الجامعات العراقية وبعض معطيات الاستقلالية والعمل

 

د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

Chancellor@averroesuniversity.org

 الجامعة العراقية وريثة المدرسة السومرية التي مثلت المحفل العلمي التعليمي الأول في تراث الإنسانية قاطبة.. وهي وريثة المدرسة الفلسفية الوسيطة على عهد الحضارة العربية وعاصمة المعارف والعلوم في بغداد دار الحكمة وبيتها المأهول الناشط الفاعل، وتحديدا في هذا العهد وُلِدت أول جامعة عراقية ممثلة بــِ "المستنصرية" حاضرة العلم والدرسين الفكري الفلسفي والعلمي الصرف.. وعلى الرغم من التراجع والانزواء خلف مدارس تفقيس التخلف، مدارس الملائية البليدة إلا أنَّ المكتبة المعرفية العلمية لم تألُ جهدا في مثابرةِ ِ واصلتْ إنجاب علماء ومفكرين ومكتبة وطنية إنسانية الجوهر حتى عهد ولادة الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن المنصرم...

ويوم وُلِدت الدولة الوطنية العراقية كان عهد النهضة وبوادر تفتح جديد قد عزز أسُسَه، فوجدنا المدرسة العراقية تثور على الملائية والكتاتيب وتنجب جيلا مختلفا نوعيا؛ لتتصاعد وتائر التقدم وتدخل المرأة في ميدان التعليم... وتصبح الحاجة الماسة دعوة عملية ملموسة لتأسيس معاهد وكليات تتحول في سنوات معدودة إلى جامعة بغداد وتولد تدريجا جامعات العراق كالموصل والبصرة والمستنصرية لتصير اليوم بعدد محافظات البلاد وأكثر...

غير أنَّ الدرب لم تكن سالكة معبدة لعقلاء العراق وحكمائه ولا لجامعاته ومعاهده العلمية وكان من أخطر ما جابه هذه المؤسسة اختراق الحرم الجامعي والاعتداءات المستمرة على استقلاليتها بل تجييرها حقبة غير قصيرة وإخضاعها للسياسي الحزبي على حساب العلمي المعرفي.. حتى صارت الجامعةُ موئلا يتحكم في أنشطته برنامج وأفراد ليس بين أولوياتهم الجوهر العلمي.. وتمَّ تسريح العلماء والأساتذة وإبعادهم عن الخدمة أو تهجيرهم قسريا أو إحالتهم إلى إقامات إجبارية بعيدة عن أيّ عمل معرفي...

 اليوم يحاول العراقيون استرداد المبادرة بعد أن جاء التغيير العام بتداخلات وتعقيدات مركبة وملتبسة.. وهم في إطار الظرف القائم يصارعون من أجل تثبيت قيمهم وسمات مجتمع تراث الإنسانية المحب للعلم ولنور المعارف وقيم العلماء وآدابهم.. وفي مثل ظرف مطاردة ظلامية وصراع مرير أسفرت فيه قوى الجهل والتخلف عن كل وآخر أسلحتها التصفوية الدموية محرِّكةَ َ آلتها الجهنمية، يبقى الأستاذ العراقي شامخا مضيئا في مثابرته وعطائه العلمي، وتبقى الجامعة العراقية منيرة بتلك الجهود المعرفية السديدة...

والسؤال المطروح علينا الآن: ما مدى دور الجامعة العراقية في الحياة العامة لعراق اليوم والغد؟ والإجابة تتضح عبر اعترافنا بأنّ هذه المؤسسة ليست بعيدة عن كل مجريات الأمراض التي أصابت العراق على جميع الصُعُد والمستويات... وما زالت حالة اختراق الجامعة مستمرة وتعطيل استقلاليتها متصلا وإن تغيرت العنوانات فالأحزاب الحاكمة اليوم تقع في أخطاء غير مقبولة كونها تتعاطى مع فرض رؤاها وفلسفاتها بآلية التدخل والتحكم... وهكذا تتغير قوى التدخل من بائسي الأمن العام والأمن السياسي ورجال جنح الظلام والمخابرات والجيش الشعبي إلى عناصر [أجنبية] متسترة اخترقت جهاز أمن الدولة العراقية وبعض من صبيان أو زعران الميليشيات وأشقياء المافيات وعناصر العصابات المنظمة الذين يخرجون على إرادة أحزابهم في سلوكياتهم أو الذين يكررون أخطاء الماضي لضعف في تكوينهم وإمكانات أدائهم وتعاطيهم مع مؤسسات المجتمع والدولة كالجامعة مثلا، وهذه القراءة كما يراها القارئ لا تهاجم طرفا بقدر ما تحاول أن تريه الثغرات والأخطاء وحتى الجرائم التي تـُرتكب في ظلال اسمه بسبب أو آخر ما يتطلب إعادة التأهيل والتثقيف وتعديل الخطط والسياسات...

والحال [فعليا وفي ميدان الأمر الواقع] أن الأستاذ لا يمكنه أداء محاضرته من دون محاذير مسبقة ومن دون أشكال من الشروط والمحدّدات التي تحف محاضرته وأداءه عمله العلمي التعليمي والبحثي... والمؤسسة الجامعية لا يمكنها أن تمضي باستقلالية في ظرف وجود عناصر إدارية وطالبية وتدريسية لا تكتفي بتبني سياسة أحزاب بعينها، كأحزاب الأذرعة المتحكمة في هذا الميدان أو ذاك بحسب أدواتها ومكان سلطتها، ولكنها تذهب أبعد من ذلك بتنفيذ تدخلات أولويتها فتمرر أمراض الخطاب السياسي ونواهيه وسطوة شروطه غير المعرفية وغير التعليمية والبحثية وغير المنضبطة بمنطق عقلي كما في حالتنا التي تدرس أوضاع الجامعة ؛ وأبعد منه وتنفيذا لخطط السطو على الأجواء تمارس أنشطة عنفية من نمط التهديد والابتزاز والاختطاف الأمر الذي يصل حدّ التصفية والاغتيال في ظرف الانفلات والتجاوز وضعف الكادر السياسي وتشوش برامج العمل للأحزاب ما يدفعها لكسب على حساب استقلالية الجامعة وحرمتها وقوانينها...

إنَّ الجامعة العراقية اليوم أسيرة ما هو أضخم هولا من اضطراب الوضع الأمني.. إذ حال التكفير السياسي صارت له أدوات جديدة من مثل إسقاط (قدسية) مضلـِّلة، مدعاة أو مزعومة، تبيح لبعض صبيان السياسة الجدد أو بعض زعران اللحى والأعمة والجلابيب المستغلة أدوات أو أغطية ساترة ورموزا لإسقاط قدسية إلهية على تصرفاتهم وعلى خطاباتهم وخططهم وأوامرهم باسم [أمر السيد المقدس!]. وفي ظرف كهذا يتجدد أو يتكرر [في الغالب الأعم\ليس بالمطلق] أمر تعيين المحابين والذين يخضعون لشروطهم وفلسفتهم وخططهم.. وتصير لغة المحاصصة الطائفية ولغة المحاباة والرشاوى ولغة المحسوبية والمنسوبية وسيلة للتعيين بدل الكفاءة والتخصص والمناسبة للحاجة...

كما لا يرتقي سلّم المسؤولية شخص عارف خبير وإنّما تتحكم بالأمور سياسة التطهير على طريقة النظم السابقة عندما كانت [تطرد] من التعليم كل من لا يتفق وسياستها ويمرّر ألاعيبها.. والبديل اليوم، بوجوده مخترِقاَ َ عديدا من أجهزة الدولة، يمارس المبدأ ذاته في التطهير على أسس سياسية بله حزبية محدودة ضيقة وأكثر منه بحسب تسلسل القرابة والمحسوبية والرِّشا المقدمة.. وصرنا نسمع عن خبرات خارج العمل تعاني من البطالة والتعطل فيما الجامعة ما زالت بحاجة لكفاءات مضافة وخبراء ومتمرسين.. ومن يُفلِت من هذه العوائق ويدخل العمل الجامعي يبقى تحت طائلة التهديد بالتصفية أو في أدنى الحالات بالمحاصرة والتضييق ومنع فرصه في تقديم خبراته ومعارفه لطلبته أو قطع طريق البحث العلمي لديه...

 إنَّ عديدا من الجامعات المهمة الأبرز ما زالت تعاني من قلة الكادر العلمي المتخصص؛ بسبب من التصفيات الدموية وسياسة التهجير القسري التي طاولت آلاف العلماء والأساتذة فضلا عن عدم وجود فرصة مناسبة لتخريج دفعات جديدة بالحجم الذي يخرج فيه المتقاعدون من الجامعة.. وصرنا نشهد جامعات نسبة النقص فيها تتجاوز حافة الأزمة فيتضخم عدد طلبة الأستاذ الواحد لحجم غير مسبوق... وعلاوة على ذلك صارت نسبة حَمَلَة شهادة الماجستير في جامعات بعينها تتجاوز الـ 80% بل صرنا نسمع ونعرف بوجود أفراد لا يحملون شهادات صحيحة في كادر التدريس!! فضلا عن الانخفاض الخطير والتدني في مستويات كفاءة التدريسي الذي تخرج في ظروف معقدة افتقد فيها في أقل تقدير للمصدر الأحدث والأغنى في زمن حرائق المكتبات على طريقة هولاكو في زمن سقوط بغداد الأول...

ويمكننا الجزم بأنّ خطط الجامعات العراقية اليوم لا يمكنها أن تتجه بملموسية جذرية وجدية مناسبة نحو التعاطي مع أشكال دعم البحث العلمي وترصين العلاقة بالمجتمع العراقي.. وهي بهذا ما زالت بعيدة عن معايشة ظروف المجتمع ومتطلباته وبعيدة عن تقديم الدراسات الميدانية الاستراتيجية البعيدة والمباشرة الآنية.. فاستراتيجيا أو في إطار الأطاريح والرسائل العلمية شاع اليوم في عنوانات تلك الدراسات سماع مصطلحات ماضوية منقرضة أو طقوسية  غيبية لا تمس بأي حال ما يتطلبه العراق الجديد من العناية بفكرة بناء الإنسان وإعادة الإعمار.. إذ ما علاقة عشرات بل مئات الدراسات التي تعنون بقضايا ومسائل ومشكلات مضى عليها 14 قرنا ولماذا تكون الأولوية لعنوانات رخيصة من زمن التخلف وعصر الانحطاط فيما لا يتم توجيه الطلبة لجهود دراسة مشكلات المجتمع اليوم والغد...؟؟ وآنيا لم نسمع إلا ما ندر وبجهود فردية ومحدودة ومحاصرة في التعاطي مع مجريات الأوضاع.. وإلا كيف نوصِّف الوضع في وقت لا نسمع ولا نقرأ ولا نشاهد ولا نلمس جهدا للجامعة العراقية تتناول فيه المتغيرات المباشرة لتقترح المعالجات..

مثلا هل نهض مركز دراسات في جامعة عراقية بقراءة الرأي العام في قضية أو أخرى؟ وهل دفع الطلبة إلى ممارسة جهود ميدانية بالخصوص، وهم الجيل الأكثر حيوية والمعول عليه في تحريك البركة الراكدة الآسنة؟ أم أنهم يريدون مشاغلة هؤلاء وحصر أذهانهم فقط وتحديدا وحصرا في أمور وأنشطة من نمط احتفاليات العزاءات الطقسية ولا غير، وهي أمور تبقى من حق كل إنسان ولكنها كالرهبنة المحظورة دينا وشرعا وكالتطرف في أمر ينقلب للضد وهي في الصميم قتل لأي حديث في حياة الإنسان وحاضره لصالح العيش على تعذيب وجلد للذات لجريمة لم يقترفها ولا حتى الجد التاسع عشر للطالب المغلوب على أمره والمسيَّر كرها في طوابير التعذيب بدل طوابير البحث الميداني والالتصاق بيوميات أهله ومصالحهم!

كنتُ أنتظر اليوم على سبيل المثال عشرات بل مئات القراءات والبحوث في جامعاتنا مما يتناول قراءة الرأي العام في انتخابات مجالس المحافظات وما يعتريها من مثالب ونواقص وإيجابيات.. وأنتظر وأبناء شعبنا معالجات الجامعة العراقية لمشكلاتنا المباشرة.. وفي الأمس القريب كان آباؤنا يقولون ويشددون على أن نفيد من علمنا في حياتنا وفي تطبيقها في تفاصيل يومنا العادي.. ويطالبوننا بتقديم ما تعلمناه وخبرناه لمعالجة أمر أو آخر.. وكانوا يتعجبون من تردد الواحد منّا في الاستجابة لنقل العلوم النظرية ليوميات عملية ويرون ذلك تقصيرا منّا في فهم المعارف والعلوم وإدراكها وهضمها واثقين من أن الجامعة تعطي الأفضل...

 أقول: إن الجامعة العراقية اليوم تحتاج لمزيد من التضامن والتأييد وجذب الخبرات وأشكال الدعم لتطويرها وتحريك أجوائها بما يمنحها الاستقلالية التامة مؤسسةَ َ علمية َ َ تأنف وتسمو على الخضوع للسياسي الحزبي ولا تسمح بتدخلات مرضية وهذا أول طريقها لتحريك أجوائها ورسم خططها العلمية التي تفكر أساسا بالمجتمع وظروفه ومشكلاته وآليات معالجتها... وهذا سيأتي من مثابرة الكادر العلمي العراقي في المهجر ومن تعزيز صلاته وصلات المؤسسات التي أنشأها بالجامعة العراقية في داخل الوطن.. وطبعا جذب الخبرات الأجنبية إلى جانب خبرات المهجريين بوسائل مناسبة من مثل مؤتمر وطني علمي للمهجريين، يكون دوريَّ الانعقاد؛ ومن مثل جهة علمية تنسق جهود  المؤسسات الجامعية والبحثية في الخارج وتصب في خدمة التطور العلمي في جامعتنا وتحديث نظم التعليم فيها سواء على مستوى الجامعة الرسمية الحكومية أم الأهلية أم تلك التي تعتمد نظام التعليم الألكتروني...

وفي جميع الأحوال لابد من التفكير بالآليات التي تضع المسار في نصابه وسِكـَّتِه الصحيحة حيث الربط بين الجهود العلمية النظرية من جهة وبين واقع المجتمع وحاجاته ومطالبه. وذلكم لن يأتي من طريق بائس تتبع فيه الجامعة فلسفة هذا الحزبي أو ذاك ممن يخدمون أجندات مرضية محليا وإقليميا ودوليا... إنَّ السياسي الصادق يمكنه دعم الجامعة بحرصه على استقلاليتها وبلقائه بها بوصفها المعمل المنتج للخطط العلمية الدقيقة والمستشفى الذي يتطبب فيه المجتمع من أمراضه وليس بوصف الجامعيين الأكاديميين جمهور "مصفكاتية: من التصفيق" للسياسي الذي يجمعهم في صالة فنادق الدرجة الممتازة كما حصل في الآونة الأخيرة من توجه مسؤولين حكوميين وحزبيين نحو الأكاديميين في محاولة [ديكورية التفاصيل] لتحسين الصورة في لحظة انتخابية مارقة....

 إنَّ عمل الجامعة سواء كان في التدريس ونقل العلوم والمعارف أم في البحث والدراسة والتمحيص للظواهر والمشكلات، يبقى قاصرا بلا استقلالية حقة تامة من جهة وبلا ارتقاء بمستوى الأدوات ممثلة في إدارة كفوءة وأستاذ متمكن ومحاضرة غنية ومكتبة ثرّة ومنتسبين أحرار في توجيه جهودهم وتفعيلها وصبها على ما يخدم المجتمع فعليا... وتلكم تظل لدراسة شاملة وسلسلة مؤتمرات موسعة في كل جامعة وعلى مستوى جامعات البلاد وكوادر الوطن في الداخل والخارج وبعيدا عن الأطر والمحددات التقليدية المحكومة بسياسات قاصرة كما التي تؤديها برامج حزبية تطفو منتفخة بدعائيتها وديماغوجيتها فيما الجوهر ما زال بركة راكدة تنتظر الحصى التي تُرمى فيها لتحرك الساكن المتجمد المتكلس...

وليس أخيرا لابد من التوكيد على وجود عناصر تحمل الكفاءة ما زالت بين جدران جامعاتنا وطلبة ينبضون حيوية وهمة في البحث والتقصي العلميين وما زال لدينا كوادر تدير ولديها الخطط الرصينة وكل ما يلزمنا مثابرة أبعد ولقاء للجهود كافة وتجميع لها في إطار خطة شاملة وتغييرات جذرية مع احترام مسؤول وحقيقي للحرم الجامعي وإبعاد له عما يشوب استقلاليته وحرمته... وما بعده من نتائج لن يكون أقل من دخول المنافسة على المراكز الأولى عالميا بين الجامعات المرموقة بفضل خبرات غنية كبيرة لعلمائنا وإداريينا... فلتنطلق الجهود متضافرة موحدة للتحديث ولصناعة التقدم لا بين جدران الجامعة حسب بل بإشعاعها على كل أرجاء الوطن وهذه دعوة لكل المؤسسات كيما تتبنى دراسات وبحوثا جامعية خاصة بها ولن تجد مردودا أقل من أعلى ربح علمي يمكن تسجيله بالخصوص...

ولقضية الربط بين التمويل من مؤسسات اقتصادية خارج جامعية وجهود البحث الأكاديمي وفقرات أخرى قراءات مخصوصة قابلة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com