|
هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي ومابعده؟
د. جواد بشارة المقدمة بالتوازي مع عودة الدين بقوة للتأثير في حياة الشعوب في كل مكان في العالم، سواء العالم الغربي المسيحي أو العالم البوذي والهندوسي أو العالم الإسلامي، يبرز العلم كأحد أهم الأعمدة التي يستند إليها تطور البشرية المادي والتكنولوجي. لقد حقق العلم قفزات هائلة في العقود الخمسة الماضية في كافة المجالات وغير وجه العالم وإيقاع حياته سيما مع ظهور التقنيات الحديثة في مجال المعلوماتية والكومبيوتر والانترنيت والهاتف الجوال أو المحمول والقنوات التلفزيونية الفضائية وكذلك في مجال الفضاء والكونيات والاتصالات والذكاء الصناعي والروبوت أو الإنسان الآلي والطب والتكنولوجيا العسكرية الخ.. وهي تطورات كانت في الماضي القريب تطرح في نطاق أدب الخيال العلمي. يبدو أنه لا توجد حدود للتقدم العلمي وما سيتحقق من إنجازات علمية خلال هذا القرن سيكون من باب تحقيق المعجزات. قبل ثلاثة قرون كتب نيوتن واصفاً نفسه كالطفل الذي يلعب على الشاطيء يعجب ببعض الصدف والحلزونيات التي يعثر عليها وهي بنظره أجمل من الكومبيوتر لو كان موجداً آنذاك، في حين يمتد أمامه محيط الحقيقة الشاسع بلا حدود يخفي ورائه المجهول، على حد تعبيره. وعندما كان يتأمل محيط الحقيقة المترامي الأطراف أمام عينيه، كانت قوانين الطبيعة آنذاك محاطة بغلاف من الأسرار والغموض يتعذر اختراقه خوفاً من كشف أسراره والتعرض لغضب موجده كما كانت تشيع الشعوذات والخزعبلات التي آمن بها البشر في ذلك الوقت. فأغلب الناس كانوا أميين ولا يملكون كتباً أو مصادر للمعرفة ولا يغامرون إلا نادراً في الابتعاد عن مواقع سكناهم ومسقط رأسهم أكثر من بضعة كيلومترات تعد على أصابع اليدين. وبعد نهار شاق يخلدون للراحة في عتمة الليل ينصتون إلى ضوضاء الفراغ .ولكن الوعي البشري يعمل بلا هوادة ولو ببطء وقد بدأ ثورته مع ميكانيك نيوتن وظهور الآلات الضخمة ومكننة الإنتاج وثورة النقل باختراع قاطرة البخار حيث تغير وجه العالم وتطورت الزراعة والصناعة والتجارة بإيقاع لم يسبقه مثيل وفتح البشر أعينهم على عالم جديد هو عالم الثورة الصناعية التي أطاحت بالعائلات والسلالات الإقطاعية والأرستقراطية الحاكم والمحتكرة للقوة والثروة والمعرفة حتى بصيغتها البدائية. تميز القرن العشرين بثورة علمية في مجال الذرة والحاسوب أو الكومبيوتر وعلم الجينات والهندسة الوراثية. وقد بلغ العلم في نهاية القرن العشرين مرحلة عصر جديد بعد أن سبر أغوار الذرة وكشف أسرارها وفكك شفرات الحامض النووي والجزيئات التكوينية للحياة Les Molecules de la Vie وصنع الإنسان للكومبيوتر الإلكتروني، والفضل يعود في كل هذا الإنجاز العلمي الهائل للثورة الكوانتية LE R2VOLUTION QUANTIQUE أو الكمية وثورة الـ ADN أي الحمض النووي وثورة المعلوماتية وكشف أسرار المادة والطاقة والحسابات الرياضية اللامتناهية . بلغت هذه الرحلة الملحمية من العلم ذروتها في نهاية القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين وبدأ عهد جديد سوف يغير وجه العالم مرة أخرى حيث سيحقق العلم والتكنولوجيا المتطورة والمتقدمة معجزات ستضع البشر في مصاف الآلهة خلال القرون المائة القادمة من خلال السيطرة على الخلايا وتجديدها والقضاء على الشيخوخة وإطالة العمر إلى آلاف السنين وإتقان تكنولوجيا الاستنساخ وامتلاك ناصية العناصر اللامتناهية في الصغر والمكونات والقوانين الكونية اللامتناهية في الكبر والقضاء على كافة الأمراض والأوبئة وغزو الفضاء والسيطرة التامة على التكنولوجيا الحياتية أو البيو تكنلوجي BIOTECHNOLOGIES حيث ستحل الآلة والروبوت تدريجيا محل الإنسان في جميع المجالات ومع ذلك فنحن ما نزال في مرحلة الطفولة العلمية كالطفل الذي يلعب على الشاطئ كما وصف نيوتن نفسه وأمامنا يمتد محيط آخر من المعرفة والتطبيقات العلمية والتكنولوجية كالسفر والتنقل بين النجوم والمجرات والسفر بسرعات لا يتخيلها العقل في الوقت الحاضر وربما السفر نحو المستقبل وهو أمر علمي بحت وفق النظرية النسبية لآينشتين حيث يتباطأ الزمن بالنسبة للجسم كلما ازدادت سرعة هذا الأخير واقتربت من سرعة الضوء فبضعة اشهر بالنسبة لجسم يسافر في الفضاء بسرعة تقرب من سرعة الضوء يعادلها على الأرض مئات السنين. أي أن رائد الفضاء المسافر على متن سفينة فضائية تسير بسرعة تقرب من الضوء ويغيب بضعة أشهر عن الأرض وعندما يعود إليها فإنه في الحقيقية يعود إلى المستقبل حيث مرت على الأرض مئات السنين أثناء غيابه لبضعة أشهر قليلة. ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة théorie de tout بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر وكشف سر النفس أو الروح كما تسميها الأديان. في الربع الأول من القرن المنصرم أي سنة 1925 ولدت نظرية الكم أو الكوانتا Le théorie quantique على يد إروين شرويدينغر Erwin Schrödinger و ورنر هيسنبيرغ Werner Heisenberg وغيرهم، كمكمل للنظرية النسبية العامة والخاصة لآينشتين، والتي فتحت المجال أمام سيل هائل من المخترعات والمبتكرات والاكتشافات العلمية والتكنولوجية وقد توصلت هذه النظرية إلى تقديم وصف شبه كامل للمادة ولعلم الجزيئات أو الجسيماتLes Particules فالطاقة ليست على هيئة مستمرة كما تصورها القدماء، بل تبدو على شكل حزم تسمى بالكوانتا quanta ، والفوتون photon على سبيل المثال هو إما كوانتوم quantum أو حزمة ضوئية paquet de lumière وإن الجزئيات الأصغر من الذرة لها خصائص موجية تتبع معادلة علمية وضعها شرويدينغر وحملت إسمه والتي تحدد الاحتمالات التي تحدث حسب الظروف والمؤثرات الخارجية والتي بفضلها يمكن بحسابات رياضية معرفة خصائص أي مكون جوهري substance قبل خلقه في المختبر. وقد أتاحت نظرية الكم حصول ثورة معلوماتية révolution informatique . ففي الماضي كان الحاسوب مجرد فضول رياضي وهو جهاز ضخم جداً وبطيء . لقد حصلت الإنعطافة سنة 1948 بعد إكتشاف الترانزيستور في مختبرات شركة بيل Bell الذي فتح الطريق لصنع الكومبيوتر الحالي الذي سيتطور بدوره كثيراً خلال القرن الواحد والعشرين خاصة بعد اكتشاف الليزر laser الأساسي للانترنيت ولطرق المعلوماتية السريعة. يمكن فهم الكهرباء على أنه حركة الالكترونات كقطرات الماء التي تصنع النهر، لكن نظرية الكم أو الكوانتا كشفت وجود الفقاعات bulles أو ثقوب trous داخل التيار الكهربائي التي تماثل الفراغات داخل حالات الالكترونات وتتفاعل كما لو إنها الكترونات محملة بالشحنات الإيجابية وبالتالي فإن الحركة المركبة من التيارات والثقوب والالكترونات تتيح للترونزيستورات تضخيم الإشارات الكهربائية الغاية في الصغر والتي تشكل الأساس لعلم الالكترونيات المعاصر.وكان التقدم الهائل الذي حدث في تكنولوجيا المعلوماتية والحاسوب قد ساعد في تحقيق ثورة في مجال الجسيمات البيولوجية la révolution biomoléculaire التي تبحث عن سر الحياة . فقد اثبت شرويدينيغر في كتابه المعنون" ماهي الحياة" الصادر سنة1944 بأننا يمكننا تفسير أصل الحياة من خلال فهم الشفرة الجينية code génétique وكانت محاولة شجاعة وجريئة في ذلك الوقت في شرح أصل الحياة بواسطة نظرية الكم. وقد تمكن العلماء بالفعل من فك أسرار شيفرة الجينوم البشري décodée le génome humain في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين مما سيعبد الطريق أما الطب في القرن الواحد والعشرين وما بعده والتلاعب بالحياة ونسخها وإطالة أمدها بوسائل العلم والتكنولوجيا. يتبع الحلقة القادمة: مؤشرات المستقبل: نحو حضارة كونية من الآن إلى نهاية القرن الحالي.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |