|
دور الإخوان المسلمين في الدولة الدينية العربية
د. شاكر النابلسي لا شك بأن الدولة العربية – الإسلامية بعد عهد الخلفاء الراشدين كانت دولة دينية وإن كان ذلك جزئياً. وتم منذ بداية العصر الأموي ربط الدولة ربطاً فقهياً، كما كان عليه الحال في عهد الإسلام الأول. وكما قال المفكر المغربي علي أومليل فإن "الإسلام يقوم على كتاب، وهذا يعني أن هناك دائماً دوراً للعلماء بمضمونه وأحكامه في المجتمع الإسلامي. وعلى كل دولة إسلامية أن تحسب الحساب للرقابة الممكنة عليها باسم سلطة الكتاب" (السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص 51). فقد كانت مجموعة من الآيات حجة في أيدي المؤسسة الدينية – التي اعتُبرت منفردة دون غيرها بحق تفسير الشريعة – لاستخلاف الحكام في الأرض. روابط متينة بين الدين بالدولة ومن هنا تمَّ ربط الدين والدولة، إضافة لعدة أسباب منها: 1- تحالُف المؤسسة الدينية مع المؤسسة السياسية العربيـة الإسلامية التي كانت وما زالت تختار رجال المؤسسة الدينية على هواها، وتُسند إليهم مناصب القضاء والحكم والتفسير. وكانت تلك واحـدة من الأسباب الرئيسية لربط الدين بالدولـة ربطاً فقهياً واجتهادياً، منذ فجر الإسلام الأول. 2- ربط الدين والدولة في الدولة العربية الكلاسيكيـة نتيجة لفراغ السياسة العربية من الإيديولوجيا ما عدا الإيديولوجيا الدينية. ومن هنا أصبحت الإيديولوجيا الدينية أشبه بالحزبية. وكانت فلسفة الحكم لا تستند إلى مسوّغ سياسي بحت بقدر ما تستند إلى مسوّغ ديني ظاهري. وكانت الإيديولوجيا الدينية من صُنع وتركيب وتفسير المؤسسة الدينية التي غدت في معظم الأحيان غير قادرة على تحدي سوء استخدام السلطة من قبل الحكام. 3- ظهـور كثير من علماء السُنَّة الذين نادوا بحصر الخلافة والحكم في قريش، وفي آل البيت كذلك، لا لأنهم من قريش، ولكن لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، النبي والحاكم، كان من قريش. فلا فضل لقريش على العرب في علم، أو مال، أو جاه. وما فضلها على العرب إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد جاء منها. 4- ظهور الشيعة، الذين نادوا بحزم أن يكون الحاكم والإمام من آل البيت، ومن نسل السيدة فاطمة زوج علي بن أبي طالب وبنت الرسول عليه الصلاة السلام. وبهذا تمَّ تكريس السياسة اللاحقة في الدين السابق. وتم ربط السياسة بمنبع الدين وهو آل البيت. 5- إن الدولة لم تُرسِ قواعدها مستقلة عن الشريعة. ولم تقتطع لنفسها مجالاً مدنياً لا دخل لما هو ديني فيه. ومن هنا عرفت الدولة العربيـة دائماً سلطة الناطقين باسم الشريعة. دور المعتزلة في ربط الدين بالدولة ولا شك أن ظهور المعتزلة وتوليهم الحكم بصورة مباشرة في العصر العباسي وفي عهد الخليفة المأمون (813-833) بالذات، كان سبباً آخر من أسباب ربط الدين بالدولـة، وذلك عندما اعتُبر مذهب المعتزلة دين الدولة الرسمي. فالمعتزلة فرقة دينية عقلانية، كان شغلها الشاغل القضية المعروفة بـ "خلق القرآن". وكانت السياسة العباسية تتشكل في هذا الوقت تبعاً لأهواء المعتزلة وأفكارهم وفلسفتهم. وبذا، تحول الدين بشكل واضح في هذا العصر من علم إلى أيديولوجيا سياسية. ومن خلال هذا كله، أصبحت دراسة الإسلام السياسي، لا تتم إلا من خلال صلة السياسة بالدين، ومن خلال ربط الدين بالدولة، ومن خلال أن الحاكم العربي الإسلامي، صاحب دالين كبيرتين: دال الدين، ودال الدولة. ووصلُ الدين بالدولة في الشرق لم يكن قاصراً على الدولة العربيـة الإسلامية فقط، بقدر ما كان سمة عامة من سمات السياسـة في الشرق القديم عامة. ويقول ريتشارد روبنشتين. "في الشرق القديم، كان شخص الحاكم ومركزه مقدسين. ولم يكن هناك فصل بين الدين والسياسة. فالملك يُجسِّد الآلهة أو على الأقل يُعدُّ وسيطاً مقدساً بين المجتمع وآلهته. وإلى نهاية الحرب العالمية الثانية كانت هالة الألوهية مستقرة في شخص إمبراطور اليابان" (تأملات في الدين والسياسة، ص104). الدين والدولة العربية الحديثة استغلت الدولة العربية الحديثة الدين استغلالاً كبيراً لخدمة، وتحقيق أغراضها. فهي إن رفضت فصل الدين عن الدولة، فذلك لمصلحتها السياسية. وهي إن وصلت الدين بالدولة فذلك لمصلحتها السياسية أيضاً. فقد شهدت الدولة العربية الحديثة في القرن العشرين وصلاً جديداً ومميزاً بين الدين والدولة، وكان ذلك بفعل ربط الدين بالسياسة، وبفضل اعتماد التعبئة الإسلاميـة في الصراع والقتال ضد الاستعمار الغربي في النصـف الأول من القرن العشرين. ويؤكد برهان غليون بقوله : "كانت العودة إلى الإسلام كهوية وثقافة ودين من المحركات الأساسية ضد الاستعمار. وقامت الدولة العربية المستقلة حديثاً بالمقابل باستلهام قيم نمط الشرعية الحديث الوطني والقومي" (نظرية الشرعية وأزمة السياسة العربية، ص 67). ولقد استمرت العلاقة بين الدين والدولة في الدولة العربية الحديثـة. وكانت إيجابية في بعض الأحيان وسلبية في أحيان أخرى، حسب حاجة رجال السياسة للدين وحسب حاجة رجال الدين للسياسة. فعندما احتاج الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703-1791)، قوة سياسية لنشر دعوته، بحث عن السياسيين من آل سعود لمساندته في ذلك. وعندما احتاج الملك عبد العزيز آل سعود إلى دعوة دينية ليمضي في تحقيق سياسته، لم يجد غير دعوة الشيخ عبد الوهاب. ووجدت الوهابيـة نفسها في آل سعود السياسيين، ووجد آل سعود أنفسهم في الدعوة الوهابية. ويقول المؤرخ أيمن الياسيني: "كان موقف ابن سعود وجهاً لوجه مع الوهابية وعلاقاته بعلماء الدين قد تقرر على ضوء أهدافه السياسية، وطبيعة الأوضاع الاجتماعية والتاريخية القائمة" ( "الدين والدولة في المملكة العربية السعودية"، ص50). فالتصق الدين بالسياسـة التصاقاً كبيراً وممتداً، وارتبطت الثوابت الدينية بالدولة وثوابتها، إلى يومنا هذا. وعندما احتاج الشريف حسين، شريف مكـة، في العام 1924 إلى الدين، لكي يُسند دعوته السياسيـة، ويُدخلها الفلك الديني الإسلامي، ويُقنع بريطانيا في أحقيته بحكم العالم العربي، لقَّب نفسه بـ "خليفـة المسلمين" إضافة إلى لقبه السابق كـ "ملك للعرب"، جامعـاً بين يديه الدالين: دال الدولة، ودال الدين. دور الإخوان المسلمين في الدولة الدينية وفي النصف الثاني من القرن العشرين قامت من جديد إشكاليـة علاقة الدين بالدولة وبحدة شديدة من خلال قيام الدولة الجمهوريـة الجديـدة في مصر في العام 1952. ولم تكن هذه الإشكاليـة قائمة بهذه الحدة قبل هذا التاريخ، وفي العهد الملكي الذي كان الإخوان المسلمون يدعمونه كما هم الآن يدعمون العهود الملكية العربية الأخرى. فبمجرد أن طلب النحاس باشا من حسن البنَّا الانسحاب من الانتخابات النيابية في العام 1942 ، وإبقاء الإخوان المسلمين كجمعيـة دينية اجتماعيـة لا علاقة لها بالسياسـة، تراجع البنَّا عن ترشيحـه، وكفَّ يده عن السياسـة، وإن كـان قد دفع حياتــه بعد ذلك ثمنـاً سياسيـاً خالصاً في العام 1949. وفي تقديـري أن البنَّا – باعتداله، وتسامحه، وواقعيته السياسيـة، ومرونته الفكرية – لو عاش وشهد فترة الثورة المصرية بعد العام 1952 لما وقع الصدام بين الثورة المصرية وعبد الناصر من بعد من جهة، وبين الإخوان المسلمين من جهـة أخرى، على النحو الذي وقع، نتيجة لتطرّف سيّد قُطب ومن هم حولـه، وأدى إلى نكبـة الإخوان المسلمين في مصر، تلك النكبة السياسية الكبرى. وقد بدأ النـزاع بين الجمهوريين المصريين وبين الإخوان المسلمين عندما طالب الإخوان بإنشاء مكتب إسلامي خاص للنظر في القوانين والتشريعات قبل إقرارها. كما طالبوا بإجراء استفتاء عام على قيام دولة إسلامية. وقد قوبل هذان الطلبان بالرفض من قبل الجمهوريين. واشتد النـزاع بين الإخوان والجمهوريين وُرفعت السيوف والبنادق في وجوه المتخاصمين، عندما قام الإخوان بمحاولة الاستيلاء على السلطة واغتيال عبد الناصر في العام 1954. أسباب العَلْمانية في مصر الجمهورية وبدءاً من العام 1961 بدأت مرحلة شديدة ونهائية وحاسمة للصراع بين الإخوان والجمهوريين المصريين. فكشف الجمهوريون المصريون عن وجه الدولة العَلْماني، وقرارهم القاطع بفصل الدين عن الدولة. وكانت أسباب هذه القرارات ومظاهرها كالتالي: 1- موالاة الإخوان المسلمين للانفصاليين في سوريا في العام 1961، وتولي معروف الدواليبي أحد زعماء الإخوان المسلمين رئاسـة الوزراء في أول وزارة تشكَّلت بعد الانفصال. فقد كان الدواليبي من زعماء "حزب الشعب"، ولكنه في حقيقته كان من أحد زعماء الإخوان المسلمين في سوريا. وقـد هرب بعد ذلك إلى السعودية، بعد أن استولى حزب البعث على الحكم في سوريا في العام 1963. وظل الدواليبي لاجئاً سياسياً في السعودية إلى رحل عام 2004. (انظر: اغناتنكو، خلفاء بلا خلافة، ص43). 2- اتهام مصر لليمين العربي الخليجي المؤيد لحركات الإخوان المسلمين بمساندة الانفصاليين مالياً وسياسياً. 1- صدور قانون تنظيم الأزهر في العـام 1961 دون رضاء الإخوان عنه. والذي بموجبه أصبح رئيس الجمهورية صاحب القرار الأول والأخير في وضع النظام الأساسي له. كما أصبح رئيس الجمهورية أعلى وأقوى شخصية دينية في مصر. ولم يعد المفتي أو شيخ الأزهر هو صاحب الامتياز الأوحد في هذا المجال. وقد اعتُبر إعادة تنظيم الأزهر جزءاً من تحديث وعَلْمانية المجتمع المصري الذي كان الجمهوريون يسعون إليها. 2- تحول "دار الإفتاء" إلى هيئة لإقرار الإجراءات الاشتراكية إقراراً دينياً وإصدار الفتاوى الشرعية بشأنها ولصالحها إلى الحد التي سُميت معه السيدة خديجة زوج الرسول عليه الصلاة والسلام بـ "خديجة أم الاشتراكيين". 3- توجُه الجمهوريين نحو مفهوم "الدين للشعب" كله، وليس لفئة سياسيـة معينة، وذلك لتخليص الدين من أيدي الأحزاب الدينية السياسية. وحتى لا يكون الدين حِكراً على فئة معينة تمتطي الدين للوصول إلى الكراسي والقبض على المراسي. وقد استعان الجمهوريون بخالد محمد خالد لإلقاء أحاديث في الإذاعة تحت عنوان "الدين في خدمة الشعب". 4- صدور الميثاق الوطني بطابعه العَلْماني في العام 1962. 5- صدور القرارات الاشتراكية التي اعتُبرت معارضة لرأسمالية الإسلام. 6- صدود الجمهوريين عن كل مطالبة بالإصـلاح السياسي الإسلامي من قبل الإخوان. تحوّل الثقافة العربية في مصر إلى ثقافة يسارية اشتراكية، وإطلاق أيدي اليسار في الثقافة والإعلام. وكانت مظاهر ذلك كثيرة، منها إصدار عدد من المجلات الفكرية والسياسية، وتعيين كبار مثقفي اليسار في المناصب الثقافية والإعلامية الحساسة. 7- زيادة عدد المساجد إلى الضعف بعد الثورة مقارنـة بما كان عليه قبل الثورة، وذلك من أجـل أن يُثبت الجمهوريون أنهم حريصون على الإسلام أكثر من حرص الأحزاب السياسية الدينية عليه. 8- إنشاء مجموعة من التنظيمات الإسلامية العالمية كالمؤتمر الإسلامي وغيرها تحت قيادة الجمهوريين، إمعاناً منهم بتخليص احتكار الدين والدعوة له من أيدي الأحزاب الدينية السياسية. وقد أدى كل هذا إلى صدام جديد وحاد بين الإخوان وبين الجمهوريين المصريين، كانت نتيجته سلسلة من الاعتقالات والتشريد والطـرد والتعذيب والقتل لزعماء الإخوان المسلمين، كما هو معروف. وبعد رحيل عبد الناصر، استطاع السادات أن يستفيد كدولة من الجماعات الإسلامية كتغطية سياسية للخطوات السياسية التي كان ينوي القيام بهـا. فقد كان هناك "توافق وتنسيق بين قوانين السادات وبين النشاط الأيديولوجي للعلماء الذين أصبحوا في عداد البُنى الحكومية. إضافة لذلك فقد كنا نقرأ من علماء الأزهر من يقول أن الإسلام يدعو إلى الموافقة على مقترحات السلام من أي جهة صدرت. وأن الإسلام يؤيد سياسـة الأبواب المشرعة في الاقتصاد، وذلك تأييداً ومباركةً من الأزهر لمحادثات السـلام التي كان يقوم بها السادات مع إسرائيل، وتأييداً ومباركةً لسياسة الانفتاح الاقتصـادي الذي قام بها السادات، والتي انتُقدت انتقاداً شديداً وأطلق عليها الراحل أحمد بهاء الدين سياسـة "السداح مداح".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |