|
جولة جديدة من النقاش الفكري والسياسي مع السيد سلامة كيله (1)
أ. د. كاظم حبيب بدأ الحوار حول موضوع الحرب الدائرة في غزة ودور إسرائيل وحماس فيها, ولكنه اتخذ ابعاداً فكرية وسياسية جديدة. فقد كتب السيد سلامة كيله مقالاً نقدياً قمت بمناقشته، ثم واصل فكتب سلسلة من المقالات (5 حلقات) التي ناقش فيها العديد من الموضوعات التي طرحتها في مناقشتي له، أو بعض الذي لم أطرحه، وحول موقفي السياسي من الماركسية والمنهج المادي وفن الممكنات في السياسة والحزب الشيوعي العراقي وفهد، ومن ثم الموقف من الحرب وإسرائيل وحماس والقضية الفلسطينية ...الخ. وبسبب وجود اختلاف كبير بين رؤيتي للكثير من الأمور التي طرحها السيد كيله، وجدت من المناسب خوض النقاش حول أبرز القضايا الفكرية والسياسية التي طرحها والتي تستوجب إبداء الرأي بشأنها والتي لا يجوز إهمالها. كما يمكن أن أعرج على بعض التعليقات التي أرى مفيداً الإشارة إليها، وسأبتعد عن كل ما يسيء إلى الحوار السياسي الموضوع والحضاري. وربما سأكتفي بهذا القدر من النقاش في تلك القضايا، إذ أن كلاً منا سيكون قد أبدى رأيه الذي يمنح القارئات والقراء فرصة الاطلاع على ما نريد إيصاله لهم. وسأحاول الإجابة عن السؤال المهم التالي : من أوصل القضية الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن؟ في أخر حلقة من هذه السلسلة. ولنبدأ الآن مع الحلقة الأولى من أفكار السيد سلامة كيله. أؤكد مجدداً بأن الماركسية منهج علمي يستخدم لفهم الواقع من خلال تحليله واستيعاب حركة التاريخ والقوانين الموضوعية الفاعلة واتجاهات التطور واستخلاص النهج الذي يساعد المناضلين على العمل لتغيير ذلك الواقع نحو الأفضل والأرقى في سلم التطور الاجتماعي. والقدرة على استخدام هذا المنهج تعتمد على ثقافة ووعي الإنسان وعمق معرفته بالمنهج وقدرته على فهم حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي، إضافة إلى أهمية القدرة على تشخيص وإدراك فعل وتأثير العوامل الداخلية والخارجية على أحداث بلد ما أو منطقة من المناطق، سواء كان الأمر يمس العراق أم فلسطين أم أفغانستان أم منطقة الشرق الأوسط، على سبيل المثال لا الحصر. ومثل هذه الدراسة يفترض أن تكون ملموسة لتساعد المناضلين في نشاطهم الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي مع المجتمع ومن أجل ضمان توفير مستلزمات تحقيق عملية التغيير المنشودة في أوضاع بلدانهم وشعوبهم. والماركسية طرحت منهجاً مادياً علمياً مفتوحاً لكل من يريد وقادر على استخدامه. ومن هنا يصح القول بأن لا يمكن ولا يجوز احتكار الماركسية من هذا الحزب أو ذاك أو من هذا الشخص أو ذاك. ويبقى استيعاب المنهج المادي والقدرة على استخدامه لا يتقرر مني ولا غيري لنفسه، بل يمكن أن يحدد يؤكد الواقع الذي نعمل فيه ومدى استفادة المناضلين من تحليلاتنا في المسيرة النضالية الصعبة والمعقدة في بلداننا بشكل خاص على مدى صواب أو خطأ تلك التحليلات والاستنتاجات. ولهذا أجد مناسباً أن أناقش النص التالي للسيد كيله: "في هذا الوضع يمكن أن أقول بأن هذا الموقف ماركسي أو غير ماركسي، وهذه السياسة ماركسية أو غير ماركسية. لكن عبر التحليل والبحث وليس عبر أي شيء آخر كما يجري لدى البعض الذي لا يستطيع إلا أن يتعامل بالأحكام المطلقة، وبالتالي بالشتائم، وبتحويل السياسة والفكر إلى شتائم، استمراراً لـ "الدوغما" التي كانت تحكمه وهو شيوعي، حيث كان يكيل الشتائم لكل ناقد للاتحاد السوفيتي. وبالتالي استمراراً لـ "العقل" (أو اللاعقل) الذي كان يحكمه." وقد كان في مقطع سابق قد ثبت ما يلي: "وبالتالي فليس نقاشي هنا من أجل أن "أنزع الشرعية الماركسية" عن د.حبيب أو عن غيره، فهذا ليس من حقي، لكن من أجل توضيح الرؤية الأسلم للواقع الراهن في إطار الصراع الفكري من أجل تحديد السياسة المطابقة للواقع التي يجب أن تحكم الحركة الماركسية". في هذا المقطع ثلاث مسائل تستوجب النقاش: 1 . يمكن للكاتب أن يبدي رأيه ويحكم على أراء غيره بأنها ماركسية أو غير ماركسية عبر التحليل لها ومن خلال اجتهاده، ولكنها يبقى هذا الرأي شخصي يحتمل الخطأ والصواب، وليس بالضرورة أن يكون الرأي صائباً، إذ أنه في ذلك يعبر عن اجتهاده وعن إمكانياته في استخدام المنهج العلمي في التحليل، كما يمكن أن يكون الآخر هو الأصوب في تحليله للواقع رغم النقد الذي يوجهه له ويعتبره غير ماركسي. ليست هناك مرجعية معينة في هذا الصدد, وإذا كان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بالنسبة للأحزاب الشيوعية (الأممية الثالثة) والعديد من قوى اليسار في العالم مرجعاً لهم، ولم يكن هذا الموقف صائباً بأي حال، فأن تطور الأحداث في العالم هو وحده القادر على تبيان مدى صواب أو خطأ هذا الرأي أو ذاك. المسألة هنا ليست تجريبية، بل أن التحليل لا يقتصر على فهم الواقع فقط وعلى فهم المنهج فقط، بل يعتمد على الخلفية السياسية والاجتماعية والثقافية والمصالح التي يلتزم بها هذا الحزب أو ذاك و÷ذا الشخص أو ذاك. والحكم لا يمكن أن أكون أنا أو أي شخص آخر، إذ لكل منا اجتهاده، بل الحكم هو مجرى الأحداث ومدى تطابقها مع تحليلاتي أو تحليلات غيري. 2 . أما عن الشتائم فهي ليست ذات نفع لأحد فحسب، بل هي مسيئة للطرف الذي يستخدمها وللحار أ النقاش الفكري الذي يدور بين الناس. وهذا جزء من تراث اللينينية والستالينية والفكر اليساري عموماً، ولكنه كان وسيبقى جزءاً من الفكر القومي والفكر البرجوازي أيضاً، ويعبر عن مرحلة فكرية وسياسية تجسد المراهقة وعدم النضوج، إذ أنها حيلة العاجز وليست قوة للمحاور. ولا زالت في البال شتيمة لينين لروزا لوكسمبورغ حيث عاهرة سياسياً حين وجهت في حينها نقداً صادقاً وصريحاً وشفافاً لمجالس السوفييت والتجربة البلشفية في كتابها عن "الثورة الروسية" الذي كتبته في معتقلها في العام 1918 وقبل الغدر بها بقتلها مع رفيقها كارل ليبكنخت في 15 كانون الثاني /يناير 1919 من قبل الجندرمة الألمانية في حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وبقرار أو موافقة أو سكوت مطبق على ارتكاب الجريمة من قبل وزير الداخلية الألمانية ممثل الحزب الاشتراكي الألماني گوستاف نوسكه. في مقدور الجميع ممارسة أسلوب الشتم الكل يستطيع أن يشتم، ولكن الشتائم لن توصل النقاش والحوار إلى النتائج المنشودة. ومارست قيادات الحزب الشيوعي السوفييتي والأحزاب الشيوعية الكثير من الشتائم إزاء من خالفها الرأي، ولكنها تبين أنها هي التي كانت على خطأ، ولم يساعد ذلك على تطوير الفكر الماركسي وتنوع الاجتهاد فيه. والإدانة لهذا الأسلوب واردة وصحيحة. 3 . من يمكنه تأكيد أن رؤيتك هي الأسلم للواقع الراهن وليست رؤية الآخرين الذين يختلفون معك في هذا الموقف أو ذاك. إن الادعاء بامتلاك الحقيقة برؤية الواقع الأسلم كان من الماضي، وهي الرؤية السوفييتية القديمة التي تنتقدها، فامتلاك الحقيقة والحق كان ملكاً للسوفييت وليس لغيرهم، وهو ما جرّ على كل اليسار البلاء الكثير. لا يمكن لأي منا الادعاء بامتلاك العقل والآخر يمتلك اللاعقل، فأنا أبدي رأيي وعلى الآخرين نقده وإبداء الرأي والحياة كفيلة بالبرهنة على مدى صواب أو خطأ ذلك، أو ربما عبر النقاش الهادئ والموضوعي والبعيد عن التشنجات التي تظهر في بعض التعليقات وما بين سطور الكاتب. يتحدث السيد كيله عن كراس فهد " حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" ويعتبر "هذه التمييزات ليست من الماضي، ولن تكون كذلك، لأن الماركسية تخضع للتناقضات الطبقية، وبالتالي يميل البعض من الفئات الوسطى إلى تطويعها لمصالح هذه الفئات، أو حتى لمصلحة الرأسمالية". هذا الكراس كتب في العراق في العام 1941/1942 وهو خطاب لا يعكس الصراع الفكري الذي كان يدور في العراق حينذاك، بل كان يعبر عن الصراع في إطار الحركة الشيوعية على صعيد الدول الرأسمالية المتقدمة، ولكنه أُلبس على واقع العراق حينذاك، ويمكنك أن تقرأ تلك الأفكار في مساهمة لينين (رسالة إلى رفيق) في إجابته أيضاً على أسئلة الرفاق. وكان الاستناد إلى النصوص اللينينية أو الستالينية والتقاليد الثورية للحركة الشيوعية أداة مهمة في إثبات أو التدليل على صحة الخط الذي يعتمده, وفي إثارة عاطفة وحماس الشيوعيين. لقد استند فهد في القسم الأعظم من هذا الكراس إلى جملة من إجابات لينين وعلى كتابات ستالين وخطاباته منذ عام 1925, أي حين بدأ ستالين تشديد صراعه ضد بعض قياديي الحزب الذين اتهمهم بالتحريفية والانتهازية أو بالخيانة للوطن والحزب. وتطرق فهد في هذا الكراس إلى النقاط التالية: - الرسالة التاريخية للطبقة العاملة؛ - دكتاتورية البروليتاريا؛ - جوهر البلشفية؛ - الأمميات الثلاث, - وحدة النظرية والتطبيق؛ - الانتهازية, - الانحرافات اليمينية واليسارية في الحركة العمالية؛ - الفروق بين الحزب العلني والسري؛ - الكادر الحزبي والكادر القيادي, - الاتجاهات الاقتصادية في الحركة العمالية؛ - حل الأممية الشيوعية؛ - مسائل الإستراتيج والتكتيك؛ - التركيب الاجتماعي للعراق؛ - الطبقة العاملة ووعيها؛ - حلفاء الطبقة العاملة؛ ...الخ. لقد اعتبرت هذه الموضوعات والحوارات حولها في تلك المرحلة من حياة الحزب والحركة الشيوعية العالمية الأساس المادي لبناء حزب شيوعي ماركسي - لينيني من طراز بولشفي جديد قادر على الصمود بوجه السلطة الرجعية وأجهزتها الأمنية والقوى الأجنبية المعادية للحركة الوطنية العراقية (راجع في هذا الصدد كراس ستالين "في سبيل تكوين بولشفي" 1935 لتجد مدى التطابق في الفكر والممارسة). ومتابعة كتابات الرفيق فهد تعيد الإنسان إلى مرحلة ثورية شديدة الحركة والحيوية من تاريخ العراق الحديث, حيث المناقشات والحوارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحتدمة, وحيث النضالات العنيدة في سبيل الديمقراطية والتقدم والاستقلال السياسي وضد الإمبريالية والفاشية والإقطاع والرجعية, وضد التخلف والفقر والاستغلال الأجنبي والإقطاعي في عراق الأربعينات. والمرحلة التي نحن فيها اليوم تختلف عن تلك المرحلة وبالتالي فأن ما جرى تأكيده حينذاك لا يعني بالضرورة صحيح في هذا اليوم. لقد كتب فهد هذا الكراس في بلد كانت الطبقة العاملة محدودة العدد والفلاحين يشكلون الغالبية العظمى من السكان والمجتمع تسوده العلاقات العشائرية وقانون العشائر، حيث لم تكن الطبقات الاجتماعية متبلورة بعد حينذاك. ولم يكن فهد في بعض ما كتبه في هذا الكراس على صواب في بعض خلافاته مع بقية قادة أو مناضلي الحزب الشيوعي العراقي أو الذين تركوا الحزب أو الذين طردوا منه بسبب تلك الخلافات. ولا بد من الإشارة إلى أن الماركسية لا تخضع للتناقضات الطبقية، بل أن القوى الطبقية تسعى إلى الاستفادة منها لصالحها وتستخدمها لأغراض انتهازية، كما تفعل القوى القومية اليوم التي تريد ترحيل أفكارها إلينا وكأنها جزء من الفكر الماركسي. انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |