|
عودة ظاهرة بشير مشير
جودت هوشيار بشير مشير من أطرف وأظرف الشخصيات فى تأريخ الثقافة الكردية الحديثة ، رغم أنه لم يكن يربطه بالثقافة أى رابط ماعدا صداقته الوطيدة مع أغلب المثقفين الكرد وبخاصة الكناب والشعراء والصحفيين منهم . كان بشير مشير يمتلك محل خياطة فى منطقة الحيدرخانة فى وسط مدينة بغداد فى خمسينات وستينات القرن الماضى ثم حوله الى مكتبة صغيرة لبيع الكتب والصحف . ولم يكن شاعرا وكاتبا وصحفيا وحتى مثقفا ومتعلما على درجة من المعرفة العلمية ، ولكنه كان يمتلك تلك الموهبة النادرة التى يفتقر اليها معظم المثقفين الكرد وغير الكرد وهى السخرية اللاذعة وروح الفكاهة والدعابة ، حيث لم يكن يمر اسبوع من دون أن تظهر للوجود احدى حكاياته الساخرة ودعابة من دعاباته ونوادره التى كانت تنتشر بين المثقفين الكرد المقيمين فى بغداد انتشار النار فى الهشيم ومنها تنتقل الى مدن كردستان . والطريف فى الأمر ان بشير مشير –رحمه الله – كان يطلب من أصدقائه الكتاب والصحفيين الكرد تدوين حكاياته اللاذعة وقصصه الساخرة والفكاهية والمقالات المعبرة عن آرائه القومية ونشرها فى صحف بغداد بأسمه . ويجمع كناب سيرة بشير مشير اته كان قوميا متعصبا ان خاطبته باللغة العربية وقلت له مثلا : صباح الخير ، يرد عليك باللغة الكردية ( روز باش ) أى نهارك سعيد . ولكننا نعتقد ان ذلك يعود الى بساطته وعفويته واخلاصه العميق لوطنه وشعبه المظلوم وأن وطنيته الصادقة كانت تدفعه الى اختراع القصص والحكايات الخيالية والمبالغة فى تصوير كل ما يمت الى الكرد بصلة وكان يعتقد أنه بذلك يسدى خدمة جليلة الى قضية شعبه العادلة. .. وقد استغل بعض الكتاب رغبة بشير مشير فى الشهرة وأخذوا ينشرون المقالات النارية المطالبة بحقوق الكرد وينشرونها بأسمه ، ولما كان معظم ما يرويه ويتحدث عنه بشير مشير يتعلق بأمجاد الكرد فى الماضى والظلم الذى لحق بهم فى الحاضر من جراء السياسات الشوفينية المتبعة من قبل دول التقسيم ، فقد جلب له ما نشر من نوادره وآرائه - فى العهد الملكى وبعدالأنقلاب الفاشى فى 8 شباط عام 1963 - الكثير من المتاعب والمشاكل ، حيث سجن بسبب بعض تلك الكتابات المنشورة بأسمه ولكنه ظل صامدا أمام كل ما صادفه من اضطهاد وملاحقة . فى أواخر الخمسينات لم يكن أجمالى عدد السكان الكرد فى أجزاء كردستان وفى البلدان الأخرى مجتمعة يزيد عن(20 ) مليون شخص ولكن بشير مشير كان يصر على القول ان العدد الأجمالى للسكان الكرد فى العالم لا يقل عن ( 50 ) مليون نسمة بالتمام والكمال ! وكان أصدقائه من المثقفين الكرد يقولون له ان هذا العدد مبالغ فيه يا كاكه بشير ولكن الكاكه كان يرد عليهم بالقول : ( ان عدد نفوس الصين أكثر من مليار نسمة ، فهل يعقل ان لا يكون بينهم ثلاثون مليون كردى ) . ربما يتساءل القارىء : ما الذى ذكرنا ببشير مشير ؟ وجوابا على هذا التساؤل نقول : اذا كان لدينا فى الخمسينات والستينات بشير مشير واحد ، فأن الساحة السياسية والثقافية الكردية يزخر اليوم بعشرات النماذج الكاريكاتيرية لظاهرة بشير مشير والتى تتمثل فى المبالغة الشديدة والآراء السطحية الساذجة حول كل ما يتعلق بماضى الكرد وحاضرهم . هنالك أساتذة جامعات وكتاب واعلاميون كرد ، همهم الأكبر البحث فى ثنايا صفحات التأريخ وفى الثقافات الأخرى وفى وسائل الأعلام العربية والأجنبية عن أية اشارة مهما كانت بسيطة وعابرة لها علاقة بالكرد وبخاصة فى سير العباقرة والعلماء المسلمين وغير المسلمين وتضخيم ذلك على نحوغير معقول ، لا يقبله العقل والمنطق. يقول المستشرق الروسى الراحل ( كراجكوفسكى ) : لا توجد حضارة يمكن ان نطلق عليها اسم ( الحضارة العربية ) ولكن ثمة ( حضارة اسلامية ) أسهمت فيها الشعوب الأسلامية قاطبة . ومما لا شك فيه وكما بينا فى دراسات سابقة ، كان للكرد دور مشرف وأساسى فى بناء هذه الحضارة . ولكن هذا لا يبرر على الأطلاق ، تلك النزعة السطحية – التى تنم عن الجهل والسذاجة – فى جعل كل عظيم من عظماء التأريخ القريب والبعيد كردى الأصل ، لمجرد تشابه اسمه مع أى اسم كردى وأية اشارة أخرى تنم عن علاقته بالكرد مهما كانت عابرة وواهية . ولعل أطرف ما قرأته هذه الأيام - وهوالذى دعانى الى كتابة هذه السطور – مقال نشرفى احدى الصحف الكردية المركزية - والقومية على حد تعبير الأخوة المصريين - يزعم فيه الكاتب " ان سيدنا آدم كان كرديا ويتكلم اللغة الكردية وأن اسم ( آدم ) مشتق من كلمة ( واديم ) أى سآتى حالا وهى رد آدم على نداء ( حواء ) تعال لنأكل التفاح . هذه ليست اسطورة ونكتة بل كلام جدى ينسب لأحد الملالى تارة والى بشير مشير تارة أخرى . قبل ذلك قرأت مقالا لكاتبة كردية فى صحيفة محلية رصينة عن وجود قرية فى صعيد مصر تحمل اسم ( كوند ) أى القرية باللغة الكردية وأن الكرد قد سكنوا صعيد مصر منذ مئات السنين . وقد بلغ بها الحماس حد جمع المعلومات حول اهل القرية واجدادهم الكرد – على حد زعمها - من اجل اثبات نظريتها الجديدة ولكن دون جدوى ولما يأست من الحصول على اية معلومة تؤيد زعمها ، قالت ان اهل القرية قد استعربوا ونسوا لغتهم الكردية ، وقبل فترة وجيزة ذهب وفد اعلامى كردى الى كوريا الجنوبية للأطلاع على جوانب الحياة فى هذا البلد وبخاصة فى مجال وسائل الأعلام المختلفة وبدلا من دراسة التجربة الكورية فى تحديث المجتمع والتقدم السريع فى كافة مجالات الحياة واستخلاص ما يفيد مجتمعنا وثقافتنا المعاصرة من تجارب ودروس وتمتين التعاون الثقافى والأعلامى بين البلدين والشعبين ، راح احد اعضاء الوفد يسأل عن كورد كوريا الجنوبية وبعد بحث طويل ومضنى - على حد تعبيره – تمكن من العثور على بعض اللاجئين الكرد فى هذا البلد النائى ونشر على صفحات الصحف المحلية ريبورتاجات وتحقيقات مسهبة معززة بالصور عن لا جئين كرد يمتهنون بعض الحرف البسيطة فى هذا البلد البعيد ، بل ان احدهم يقدم لزبائنه الكوريين والشرقيين كباب اربيل الشهير . وجاء فى موقع الكترونى كردى ان محافظة كردفان السودانية كردية وأن سكان دارفور أكراد وأن اسم هضبة جولان السورية كردى لأن ( جولا ن وكولان ) أسم أحد الأشهر الكردية والأغرب من ذلك كله ما ورد فى هذا الموقع عن وجود ( 70 ) ألف كردى بين سكان أسبانيا الأصلاء .. كثيرا ما نقرأ فى صحافتنا المحلية بأن المخرج المصرى الفلانى والكاتب التركى الشهير والشاعر العربى المعروف صرح بأنه يعتز بقوميته الكردية وجاء الى ارض الآباء والأجداد لشم هواء كردستان العليل ويتذوق لبن اربيل الشهير وهوالذى لا يعرف كلمة كردية واحدة ولم يسبق له الأشارة الى أصله الكردى لا من فريب ولا من بعيد ولم يخرج فيلما وكتب رواية ونشر قصيدة له علاقة بالكرد ولكنه على غرار كثير من الكتاب والشعراء والأعلاميين العرب الذين يسيل لعابهم للكرم الكردى ، لا مانع لديه ان يقول ما يثلج صدور بعض الأعلاميين الكرد الذين يعتقدون بأن مثل هذا الكلام يخدم القضية الكردية المشروعة. لا يقتصر الأمر على الأعلاميين والكتاب ، بل أن معظم المثقفين الكرد معجبون ببشير مشير أيما أعجاب ويكنون له أعمق مشاعر الود والمحبة والأجلال . وقد حدثنى صديق عزيز يحتل موقعا رفيعا فى شركة ألمانية ، بأنه ومجموعة من المثقفين الكرد من محبى بشير مشير قد شكلوا جمعية فى ألمانيا تحمل أسم ( البشيريون ) وأن المهمة الأساسية للجمعية هى السير على منوال المرحوم بشير مشير وتشجيح روح الفكاهة والدعابة بين أعضاء الجمعية ، ولا شك بأن هذه الجمعية هى أعجب وأطرف جمعية كردية على الأطلاق . .ايها المثقفون الكرد : لقد صبرنا وتحملنا الكثير مما هوفوق طاقة البشر وقطعنا اشواطا طويلة وحدنا ولم يكن لنا من نصير اوصديق سوى جبالنا الشماء . لسنا بحاجة الى اكراد الدولار ولا الى انتزاع المشاهير من شعوبهم ولا الى أختراع القصص والحكايات مهما كانت لطيفة ومسلية ، فما هوموجود فى تأريخنا وتراثنا يشرف أى شعب ، والمهم ما نفعله اليوم وليس فقط ما كنا نفعله فى الماضى .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |