|
وعسى أن تكرهوا الانتخابات العراقية المحلية!
محمد عارف/ مستشار في العلوم والتكنولوجيا لو استخدمت الهيئة الانتخابية تصنيف النكات العراقية بدلاً من المحاصصة لجنّبت البلد حمامات الدم. أم ذلك كان هو المطلوب من الانتخابات والاستفتاء على الدستور عام 2005؟ فالنكات سماح، ولا سماح في قلوبٍ مجنزرةٍ بدبابات الاحتلال. وما تزال نكات العراقيين على بعضهم بعضاً مطمورة كالجمر تحت الرماد. وتذكر أحدث نكتة كردية أن الرئيس جلال الطالباني وعد العراقيين بالإعلان عن نتائج انتخابات مجالس المحافظات قبل موعد إجرائها نهاية الشهر الحالي! وينال الأكراد أكبر نسبة في محاصصة النكات العراقية، يليهم أهل الموصل. وتعتصر القلب نكتة في ظروف الانتخابات الدموية الحالية عن مرشح "مصلاوي" كتب في الملصق الانتخابي تحت صورته: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"! والخير كثير في انتخابات مجالس المحافظات، حيث عدد المرشحين تجاوز 14 ألفاً يتنافسون على 440 مقعداً، أي معدل المتنافسين على المقعد الواحد نحو 32 مرشحاً. وحققت النجف أعلى من المعدل العام وبلغ 40 مرشحاً على المقعد الواحد، وفاقتها كربلاء حيث بلغ معدل المتنافسين 44. يقل عن ذلك كثيراً عدد المرشحين في الموصل، حيث يتنافس 400 مرشح على 37 مقعداً، أي 10 مرشحين تقريباً على المقعد الواحد. ومع أرقام متواضعة كهذه لا يحق لأهل الموصل الاعتراض على النكات عن اقتصادهم بالمال. ونكتة الموسم عن مرشح "مصلاوي" صبغ نصف جدران سرادقه الانتخابي، وكتب على النصف الثاني "نفس اللون"! ولو استخدم المرشحون في باقي المحافظات "صبغ" الموصل لاقتصدوا نحو4 تريليونات دينار، وهو مجموع رسوم تسجيل المرشحين للانتخابات، حيث يدفع كل مرشح 250 مليون دينار. والأموال في السياسة كالمياه الآسنة، حيثما تتجمع ينبت الفساد. وقد أعلنت "هيئة النزاهة" أخيراً أنها اكتشفت أكثر من 65 وثيقة دراسية مزورة لمرشحي الانتخابات. وصرّح رئيس "هيئة النزاهة" القاضي رحيم العكيلي لصحيفة "الصباح" الرسمية أن عدد الشهادات التي تم تدقيقها إلى حد الآن ثلاثة آلاف فقط، ولن يسمح ضيق الوقت بمراجعة 50 ألف شهادة أخرى! والمهم في الانتخابات ليس عدد المرشحين وشهاداتهم، بل عدد الناخبين، ونسبة الذين سيدلون بأصواتهم. والتحقق من هذه الأرقام مهمة عسيرة. فالرقم الوحيد يذكره موقع الإنترنت الإنجليزي في المفوضية العليا للانتخابات، وجاء فيه أن عدد المسجلين للانتخابات الحالية بلغ مليونين و900 ألف ناخب. ويقل هذا عن نصف المسجلين للانتخابات البرلمانية عام 2005 وكان ثمانية ملايين. ولم تذكر المفوضية فيما إذا كان العدد يتضمن ملايين المهجرين خارج البلاد، الذين تقرر حرمانهم من المشاركة في الانتخابات الحالية. ويقاطع الانتخابات الذين يناهضون الاحتلال والحكم الطائفي الناجم عنه. ولا يمكن لومهم على ذلك. فالبشرية ستذكر بعد ألف عام كارثة الاحتلال، التي يُقارنها حتى المؤرخون الأجانب بغزو المغول للعراق. وأكثر المشككين بجدوى الانتخابات هم الذين اكتشفوا فساد وعجز أحزاب وجماعات صوتوا لها في الانتخابات البرلمانية، وشهدوا حوادث التزوير والرشوة التي رافقتها. ولا يُنكر أن التزوير والرشوة يرافقان الانتخابات في بلدان عدة في العالم، لكن رشوة الناخبين بوعود دخول الجنة شيء مختلف. وحسناً فعلت الجهات الدينية بإعلان حيادها في الانتخابات الحالية. ويعترف سعد الراوي، عضو مجلس المفوضية العليا للانتخابات بوجود "حالة من النفور العام لدى المواطنين من الانتخابات، وخيبة شريحة كبيرة من الناخبين من عدم الإيفاء لهم بالوعود التي قطعتها الأحزاب الفائزة في الانتخابات السابقة". والخيبة مصدر أكبر نكتة في الانتخابات، وعنوانها "المستقلة". فالكلمة أصبحت المفتاح السحري للأحزاب والجماعات المتنافسة، بما في ذلك "المجلس الإسلامي الأعلى" الذي أطلق "قائمة شهيد المحراب والقوى المستقلة". واكتفى وزير النفط حسين الشهرستاني بكلمة "مستقلون" عنواناً لكتلته الانتخابية! وتُبدع القوائم في استخدام الكلمة، مثل "الكوادر والنخب الوطنية المستقلة" و"تجمع كفاءات العراق المستقل" و"أكاديميون بصريون مستقلون" و"اتحاد المعلمين والكوادر المستقلة" و"الكتلة الوطنية المستقلة لعشائر ومثقفي العراق". ومن يستطيع المزايدة على "كتلة الصادقين المستقلة" أو "كتلة عراق الإباء المستقلة" أو "مستقلون من أجل الجميع" أو "تجَّمُع أنا عراقي مستقل" أو"القوي الأمين لكتلة المستقلين"؟! وفي الجغرافيا الطبيعية للعراق ندرك معنى قول الفيلسوف الفرنسي فولتير إن "غير الضروري هو الضروري جداً". فالعراق لا يتكون قبل أو بعد كل شيء من طوائف، أو إثنيات، بل من مناطق، ومحافظات، ومدن، وقرى، وحتى أحياء وأزقة. وعلى الرغم من التغيرات الإدارية في عدد وأسماء المحافظات، ويبلغ عددها حالياً 18 إلاّ أن سكانها حافظوا على شعور الانتماء إليها، بغض النظر عن دياناتهم، أو مذاهبهم، أو حتى لغاتهم، بما فيها محافظات كردستان الثلاث، التي تأجلت انتخاباتها لحين حسم عائدية محافظة كركوك. وعلى خلاف التصورات الجاهزة يشكل المكان الجغرافي هماً رئيسياً لأجيال جديدة من المثقفين العراقيين الدينيين من الطائفة الشيعية. يتحدث عن ذلك أحد ألمع هؤلاء المثقفين، وهو عادل رؤوف في كتابه "عراق بلا قيادة". يتناول الكتاب وعنوانه الثانوي "قراءة أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في العراق الحديث"، موضوع "إشكالية القيادة-المكان"، ويعرض شهادات عاطفية موجعة يشكو فيها هؤلاء المثقفون من "غياب البعد الوطني". ويثير الاهتمام كيف واجه بشجاعة مثقفون وطنيون دينيون "الإشكالية"، التي تقاعس عن طرحها المثقفون غير الدينين، والليبراليون واليساريون خصوصاً. نقرأ في شهادة إبراهيم العبادي "نحن شيعة عراقيون، لقد ضاعت لدينا القضية الوطنية، بحيث تحول المكان الوطني في شخصياتنا مفهوماً ذا بعد سلبي". ويقارن العبادي ذلك بالأحزاب الإسلامية في المنطقة "التي لا تتنكر لثوبها الوطني أبداً"، واحتفاظ الحركات الدينية بمكوناتها الوطنية في مصر وتونس والجزائر والمغرب "إلاّ نحن العراقيين"! ويعتقد العبادي "أن جذور هذه القضية تكمن في أن مصدر التوجيه الفكري والعقائدي لا ينتمي إلى التربة العراقية"، ويستعيد بهذا الصدد تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم "على الانتماء الوطني والانتماء إلى الجغرافيا، فهذا النسب الجغرافي التاريخي للتراب فيه جانب روحي لا يمكن للإنسان أن يتخلى عنه". ويشير إلى أن الرسول كان يتذكر وهو في المدينة المنورة مكة المكرمة، "ويحن ويتطلع إليها، بل يسأل حتى عن بعض خصوصياتها وتفاصيلها من المسافرين". هذه الشهادات قد تدلنا على أن السنة والشيعة، الذين يمثلون الثنائية المذهبية الرئيسية لمسلمي العراق، عرباً وأكراداً، كالهيدروجين والأوكسجين "لم يتحولا فحسب مباشرة بأي طريقة قديمة إلى ماء. فللماء أيضاً تاريخه"، حسب الزعيم الصيني ماو تسي تونغ. ولعل هذا هو تاريخ العراق.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |