|
حمد اللامي .. وبرزان التكريتي .. واطفال الكُرد المُخْتَطفين!؟
محمود حمد .. دُكت باب المنزل الرمادي بحي الثورة في اطراف مدينة العمارة بعنف بعد منتصف الليل .. هرعت "ام شاكر" الى كوة في ستارة الغرفة المطلة على الشارع ..تستطلع الطريق.. · ردو عليك ردود ..اولاد الكلاب..الى اين نعطي وجهنا منهم ؟! قالتها بيأس مفجوعة، مخاطبة الشيخ الهزيل الممدد تحت إيزار الصوف في زاوية الغرفة..استجمع الرجل قواه كي يُخْرس القرع الصاخب الذي ايقظ سكان (الدربونة).. وسط زعيق الرجل الغليظ الذي فتح له كوة في الصندوق الفولاذي خلف السيارة المعتمة..صعد الى الجوف المظلم الخانق.. لم يألوا جهداً هذه المرة لتجميع افكاره ..وصياغة اجوبته قبل الوصول الى من ينتظره من الجلادين..فقد اعتاد على الاسئلة والاجوبة وماتؤول اليه..بعد الاستجوابات الثلاثة عشرة التي مر بها خلال السنوات الثلاث الاخيرة.. وهو ( السياسي اللاسياسي!!)..كحال مئات آلاف العوائل العراقية التي مُحقت، بعد ان أُختطفت كرهائن لدى السلطة ..لاقتناص ابنائها!.. وحال وصولهم الى قاع غرفة التعذيب في مديرية امن العمارة..ودخول وجوه جديدة لم يألفها من قبل في فريق الجلادين..ادرك ان "المحنة" التي تنتظره هذه المرة ليست كسابقاتها..سأله المتين المائل للشقرة بصوت متوعد: · اين ابنك (.......)؟!..لاتتعبنا معك..ولاتتوهم اننا سنكتفي كالمرات السابقة بتعليقك للمروحة.. لاذ الشيخ السبعيني بالصمت.. تلاقفته أكُفٌّ كالجرافات وأوصدته بالسلاسل الى نافذة المبنى المطلة على المدخل الرئيسي.. امضى خمسة ايام معلقا بالسلاسل او ملقى في " الحمام" .. تذكر ان ابنه الذي يبحثون عنه كان قبل خمسة عشر عاما نزيلا نازفا في ذات "الحمام".. يأس منه الجلادون..وأيقن في قرارة نفسه انها خاتمة الطريق! في فجر اليوم السادس..سيق الشيخ الخاوي،مُتَّكِأً على ذراع احدهم ..زُجَّ في قرارة ذات السيارة المعتمة..تعثر بجسد يئن في ظلمة السيارة..تلمسه واعتذر منه..أُوصدت باب الصندوق الفولاذي خلفة وانطلقت السيارة الى المجهول.. بعد ساعات من الصمت والتوجع والارتجاج..استند الرجلان الى كتف بعضهما واعتدلا في رقدتهما على ارضية السيارة..تساؤلوا في الظلمة :من انت؟!..دون ان يتساءلوا : لمن انت هنا!؟ ..تعرفوا على بعضهما بمجرد ذكر اسم القبيلة.. سأل جليسه بلهجة مازحة:كنت اعتقد انك من اهل الاخرة! اجاب الرجل : · الاعمار بيد الله..انا اتذكرك صبيا وانا متزوج ولي اولاد.. · ولماذا انت بين ايديهم؟ · يريدون مني سلمان..ابني الاصغر الذي غادر العراق عام 1963 ..! توقفت السيارة فجأة في منتصف الطريق بين شيخ سعد والكوت..كانت الشمس مكتملة الشروق والهواء مفعم بنغم بارد.. احسوا بالوجل عندما تناهى لهم صرير القفل خلف السيارة..انفرجت الباب وشاع الضوء والهواء بين اضلاع الصندوق الفولاذي المظلم..انطبقت عيونهم للحظات ثم راحوا يتأملون وجوه بعضهم البعض بصمت..قاطعهم شاب انيق في مقتبل العمر..كان يكتم بوابة السجن الصغير بجسده: · ترجلوا من السيارة..صَلّوا إن شئتم.. قدم لهم ماءً ..سألهم ان كانوا قد اكلو او شربوا شايا..قدم لهم الطعام والشاي ..ظل واقفا في بابق السيارة الفولاذي..بدد الصمت الذي كان يخيم على المشهد بصوت خاشع: · اني اسمي غازي ابن (....)..لم اتمنى يوما ان اكون في مثل هذا الموقف المشين..انتم تعرفون ابي رحمة الله ..لاشك انكم تعيبون عليَّ وظيفتي وانا ابن ذلك الرجل..اي شيئ تحتاجونه سألبيه لكم..لانني لااريد ان اخدعكم ..فهذه رحلتكم الاخيرة..رغم اني _ والله _ لاأعرف الى اين سآخذكم..ففي نقطة التفتيش عند جسر ديالى ساتصل بالامن العامة ويخبروني الى اين سآخذكم!.. كانت اصوات المدفعية الثقيلة والانفجارات تهز الارض من جبهات القتال القريبة من موقعهم..ورائحة البارود تكتم الانفاس في تلك البقاع..رأرأ غازي عيناه الى الافق الداكن بسحب الحرب ..وهمس اليهم : · الجبهة اليوم منكسرة بديسفول..والاسرى بعشرات الالاف! تلفع الرجلان بالصمت..وأُوصدت الباب..حتى جسر ديالى..توقفت السيارة لبرهة ..نزل غازي مسرعا الى غرفة الحرس..وعاد مسرعا.. قطعت السيارة الطريق في ضحى ذلك اليوم بسرعة فائقة..ولم تتوقف الا عند بوابة سوداء في الطرف الغربي من مبنى المخابرات بالحارثية.. فتحت الباب وأُنزل الشيخان من قبل رجال ملثمين..احاطوهم وساروا بهم الى مدخل حديدي صغير ..توقفوا عند الباب ..غشى عيونهم ضوء ساطع ينبثق من مصابيح كبيرة داخل القاعة..إقتادوهم بخشونة ..بدأت ملامح جوف القاعة تتضح ويتبدد السطوع عن عيونهم..قَلَّبوا عيونهم في الحشد الذي تَكْتَظُّ به القاعة وصَكَّت اذانهم صرخات الاطفال التي تتفجر في جميع الارجاء..اجلسوهم متراصين مع عوائل جُلُّها من الاكراد..توعدهم الرجل الذي رافقهم: · الفم الذي يُفتح يُغلق برصاصة!.. كانت الى جواره ام شابة في الثلاثين من العمر ..يلتصق بها ثلاثة اطفال مذعورين دون السابعة من العمر..حمل احدهم ووضعه في حضنه، شعر بدفئ كأنه نسغ الحياة انبعث من وجيب قلب الطفل الى روحه – كما يتذكر تلك اللحظة - رنى الى مقدمة القاعة المقيدة بمسلحين متوترين ومهددين.. امتدت في مقدمة القاعة منصة خشبية كالتابوت الفخم .. عليها طاولة طويلة مكفنة بغطاء اسود، وخلفها كرسي واحد..الكل يترقبون الباب..المُختَطفون والمُختَطِفين..طال الانتظار واستوطن السكون تارة والنحيب تارة اخرى..وعند الغروب..دبت حركة غير اعتيادية عند الباب وداخل القاعة..دخلت جوقة من الرجال المدججين بالكراهية والسلاح الى القاعة واحاطوا بالجميع كالقيد حول المعصم..بعد ساعة من ذلك ..وصلت ثلة بملابس واسلحة متميزة واصطفت امام المنصة حيث وضعت آلاف الملفات على الطاولة..بعد برهة دخل برزان التكريتي ومعه مدير الامن العام.. ألقى مدير الامن العام كلمة بالحاضرين تمحورت حول "مكرمات الرئيس القائد!"و"رحمته!" و " عفوه عن الظالين!"..ثم تراجع واعطى مكبر الصوت لبرزان ..اشار برزان بيده الى اكداس الملفات قائلا: · هذه مصائركم..من يريد منكم ان يعود الى بيته او يريد الذهاب الى الجحيم ..فهذه ساعة الحساب..وساعة العفو! بدأ احد مرافقي برزان اعلان الاسماء المدونة على الملفات الحائلة اللون..يعقبها سؤال واحد..: اين زوجك ؟ اوابنك ؟ او اخيك ؟ او ابيك ؟ او زوجتك؟.. جاء دوره..لم يستطع الوقوف على قدميه..بقي متسمرا بمجلسه.. سأله برزان: · لماذا لا تدعوا ابنك للعودة للوطن ؟!.. او الخروج من مخبأه ان كان داخل العراق؟.. فها نحن اليوم نحمل لكم عفوا عاما من "الرئيس القائد".. اجابه بصوت مُتعب: · من اين لي ان اعرف اين هو اليوم؟..وقد اغترب عنّا منذ اثنا عشر عاما؟!.. رد عليه برزان وهو يكتم غضبه: · ان لم تعرف عنوانه ..اعطنا عنوان اصدقائه ..حتى يساعدوننا للوصول اليه وانهاء غربته عنكم..وسنجمعكم به.. صمت الشيخ ماسحا لحيته البيضاء بباطن كفه.. صرخ برزان به متوعدا: · سنصطاده ..اينما يكون.. · جُرّووووه..! سُحِل الشيخ الواهن القوى الى جدار في آخر القاعة.. فما ان يُتلى الاسم ..ويلوذ المُنادى بالصمت حتى تنهال الهراوات على الضحايا وتُجَر الى جوار ذلك الجدار.. جاء الدور للام الشابة ..سألها برزان : · من اين انت؟ اجابته بصوت مخنوق: · ..من السليمانية.. · هل انت ربة بيت؟ · ..كلا ..انا معلمة.. · اين زوجك؟ · ..لاادري.. · وكيف لاتدرين وانت زوجته؟! اجابت بيقين ثابت: · يقول القرآن الكريم ..الرجال قوّامون على النساء ولم يقل النساء قوّامات على الرجال..؟! اشتاط غضبا وانهال عليها ببذيئ الكلمات.. وقفت كالرمح بعد ان دفعت باطفالها الى الشيخين المتجاورين معها متمتة: · هؤلاء أمانة بأعناقكم ان بقيتم احياء.. ثم التفتت الى برزان قائلة: · انتم دولة وعجزتم خلال ثلاث سنوات من الوصول اليه ..فكيف تريدني ان اهتدي اليه وانا سجينة منذ ذلك التاريخ في زنزاناتكم؟..اطلقوا سراحي حتى استطيع ان ابحث عنه .. تلاقفتها ايدي الوحوش واختفت في عتمة الليل.. يعقبها صراخ اطفالها الذين انتزعوهم وفصلوهم عنها وتلاشوا بهم من باب القاعة الخلفي.. فجأة ..دخل احد الحراس مسرعا..وصعد على الفور الى المنصبة موشوشا في اذن برزان..خرج صاخبا ومتوعدا وموجها كلمات قاطعة مشوشة الى مدير الامن العام.. أُطفأت اضواء القاعة..وسيق الجميع من الباب الاسود الصغير الى فناء مفتوح ..حيث جرى فصل المُختَطَفين الى مجموعات صغيرة..كانت بانتظارهم سيارات مغلقة ..زُجَّت النساء والاطفال في سيارات اوقفت في الطرف الاخر من الفناء فيما جرى توزيع الرجال على سيارات اخرى ضُمرت فيها مصائرهم.. اقتادوه وصاحبه الى خلف مرآب السيارات في رئاسة المخابرات العامة..وجدو غازي بانتظارهم..طلب منهم الصعود الى جانبه..لانهم مشمولون بالعفو! تساءلوا : · هل نحن المشمولين بالعفو ام ابنائنا؟.. التفت اليهم مُحذرا من الوهم: · انتم..وليس ابناءكم ..! · فابنائكم لن يعفى عنهم ..حتى وان صدرت قرارات عفو بأسمائهم..لاتصدقوا ذلك! فيما بعد.. بوقت ليس بالطويل.. قُتِلَ الملازم غازي في حادث سير!.. وتواصلت إستدعاءات أمن العمارة له حتى عام 2003..وسنفصح عن تلك الصفحات المريرة وشخوصها في قادم الايام.. وغادر صاحبه أبو سلمان دنيانا الى الآخرة بعد عام من ذلك التاريخ..دون ان يضعف موقفه الأبوي او يلين. وظل دفئ ذلك الطفل المُغَيَّبْ يسري من روحه وذاكرته الى كل احاديثه أينما يحل.. واليوم .. مضت عشرون يوما على رحيل "حمد اللامي" ..مغتربا في بيته .. يتوجع من أثر التعذيب بمعصميه وقدميه! ياأبتي.. سنتذكر بإعتزاز صبرك الجميل ..وثباتك المتواضع..وصمتك السخي..وزُهدك..ودَرئِك الموت عنّا بجسدك النحيل.. وسنعمل مع كل الشرفاء في العراق من أجل ان لا يُسمح بإرتهان الأشخاص في بلادنا بجريرة غيرهم مهما عًظُمت تلك الجريرة !
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |