدم في بنائها محركات آلية ابتكرها ثلاثة أشقاء علماء من أسرة بغدادية موسرة عاشوا في عصر المأمون في القرن التاسع الميلادي.

طوّر الأشقاء الثلاثة، محمد وأحمد والحسن، الذين عُرفوا باسم "بنو موسى"، ما يُسمى اليوم "تكنولوجيا الدقة" عن طريق المزج البارع للهندسة المائية والميكانيكية. ويشرح الأخوة في مؤلفهم المشهور "كتاب الحيَل" آليات "ميكانيكا السوائل" البالغة التعقيد والتي لم يرد ذكرها في أي عمل سابق، واستخدموا في تجارب تدهش مؤرخي العلوم، الصمامات المخروطية التي تُعتبر جزءاً مكملاً للأنظمة المائية، وتقوم بأعمال بالغة التنوع بواسطة تغيرات بسيطة في الضغط الحركي المائي والهوائي.

ويستغرب المؤرخون ولع الأشقاء الثلاثة بتطوير آليات متقنة لصنع ألعاب لهو وتسلية عجز من جاء بعدهم عن مضاهاتها حتى العصر الحديث، واستخدموا التروس والعجلات في صنع نافورات مائية تتدفق مياهها بأشكال وألوان مختلفة كالألعاب السحرية. وتعتبر هذه قفزة عملاقة في هندسة أنظمة السيطرة التي لعبت دوراً أساسياً في اختراع الآلات الأوتوماتيكية في عصر الثورة الصناعية.

وينقض ملصق "العلماء متعددي العقائد في الحضارة الإسلامية" الادّعاءات حول دور الانقسامات المذهبية في أعمال اغتيال وتشريد علماء العراق بعد الاحتلال. فالعلماء العراقيون يحتلون الصدارة في هذا الملصق المعروض في مقر الأمم المتحدة بمناسبة إعلان "السنة العالمية لتقارب الثقافات" عام 2010. وقد أفرد ملصق خاص بالمناسبة للطبيب والفيلسوف والمترجم الصابئي "ثابت بن قُّرة" الذي عاش في كنف "بني موسى" ببغداد، حيث واصل أعماله بعده ابنه "سنان بن ثابت"، طبيب الخليفة المقتدر، والذي أولاه منصب رئيس الأطباء، وأوكل إليه اختبار وإجازة ممارسي الطب، وحفيده "إبراهيم بن سنان" الذي أنجز، رغم حياته القصيرة (37 عاماً فقط)، توحيد أنظمة تصميم الساعة الشمسية "المزولة"، وهي "المهمة التي عجز عنها أسلافه العلماء منذ عصر الإغريق". وتدل على تقاليد السماحة والانفتاح وتعايش الأديان والمذاهب في المجتمع العراقي عبر العصور، حادثة مشهورة للخليفة المعتضد، عندما وضع يده سهواً فوق يد ثابت بن قرّة، وسرعان ما سحبها معتذراً "العلم يعلو ولا يُعلى عليه"!

http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=41881

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com