|
سراب الحلم الأمريكي في عيون عراقية مطفئة
د. حامد العطية قابلته أول مرة في السعودية، في العام 1982م، وفي مدينة الرياض بالتحديد، جمعتنا زمالة العمل، لم تكن قد انقضت سنة على مغادرتي العراق، هروباً من طغيان النظام البعثي، واحتجاجاً على سياساته التعسفية والعدوانية، أما فهو فاختار السعودية بدلاً من العودة للعراق، لأنه لم ينوي العودة أبداً، كان بوده البقاء في أمريكا، ولكنه لم يجد عملاً، والسعودية بالنسبة له محطة مؤقتة، قبل العودة لأمريكا، للتجنس والإقامة الدائمة. بالطبع كان بعثياً، مثل كل المبتعثين، ومثل معظم العراقيين، الذين انتموا للحزب طمعاً وخوفاً، فأصبح البعض منهم حزبيين مخلصين، لدرجة الوشاية بأخوانهم وأصدقائهم أحياناً، ولم يترددوا في تنفيذ أحكام الإعدام من دون مناقشة، أما هو فقد كان مصلحياً بإمتياز، انتماؤه وسيلة للحصول على الشهادة العليا والسفر إلى أمريكا، وبعد حصوله على الدكتوراة من أمريكا على حساب الحكومة البعثية لم يعد لديه سبب يربطه بالنظام، وتبخرت كل مشاعر الوطنية من نفسه، وأظنه كان يسخر مني من دون إفصاح، لأني جاهرت بمعارضتي للنظام الطاغوتي، وأبيت الانتماء لحزبه، ولم أخف معارضتي لحربه العدوانية على إيران، من دون اكتراث للسعوديين، حلفاء النظام البعثي. المسافة بين مسقط رأسه في النجف الأشرف ومكان مولدي في الشامية أقل من عشرين كيلومتراً، والمشترك بيننا الدين والطائفة والمنطقة والوطن، لكننا في الفكر أغراب تماماً. استاء مني لأنني رفضت التبرع للحرب الصدامية، بينما سارع هو لتقديم بعض مصاغ زوجته، وغضب مني عندما أخبرت زميلاً شيعياً في العمل بأنه من طائفتنا أيضاً، ولم يصدقني السعودي في البدأ، فقد كان زميلاً له في الجامعة بأمريكا لسنين، أخفى فيها النجفي انتماءه الطائفي، وتظاهر أثناءها بأنه سني، فقد كان يصلي الجماعة مع السعوديين على طريقة أهل السنة، واستمر على كذبته في السعودية، حتى فضحته من دون قصد أو تعمد. تفرقت بنا السبل في 1988م، غادر هو السعودية إلى أمريكا، بعد حصوله على بطاقة الإقامة الخضراء، وسافرت انا إلى سوريا لأبدأ الفصل الثاني من رحلة الشقاء في الغربة، كان في جيبه جواز سفر عراقي أصلي وبطاقة إقامة امريكية خضراء، وأنا ايضاً كنت أحمل جواز سفر عراقي، ولكنه مجدد بختم المعارضة، ولم يتبق على نفاذ صلاحيته سوى ثلاثة أيام فقط. رزقه الله بثلاثة، أكبرهم الأبن، تخرج وتوظف، ولم يمر وقت طويل حتى تزوج، فتبدد فرح التخرج وحلت محله خيبة الأمل والحزن، تزوج من رئيسته الأمريكية المسيحية في العمل، والتي تكبره في العمر بسنين، وبعدها بقليل تركت الوظيفة ليصبح الابن المعيل الوحيد للعائلة، جن جنون النجفي فأقسم أن لا يكلم إبنه الوحيد أبداً، أما ابنته الكبرى فتزوجت من عراقي، من غير طائفته، ورضي أبوها بذلك على مضض. عشرون سنة في أمريكا قضاها متنقلاً بين ولاياتها، من وظيفة إلى أخرى، حتى استقر المطاف به أخيراً في فلوريدا، بحر وشمس وصيف دائم، كل ما يتمناه الأمريكيون في شبابهم وقبل أفول أعمارهم، عقدان من السنين من دون مستقر، ثم فاجأهم بقراره شراء منزل، كان يحلم بمنزل كبير، فكان له ما أراد، ولكن بثمن باهض، لم يدفع منه سوى القليل، والبقية بالرهن، مثل بقية الأمريكيين، وحتى يكتمل حلمه الأمريكي اشترى سيارة فخمة غالية الثمن. كانت الاتصالات بيننا قد عادت، بالحد الأدنى، مكالمة هاتفية في العيد، ورسائل ألكترونية لم يتجاوز مجموعها أصابع اليد الواحدة، في اخر إتصال قال لي: هذه هي الحياة التي كنت أحلم بها، أنا الآن جالس على الشرفة المطلة على المحيط، وفي اليد قنينة بيرة، كان يعرفني متديناً. ثم مات، بذبحة قلبية، في سيارته الفارهة، وعجز الأطباء في طواريء المستشفى من إسعافه، كان في أواسط الخمسين من عمره، أي اقل من متوسط أعمار العراقيين، الذين رزحوا تحت نظامي صدام والاحتلال الأمريكي البغيضين، وتحملوا ويلاتهما. مات، قبل اكتمال حلمه الأمريكي، تخلت زوجته عن المنزل الفخم، لأنها لا تستطيع دفع أقساط الرهن، وكانت أزمة الرهن العقاري قد أطاحت بأثمان المنازل للحضيض، فكان نصيبها من المنزل الصفر، واستأجرت هي وابنتها شقة صغيرة، من دون إطلالة على المحيط، واضطرت كذلك لإرجاع السيارة الفارهة، والتنقل بالحافلات العمومية، وقبل أن تجف دموع الحزن في عينيها بدأت بالبحث عن عمل، لكي تعيل نفسها، فلم تجد سوى وظيفة عاملة في حضانة، ولم يكن الأمر هيناً بالنسبة لأمرأة جاوزت الخمسين، ولأن راتبها المتواضع غير كاف لتغطية مصاريف المعيشة، قطعت ابنتها دراستها الجامعية لتعمل هي الأخرى. بعد الدكتوراة من أمريكا وعشرين سنة من العمل المتواصل كان الحلم الأمريكي مجرد سراب، مات الأب النجفي، وتشتت عائلته، تعيش أرملته وحيدة، تعمل من أجل معيشتها والضمان الصحي، إبنها في ولاية، وكل من ابنتيها في ولايتين مختلفتين، اللقاءات في المناسبات فقط. الحلم من حق الجميع، ولم أعرف إنساناً أكثر تمسكاً بالحلم الأمريكي من ذلك النجفي، لكنه مات تاركاً عائلته تعيش كابوساً، بل أسوء الكوابيس في نظر العراقيين، فإذا كان هذا مصير الأمريكي من أصل عراقي في بلاد الأحلام التي تجري فيها أنهار الحليب والعسل، كما يصفها الأمريكيون، فأي نوع من الأحلام يتوقع العراقيون من الأمريكيين تحقيقه لهم في العراق؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |