|
اسم التصغير والتحرمص وحقوق المستضعفين في العراق
د. حامد العطية لا توجد لغة أثرى من اللغة العربية في المصادر والمشتقات والمترادفات، فإن خاننا التعبير فلعلة فينا لا في اللغة،اسم التصغير مشتق لغوي، مثال هريرة تصغير لهرة، ويستخدم اسم التصغير للتقليل والتحقير ولأغراض أخرى، وليس هنالك من هم أكثر استعمالاً لاسم التصغير من أهلنا في جنوب العراق، وهم يحبذون استخدامه في اتصالاتهم بدرجة مثيرة للإنتباه، ومرهقة للأعصاب أيضاً، تسمعه في أغانيهم الريفية، ومنها أغنية مشهورة لحضيري أبو عزيز "حميد يا مصايب الله" ( برفع الحاء وفتح الميم)، بل إن اسم هذا المغني الريفي حضيري تصغير لحضري. ولو قضيت ساعة أو أقل في محادثة جنوبي لتأكدت بأنهم يستخدمون هذه الصيغة اللغوية لحد الإفراط، وهذا ما شهدته أثناء طفولتي وصباي في الريف الجنوبي، فإذا طلب أحدهم رغيفاً من الخبز قال: أعطني خبيزة! ولو كان أحدهم مدعواً على مائدة طعام عامرة، وأراد من مضيفه مناولته قطعة لحم فسيطلب "وذيرة"، وهي تصغير لوذرة، والوذرة كلمة فصحى تعني قطعة لحم، ولكنه سيعتبر مضيفه بخيلاً جداً لو قدم له وذيرة لحم فقط. ومن المعروف بأن الحسوة هي القليل من الماء، لكن الجنوبي لا يطلب حسوة من الماء إن عطش وإنما "حسيوة"، فما هي الحسيوة" ؟ خمس أم عشر قطرات من الماء؟ ولماذا يطلب أقل القليل من الماء وكأنه في صحراء الربع الخالي لا في بلاد الرافدين؟ والعملة مقدار محدد من النقود، لا يزيد ولا ينقص إلا بقرار من البنك المركزي، الدرهم مائة فلس ومائة فلس تساوي درهماً، إلا عند الجنوبيين، فهم يصرفون الدرهم في تعاملهم إلى "دريهم"، وهو أيضاً يساوي مائة فلس، لكنهم عند الطلب يسألون الدريهم بدلاً من الدرهم، ونكتفي بذلك من الشواهد الدالة على كثرة استخدام اسم التصغير في كلام الجنوبيين. حرمص كلمة في اللغة الدارجة لأهلنا الجنوبيين، ومعناها التذلل والإلحاح في الطلب، لم أجد لها ذكراً في القواميس، ولعلها تحريف لكلمة حرمس، ومعناها الأملس، والحرمصة سلوك شائع بيننا نحن الجنوبيين، نتعلمها في الصغر في تعاملنا مع والدينا وأكابرنا، تتعدى حدود بر الوالدين والتوقير والمحبة، فالحرمصة سلوك تذلل الضعفاء أمام الأقوياء وأصحاب السلطة، نتعلمه عندما لا نحصل على مرادنا إلا بالتوسل الملح، ويفرضها غياب القواعد الواضحة للعلاقة بين القوي والضعيف، وهو أمر يفضله القوي، لكي يوسع هامش حريته في التعسف بمعاملة الضعيف، ومن المعتاد أن يحرمص الأبن والده لكي يحصل على ما يريد، وكذلك الزوج مع زوجها، والفلاح مع مالك الأرض، والقبلي مع رئيس قبيلته، والطالب مع معلمه، والمراجع مع الموظف. تندرج تحت مصطلح الحرمصة مجموعة من السلوكيات اللفظية والجسمانية بين المتوسل والمتوسل إليه، ويغلب على سلوك المتوسل المظاهر المعبرة عن التذلل والاستعطاف، ومن أبرزها تكرار الطلب مرات عدة، من دون اكتراث لرفض المتوسل إليه، ومن ثم الاستعانة المعنوية بأرواح موتاه، وإن لم يكن ذلك كافياً توسل إليه بالأئمة وأولياء الله الصالحين، وهكذا حتى يلين قلب المتوسل إليه، أو يفقد المتوسل الأمل بالحصول على مبتغاه فينصرف باحثاً عن العون عند غيره. المصيبة في استعمال الجنوبي اسم التصغير والحرمصة عند المطالبة بحقوقه السياسية والاقتصادية، في العهد الملكي كان هنالك حد أدنى من الديمقراطية، وكان للجنوبيين وزراء ونواب وأعيان، أقل من استحقاقهم العددي، وكانوا هؤلاء أشداء على أهلهم في الوسط والجنوب ضعفاء أمام بقايا العثمانيين المتسلطين على الحكم، ونادراً ما كانوا يطالبون بحقوق المحرومين، وإن طالبوا استعملوا اسم التصغير والتحرمص، ويروى أن أحد أعضاء مجلس الأعيان من الشيعة سائل رئيس الوزراء نوري السعيد يوماً عن رفض قبول ثلة من الشيعة المتقدمين للكلية العسكرية، فانتفض نوري السعيد مستنكراً بقوله: وهل تتهمنا بالطائفية؟ بعدها أصدر نوري السعيد أوامره بقبول أولئك الجنوبيين في الكلية الحربية، غضب نوري السعيد يومها لأنه لم يتعود مطالبة المستضعفين ولو بأبسط حقوق المواطنة، وقد تسنى لي لقاء أحد هؤلاء الجنوبيين الذين توسط عضو مجلس الأعيان لقبولهم في الكلية العسكرية، فوجدته مجرد ضابط إعاشة في الفرقة الأولى في الديوانية، ولأن مطالب أهل الجنوب خجولة ومتوسلة كانت حصتهم من الوزراء والمناصب المدنية والعسكرية قليلة جداً، وتغير النظام من ملكي إلى جمهوري لكن حظ الجنوبيين القليل من السلطة والمناصب، بل ومن الحقوق الأساسية أيضاً، لم يتغير. ثم جاء عهد الديمقراطية الأمريكية "الحقة"، أو هكذا يدعون، وتأملنا تطبيق المساواة والعدل في الحقوق، ولكنهم تظاهروا بذلك، واختاروا لتمثيل أهل الجنوب ثلة من المتطبعين على استعمال اسم التصغير والتحرمص، الذين ما أن تسلطوا حتى جمعوا لأنفسهم فأوعوا، وتنازلوا عن حقوقنا خوفاً على أرواحهم وحفاظاً على مناصبهم، ولتذهب دماءنا وعذاباتنا هدراً. رضوا بأقل القليل من الحقوق، قبلوا بالمحاصصة الطائفية، ثم سلموا وهم صاغرون بالاحتلال الأمريكي والقيادة الجماعية والمصالحة مع الإرهابيين وبالفدرالية وعودة البعثيين، وكلما حذر مسئول سعودي أو أردني من هلال شيعي أو تهميش للسنة سارعوا لتقديم المزيد من التنازلات، حتى تضاءلت حصة المحرومين، وهم الأكثرية، من السلطة، وهكذا أصبح الأكثرية من السكان عملياً أقلية في المحاصصة الحكومية الطائفية والإثنية، وتأكد لنا بأن هؤلاء الحاكمين الجدد بإسمنا لا يقلون استهانة بحقوقنا ضمن المحاصصة الطائفية المقيتة من نوري السعيد، بل لعل نوري السعيد أكثر حرصاً منهم على مصالحنا، وبدلاً من استعمال عصا السلطة الغليظة مع الإرهابيين والبعثيين أهووا بها على رؤوس الفقراء والمحرومين من التيار الصدري، الذين انبروا للدفاع عن الأبرياء العزل ضد بربرية الإرهابيين، وتصدوا للمحتلين الأوباش، فقد هال هؤلاء المتسلطون المثقلون بعقد النقص والجبن واسم التصغير واحتراف الحرمصة أن يخرج من بين المحرومين شجعان، يأبون ضيم المحتلين وهوان النواصب الإرهابيين. آن الأوان لنبذ اسم التصغير وتحريم الحرمصة، ولنبدأ بالتخلص من هذا الوهن المرضي الكامن داخل نفوسنا، في الغرب يقيمون البرامج التدريبية لمساعدة الخجولين على تنمية ثقتهم بأنفسهم، يسمونها assertiveness training، أما نحن الذين نصف أنفسنا بأتباع مدرسة أهل البيت فعلينا تقديم البرهان على اتصافنا بالقيم والمباديء التي تتميز بها هذه المدرسة، وأولها البطولة والإيثار وإعلاء الحق وتطبيق العدالة، ولا مكان بيننا بعد اليوم للممارسين لاسم التصغير والحرمصة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |