|
العراق: الضرورات تبيح المحظورات سئل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أكثر من مرة: لقد زرت اغلب البلدان العربية، ولم يبق إلا العراق، فمتى تزور العراق، وهو (قلعة العروبة) ؟ كان يختلق أعذارا في كل مرة، ولكنه همس بأذن أحدهم في إحدى المرات، قائلا: " إنني أخشى كثيرا من العراقيين.. إن صورة فجر 14 يوليو ( 1958 ) ماثلة أمامي، ولم تفارقني أبدا " ! ولم يقتصر الأمر على زعيم مثل عبد الناصر الذي لم يزر العراق أبدا، إذ كان يخشى كثيرا من العراقيين، بل غدا الأمر بالنسبة لكل عراقي من كل العراقيين، أن يحسب ألف حساب، وهو يتعامل مع أبناء وطنه ليس في مؤسسات الدولة فقط، بل حتى في نسيج المجتمع، انه حتى إن اتفق معهم، فكيف الأمر إذا اختلف وإياهم .. ؟؟ كنت أنعي على الرئيس الأمريكي جورج بوش غباؤه، وأنا أراه يرشق بالحذاء من قبل واحد من العراقيين في صالة مجلس الوزراء . ويبدو أن بوش تعامل طوال هذه السنين مع العراق بسذاجة بالغة، وهو لم يقرأ حرفا واحدا، لا عن العراق، ولا عن العراقيين ! صحيح، انه قدم إلى بغداد سرا لأكثر من مرة، ولكنه أعلن عن وجوده ببغداد في مؤتمر صحفي وأمام صحفيين، وبينهم بعض العراقيين، ولا ادري كيف لم يدرك ما وصل إليه العراق في ظل الوجود الأمريكي.. وأن معظم العراقيين أدركوا بما لا يقبل مجالا للشك أن العراق قد عبثت به أجندة أمريكية، ليس منذ خمس سنوات، بل منذ أكثر من خمسين سنة ! ومن حسن الصدف، أن يغادر الرئيس الامريكي جورج بوش الابن العراق وهو بصحة جيدة، وهو يحمل اكبر اهانة في حياته! التوحش وليد الانسحاقات ثمة من يخالفني الرأي، والحق معه، إذ يقول بأن التوحش لم ينته يوما من مجتمعاتنا، بالرغم من كل ما وصل إليه العرب من بدايات نهضة عند خمسينيات القرن العشرين، فلقد كان هناك وجه آخر للمجتمع، وليس هو المجتمع المسحوق بحد ذاته، بل كل نخب المجتمع السياسي بأسرها، والتي سمّت نفسها بـ " الثورية " متخذة أسلوب " العنف الثوري " أداة لها وشعارا لأهدافها .. هنا أعلن المجتمع يترجم " الحرية " و " الثورية " و " الشعبية " بأشكال بربرية، وهو يعلن عن عصيانه ورفضه، مترجما أفعاله بالسحل، والقتل، وغوغائية متوحشة لم تنحصر عند أناس مهمشّين أو مسحوقين اجتماعيا فقط، بل تمثّلت بنخب سياسية متنوعة لم تعرف إلا لغة القتل والاغتيالات والتقصيب، وسواء السحل بالحبال، أم القتل بالطبر .. سواء بإرسال قطار السلام إلى الموصل، أم إرسال قطار الموت إلى نقرة السلمان ! وكل من كان مسؤولا عن ذلك لم يعلن أبدا، اعترافه بالخطأ حتى هذه اللحظة، فكيف نريده إنسانا سويا، أو متحضرا، أو قابلا لمنح الأجيال القادمة، مهما كانت ميولها واتجاهاتها، أمثلة حية على نزعته الإنسانية، أو الديمقراطية، أو المتمدنة ؟ يبدو أن كل ما تربينا عليه من ترديد أفكار، ودموية أشعار، وبؤس أساليب، ووهم شعارات، وهوس عواطف، وعصف أناشيد، وفوضى خطابات .. الخ نحن أبناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية لثلاثين سنة وحتى مطلع الثمانينيات السابقة، قد تغّير تماما اليوم في جيل ترّبى على أساليب وأفكار غاية في التردّي والتعّصب والخوف والأنانية وازدواجية المعايير والتظاهر بالرأي الواحد والتخلف والنرجسية والمكابرة والتراجع وسحق النزعة الوطنية والإنسانية وعلى مدى الثلاثين سنة المنصرمة .. وها نحن نعيش منتجات هذا الركام البشري الذي صنعته المرحلة السابقة بكل اضطراباتها، وموبقاتها، وآفاتها، وآثامها عندما افتقدت السلوكيات الحضارية، وأوغل العقل في بدائيات متوحشة، وانزوت كل القيم الاجتماعية والوطنية بعيدا عن كل الايجابيات بفعل استفحال اختلاط المستويات الاجتماعية التي كانت متباعدة فيما مضى، وبفعل السلبيات الاجتماعية والسلوكية التي تنتجها المعاناة والحروب والفقر والحصارات والممنوعات وكل الانسحاقات، وبفعل توظيف " الدين " مع مطلع الثمانينيات، لزرع الكراهية، والأحقاد، والنفي، والإقصاء، والتكفير، والإرهاب واعتقال الحياة .. الخ ما الفعل الاقوى : السحل بالحبال والضرب بالاحذية ؟؟ لقد قامت الدنيا ولم تقعد حول ضربة الرئيس الأمريكي بالحذاء، وقد رشق من قبل شاب عراقي في قلب رئاسة الوزراء بالعاصمة بغداد، وهو من جيل لم يشهد بعينيه، ولم يسمع بأذنيه، رموز البلاد تربط بالحبال، وتسحل، وتعلّق، وتقطّع أعضاؤها، ولكنه من جيل لم يتربى إلا على الأحذية والنعل التي كانت رمزا للاهانة منذ زمن طويل .. ولم يقتصر الأمر على العراق وحده، فلقد هاجت الحياة العربية بين مؤيد ومعارض لتلك الضربة التي أهين فيها اكبر رمز لأقوى دولة في العالم نهاية عام 2008 .. وبالرغم من قوة الفعل وقوة الردود عليه، إلا أنني لم اندهش أبدا، ولم أعلن عن أي موقف أبدا.. لأنني كنت أتوّقع حدوث أسوأ من ذلك بكثير، وربما سيحدث أسوأ مما جرى بكثير، ودوما أقول لأصدقائي : إن من له القدرة على أن يسحل رؤسائه ورموزه من نسوة ورجال بالحبال في الشوارع الإسفلتية القائضة، أو أن يهين الأموات على شاشات التلفزيون، أو يعلّق النساء على أعمدة الكهرباء قبل خمسين سنة من اليوم، له القدرة على أن يرمي حذاؤه وأزباله بوجه اكبر رأس في العالم .. إن المشكلة، لا تتمثّل بفرد واحد من أبناء مجتمع نال من الانسحاقات طويلا، بل تتمّثل بمجتمع تنازعته الاهواء والتقلبات منذ نصف قرن، وتتلاعب به الفوضى من قبل قادته ومحتليه الذين مارسوا كل أساليب الصراع، وجذب الإرهاب، وسحق الكرامة، والعراقي الأصيل، مهما بلغ توحشه، اقتله ولا تخدش كرامته، فكيف ان حاولت سحقها ؟ .. إن سحل الإنسان حيا أو ميتا أبشع بكثير من رمي إنسان آخر بالقندرة .. أتمنى على نخب العراقيين سواء كانوا من الساسة، أم من المثقفين، وسواء كانوا مع الحذاء، أم ضده، أن يفكروا قليلا بما قلت .. لقد أجازت نخب العراق السياسية، كل الحبال، وكل النضال طوال سنوات مضت.. ولكنها اشمئزت من استخدام الأحذية اليوم .. إن أبناء نخب عراقية مثقفة لم تتقدّم حتى اليوم بإدانة واضحة لاستخدام الحبال لسحل الرجال، وتعليق النساء، أو البصاق بوجه زعيم عسكري عراقي معدوم على شاشة التلفزيون .. كما لم تراجع نفسها وتقدم اعتذارا تاريخيا لما حدث من إباحات سياسية في اهانة الرموز الوطنية العراقية، مدنية كانت أم عسكرية منذ خمسين سنة، وأنها لم تعترف حتى يومنا هذا بأخطاء لا تبررّ، وبخطايا لا تغتفر، وسيسجلها التاريخ بأحرف سوداء، ليس لكونها أتت من غوغاء متوحشين، بل لأن غدت مباركة من مجتمع بأسره، ومن دولة جعلت المجازر وحمامات الدم أعيادا لها ! والانكى من ذلك، كم هو حجم العملاء في العراق على امتداد خمسين سنة، عندما يتضح كم كان هناك من عبث للآخرين مهما كان نوعهم أو جنسهم، بكل العراق من خلال الطوابير الخامسة والسادسة في العراق ! من الأهم لدى العراقيين ؟ إنني أسأل من له القدرة للإجابة على السؤال القائل : من الأهم لدى العراقيين ؟ زعماء بنوا العراق وعمّروه، واخلصوا له، وتفانوا من أجله، وكونوا أجيالا من المبدعين، وحملوا اسم العراق إلى كل الدنيا .. أم رئيس أمريكي أصبح في ذاكرة العراقيين رمزا للهشاشة والإرهاب والغباء ؟ زعماء سحلوا بالحبال، أم زعماء ضربوا بالقنادر ؟ العراقيون من أروع الناس إذا عرف المرء كيف يتعامل معهم، وعرف شمائلهم بذكاء منقطع النظير .. إنهم كتل ساخنة من العواطف الجياشة .. هم طيبون عندما يستلزم الأمر، ولكنهم سريعو الغضب والشتيمة والتهكم بشكل لا يصدق . إنهم عندما يخرجون عن أطوارهم، تهيجهم عواطفهم، وتنفلت عقولهم، وتسيطر عليهم انفعالاتهم.. ولكنهم، متى وجدوا الحديدة حامية، انقلبوا على أعقابهم، ليصبحوا مخلوقات من نوع آخر ليهزجوا ويرقصوا أمام جلاديهم .. ومثلما يسحلون الأجساد العارية في الشوارع، فهم يضربون أكبر رأس في العالم بأحذيتهم ! وهم أيضا، أول المؤيدين لهذا الفعل، أو أول المعارضين لذاك ! وليس السحل بالحبال، أو الضرب بالأحذية هو الانفعال فقط، إذ أن التعصب ينال كل كيانهم، حتى الكتابة في الصحف، والتظاهر في الشوارع، وإعلان المواقف، وإرسال برقيات التأييد .. وكلها في عداد الانفعالات الساخنة.. إن المثقفين والكتّاب العراقيين هم أول المنفعلين بالأحداث المجردة، إنهم ينفعلون أيضا، فتجدهم، أما يكونوا مع المصفقين، فيجعلوا من صانع الحدث بطلا، أو يكونون في الضد منه، فيلعنون ويشتمون، ويمسخونه مجرما من المجرمين، إنهم، جميعا، يقفون عند زاوية معينة من دون ربط أي حدث بطبيعة صنّاعه .. ومن دون إيجاد أي تفسير لأسباب ما يحصل.. ومن دون أي تأمل في التداعيات التي سيؤول إليه الحدث . لقد سكت معظم الساسة والمثقفين والكتّاب والمؤرخين العراقيين على جنايات ارتكبت بحماقات وطيش وغوغائية وجنون ونذالة وعمالة وارتزاق واستبداد وقسوة ... على امتداد عهود القرن العشرين من دون أي إدانة واحدة، أو أي اعتراف بالخطأ، ولكنهم فجأة اليوم، تغدو أفكارهم حضارية ومتمدنة، وتدين بالويل والثبور وعظائم الأمور ضرب الرئيس الأمريكي بالحذاء ! ان المشكلة ليست في عراقي واحد وكأن الجميع ملائكة، فأي حدث هو تعبير عن طبيعة مجتمع . وعليه، فأنني لم استغرب ما حدث، بل أنني كنت أتوّقع حدوث اكبر من ذلك، وليس هناك من حرج أمام العراقيين في أن يفعلوا ما شاء لهم، وخصوصا، عندما يشعر كل واحد منهم انه قادر على صنع أي قرار يريد تنفيذه بنفسه .. فإذا كان كل ما حدث هو خطير وكبير، فأنني أتوّقع حدوث مالا يحمد عقباه مستقبلا، إذ سيحدث الأكبر والأخطر منه ـ لا سمح الله ـ على امتداد العراق في قابل الأيام. وها أنا ذا أنبه إلى ذلك، والأيام بيننا .. وأخيرا : ماذا أقول ؟ المشكلة لم تقتصر على انحرافات مجتمع تحّمل الكثير الكثير، بل بشاعة سياسات ودول، وتصفيق مجموعات سياسية متقلبة .. المشكلة لا تتوقف عند حدث معين يتمثل برشقة حذاء في لحظة تاريخية معينة، بل سينظر المرء إلى تاريخ الحدث كلّ من زاويته، فالمشكلة، تتمثل بانقسام مجتمع إزاء من رمى الحذاء كونه بطلا عند بعضهم، ومجرما عند آخرين ! إن من عاش وتربّى على شعارات الهدم والسحل والقتل والتقطيع والجماجم، ومن عانى واضطهد طويلا يهن عليه رشق اكبر رأس في العالم بقندرته ! ودوما ما تدان المومسات العاهرات على أفعالهن المنكرة، ولكن المومس لم تصنع الظروف الشاذة، بل أن الظروف الشاذة هي التي صنعتها ! ولنا أن نسأل من كان وراء صنع الظروف الشاذة في العراق على امتداد خمسين سنة ؟ ومن كان وراء جعل العراق مزرعة للإرهاب على امتداد خمس سنوات ؟ هل من عقلاء يتأملون في تاريخ العراق وأمزجة العراقيين ولا ينزعجون من قراءة سوء الحظوظ في فنجان مقلوب ؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |