هبَّات الشارع العربي كزهور الصحراء، قصيرة الجذور سريعة الذبول

 

د. شاكر النابلسي

aliali81189@googlemail.com

-1-

يخرج المواطن العربي في هذه الأيام إلى الشارع متظاهراً بكثافة، بمناسبة محرقة غزة البشعة. ولكن الملاحظ أن المواطن العربي – عادةً – لا يخرج إلى الشارع، إذا كان هذا الشارع يمُسُّ بأذى السلطة الحاكمة.

وقد لاحظ الباحث، والمحلل السياسي الأمريكي، ديفيد بولوك في كتابه (الشارع العربي:الرأي العام في العالم العربي، 1993) أن الشارع العربي اعتاد أن يتحرك في حالات معينة فقط، منها رغبة الدولة في تحريك هذا الشارع، تجاه قضايا معينة، تريد أن تكسبها. فالشارع العربي قليل الاهتمام – في معظم الأحيان – بالقضايا المطروحة على ساحته.

-2-

إن مشكلة الشارع العربي أو ما يُعبّر عنه في الماضي بـ "الدهماء" أو "الغوغاء" أو "العوام"، أن "الدين الشعبي" متجذرٌ فيه تجذراً عميقاً، وهذه ليست رذيلة بل فضيلة. ولكن العيب في ذلك، أن هذا الشارع ينساق وراء الأحزاب الدينية، انسياق الغنم وراء راعيها، دون وعي أو تفكير صحيح بما يجري حولها. ومن هنا، استطاعت السياسة أن تستغل الدين استغلالاً كبيراً لصالحها، وبالتالي أن تُسيّس دهماء الشارع حسب ما تريد، كما سبق وعبّر طه حسين عام 1927 عن ذلك، إثر أزمته الكبرى، التي أصابته من جراء كتابه العاصفة "في الأدب الجاهلي"، فقال عن "استغلال السياسة لعواطف السواد". فالحكومات العربية تجاه أية مشكلة، ذات حساسية دينية، تثير الدهماء، وتدفعها إلى الشارع، لكي تغطي على ضعفها، وهشاشتها، وعجزها، عن مواجهة هذه المشاكل، وحلها.

-3-

هل صحيح، أن هبَّات الشارع العربي كزهور الصحراء، قصيرة الجذور، وسريعة الذبول؟

وهل صحيح، أن خيبة الشارع العربي، متأتية من طبيعة المجتمع العربي الفردي، الذي هو على غرار القصيدة العربية، كل بيت فيها رائع بمفرده؟

وهل صحيح، أن خيبة الشارع العربي، متأتية من سيطرة الخرافة، والفكر الغيبي عليه، فيما يُطلق عليه بـ "التدين الشعبي"؟

كل أجوبة هذه الأسئلة بنعم صحيحة. وربما تكون سيطرة الخرافة والفكر الغيبي على الشارع العربي، من أكثر سلبيات الشارع العربي سطوعاً.

فسيطرة الخرافة، والفكر الغيبي، على الشارع العربي كبيرة. سواء كان مصدر هذه الخرافة المؤسسة السياسية أو المؤسسة الدينية.

 -4-

فمنذ مطلع القرن العشرين كان الفلاحون في مصر – مثالاً لا حصراً – يُقسمون بأنهم قرأوا اسم سعد زغلول على أوراق شجيرات القطن، كما يقول المستشرق الفرنسي المعروف جاك بيرك في كتابه (مصر: الإمبريالية والثورة، ص 22). وقبلها، كان السودانيون يقسمون، بأنهم كانوا يقرأون اسم محمد أحمد المهدي (1848-1886) مؤسس المهدية في السودان على أوراق الشجر، وبيض الحمام. وأثناء حرب الخليج 1991، قال بعض الدراويش الأردنيين، المتحمسين لصدام حسين، والناعمين بعطاياه ومطاياه، أنهم قرأوا اسمه على سطح القمر، في ليلة صافية من ليالي الصيف. وقد أثّرت كل هذه الخرافات في الشارع العربي، وفي حماسه وتأييده لبعض الزعماء والسياسيين.

-5-

وإلى جانب الخرافة، فهناك عوامل سلبية كثيرة، أثّرت على الشارع العربي، وأدَّت به إلى الشلل؛ بحيث لم يعُد له أثرٌ على القرار السياسي العربي، ومن هذه العوامل:

1-  معاناة الشارع العربي من محنة الارتباك، وغموض الرؤيا. وقد أفرز هذا خطاباً عربياً زاعقاً، تندرج عناوينه تحت الشعور بالعجز، إلى شعور بالغضب- وهو شعور مستهلك وعابر في المزاج العربي – إلى شعور بالاستقالة من الحياة، كما يقول سليمان عبد المنعم في بحثه (الواقع العربي : محاولة للفهم لا أكثر).

2-             عدم وجود رأي عام سياسي. ويرد بعض المحللين إلى أن هذا لا يعود إلى الجماهير فقط، ولكنه يعود أيضاً إلى السلطات العربية الحاكمة، التي لا تتيح هامشاً كبيراً لحرية الرأي.

3-   معاناة الشارع العربي من العقل العربي المستباح، والانفصام التام بين ما يُقال وبين ما يُفعل، بين الشعارات وبين القرارات. بحيث أن مبدعي الأمة استقالوا من مهنة توعية الشارع العربي، وتركوا الشارع مُغيَّباً، يُعرب عن غضبة من خلال التظاهرات الصاخبة، والشعارات السياسية الرومانسية الفاقعة، والتحليلات الجوفاء. وبقي الشارع العربي تجاه قضايا كبيرة ومهمة، مجرد هبَّات غضب عصبية عابرة، كسحب الصيف.

4-   معاناة الشارع العربي من عجز النقد الذاتي، في تفعيل عملية التغيير في الواقع العربي. والأزمات الحادة التي تجتاح الشارع العربي، غدت مفجراً غير ثوري لإمكانية تحقيق ترتيبات اجتماعية جديدة، تتركز حول محاور رئيسية ثلاثة: الحداثة، والديمقراطية، وتحرير المرأة.

5- انقطاع الشارع العربي عن مجريات السياسة، والفهم فهماً عقلانياً لما يدور حوله. فالشباب العربي لا يقرأ. وقد قالت تقارير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في العالم العربي خلال السنوات الماضية، وكذلك تقرير البنك الدولي حول الموضوع ذاته، وتقرير "مؤسسة الفكر العربي" عن التنمية الثقافية العربية، بأن العرب هم أقل الأمم في القراءة، وهم أقل الأمم في إنتاج الكتاب. وأن أهم كتاب في العالم العربي، لا يبيع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة، نتيجة لضخامة عدد الأميين (60 مليوناً)، وما زال أكثر من عشرة ملايين طفل غير ملتحقين بالمدارس. ويقول تقرير "مؤسسة الفكر العربي" لعام 2008، عن "التنمية الثقافية": إن معدل الالتحاق بالتعليم في الدول العربية لا يتجاوز 21.8%، بينما يصل في إسرائيل 85%. وفي مجال التأليف والنشر، تضمَّن التقرير تحليلاً، عن إجمالي الكتب التي نُشرت في العالم العربي، في عام 2007، وبلغت 27809 كتب، ولا تمثل الكتب المنشورة في العلوم والمعارف المختلفة من هذا الرقم سوى 15%، بينما تصل نسبة الكتب المنشورة في الأدب والأديان والإنسانيات إلى 65%. وهناك كتاب يصدر لكل 12 ألف مواطن عربي، بينما هناك كتاب لكل 500 إنجليزي، ولكل 900 ألماني، أي أن معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4% من معدل القراءة في إنجلترا.

-6-

وأخيراً، يظل الشارع العربي نتيجة لكشف السلبيات السابقة، إضافة إلى سلبيات أخرى، لم يتسع لها المجال في هذا المقال، صوتاً بلا صدى، وصرخة بلا مُستجيب. يقول الشاعر والكاتب اللبناني أُنسي الحاج (جريدة "الأخبار" البيروتية، 2/1/2009):

"تَظاهَر العرب عشرات ألوف المرّات منذ فلسطين، ولم يحقّقوا مكسباً واحداً. وتعاقبت عليهم الهزائم كالسيول. خرجتْ من جعير شوارعهم إلى قلوبهم وعقولهم. ترَى الجماهير على الشاشات تَهدر وعقولها متجمّدة والشفاه المزبدة تصيح: "فين كُن (أين أنتم) يا عرب؟" على اعتبار أن العرب هم الآخرون". 

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com