قبل ان يأكلنا ماردُ العصر!

 

أ.د. سيّار الجَميل

 aliali81189@googlemail.com

صراع اليوم ليس بين شرق وغرب، بل ان اللعبة تجري بين سكان عالمنا في الجنوب واستحالة حياتهم من دون مارد الشمال . علينا ان لا نكابر، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه من دون منتجات عالم الشمال .. هذا الذي يجثم على مصادر الطاقة، ويكرر ثروات الارض، ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال، مع ثورة المعلومات، والاتصالات، وتكنولوجيا الاعلام  في عموم الارض .. هل تنفع معه ما تبقى لدينا من فضلات ايديولوجية، ومن استعراضات فارغة، ومن شعارات طنانة، ومن مأثورات عاطفية  تملؤها التناقضات ؟

 اي " فكر " هذا الذي باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله، وهو يلاحق الجبابرة على ممتلكات الفقراء ! اية ادوار، واية مواقف، يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا  لنعرف كيف نخاطبه ونطالبه ؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه ؟ اية اهداف، واية امنيات، واية احلام كتلك التي آمنا بها وطالبنا بتحقيقها، يمكنها ان تكون اليوم بعد ان خربنّا طرقنا، وشتتنا جهودنا، وقتلنا مشروعاتنا، واحرقنا زمننا، وضيعنا فرصنا، وعطلنا قدراتنا، وجمدنا عقولنا، وذبحنا شبابنا، وفرّقنا شملنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الردح والشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد والتكفير والموت ؟

من علم ملايين الناس كل هذه الاقانيم السوداء ؟ من جعلهم ينشدّون دوما الى الوراء من دون استقامة الطريق ؟ من جعلهم يلوكون النصوص، صباح مساء، وهم لا يدركون كم هو الزمن ثمين في مقياس الشعوب ؟ من علمهم الكسل، والتواكل، والاستسلام للضياع ؟ من جعلهم لا يعرفون الا المثالب والسوالب في الحياة ؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة ؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم وتلبية حاجات نداء الطبيعة ؟

ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء، والمبدعين، والخلاقين، والوعاة، والحرفيين، والمكتشفين .. ولا مكان للاغبياء، والكسالى، والمقلدين، والمرددين، والمتكلسين، والنائمين، والهائمين، والخياليين .. ان مارد العصر لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته، وتكنولوجيته، وتطور حضارته، ونظم معلوماته، ومصالح اقتصاداته .. الخ  ان المارد المعاصر يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة، ويهمّه كيف يسّوق بضاعته الكمالية، واسلحته الفتاكة، وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين، ونحن من اكبر المستهلكين ليس لمنتجاته فقط، بل لكل الزمن والطاقة والعقل والمال .

مئة سنة مرت ولم تحقق الايديولوجيات اهدافها .. وعليه، فان النخب العليا في اي مجتمع، مطالبة بالضغط على الحكومات، من اجل تغيير المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية .. وكل ما من شأنه، ان يأخذ بالتحولات من دون اي طفرة وراثية، ومن دون اي قفزة نوعية، ومن دون حرق للمراحل .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح على العصر .. وان تتضّح مقاصدنا، واهدافنا بعيدا عن اللف والدوران، وعن اللعب بالتناقضات، وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير .. علينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون .. والعمل المنتج . وان نحافظ علي الحدود الدنيا من العلاقات الادبية التي يحترم فيها احدنا الاخر علي الاقل، وهنا، يستوجب الانطلاق من واقع مهترئ ينبغي تغييره او تطويره، وان يتقّبل كل المستحدثات الجارية في العالم بروح عالية .. اننا مدعوون جميعا لوضع اسلوب عمل صريح وشجاع يطالب بالنص مراعاة التشريعات الخاصة بذلك .

  نعم، ان حياتنا العربية، الرسمية والاهلية، بحاجة ماسة الي اصدار تشريعات وضوابط لكل مرفق من المرافق والمؤسسات والاجهزة المستخدمة، وان تخضع ثورة التحديث الي هيئات نزاهة وان تخضع كل التجاوزات للقضاء ..  لابد من تغيير في نهج الذات، وتماسك في العلاقات، والتزام العمل .. وشفافية الحوار، ينبغي ابداع الكلمة، والنص، والريشة، والصورة والصوت، والعقل، والمشاعر، والجمال، واثراء الثقافة الحقيقية واشراكها في سيرورة الثقافة العالمية .

وأخيرا، ينبغي تفعيل اي بادرة او اكثر من اجل ان يكون كل الانسان في مجتمعاتنا كفوءا ومحترفا ومنتجا، وان يلتزم جملة تقاليد واعراف نهضوية لا حيدة عنها .. وان تمارس اخلاقيات في غاية النضج، وان تؤسس برامج عمل، وتشرع قوانين، والانطلاق بكل ما يمكن ان يسّهل العمل ويرسّخ الشفافية بعيدا عن الفوضي السائدة .. ان الحياة العربية ينبغي ان تكون مؤسسة للمنتجين، ورحابا للمثقفين، وتجمعا للمبدعين، ومنظومة للعاملين، وميدانا للتربويين، وساحة للفنانين الحقيقيين . اننا بأمس الحاجة الي ان نعيد التفكير بمسيرتنا، حتي وان كانت قصيرة والا سنكتب ضربا من العبث والجنون، ومهما بقينا متنازعين بمثل هذا المستوي فسوف يسجل العالم علينا بأننا غير مؤهلين ابدا للعمل بروح جماعية وحداثوية .. فهل سندخل حقا القرن الواحد والعشرين ؟ وهل سننجح باستخدام آخر منجزات العصر من اجل الارتقاء بواقعنا وافكارنا وخطابنا وكل وجودنا الي زمن جديد ؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة . 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com