|
المجتمعات الحرة ومجتمعات التخلف
سهيل أحمد بهجت منذ قرن من الآن والعراق "الحديث" لم تقم له قائمة، وطبيعي أن أي بلد يسوده العقل العشائري القبلي الذي يعتبر "الدولة" عدوا وإلى جانبه عقل يتمسك بأهداب الدين التقليدي ـ بمعنى أن الدين العقلاني الفلسفي يتطابق مع الديمقراطية ـ طبيعي أن هذه العقلية تنتج على الدوام تجارب سياسية فاشلة، بدءا بالتمسك بأهداب القومية العنصرية وانتهاءا بالتطرف الديني الذي لا يقبل أي منطق وحوار، ويقبل منطقا وحوارا "شكليا" دون أي مضمون حقيقي، وبالتالي سنبقى كعراقيين ندور في فلك التجارب الفشل السابقة، لكن إن حصل العكس وبدأ الناس يشكّون ويطرحون الأسئلة حول عقائدهم التقليدية وثقافتهم التي توارثوها عن الآباء والأجداد، فإن ذلك سيوفر فعلا فرصة للتغيير الحقيقي. والمصيبة أن الدين ـ التقليدي ـ اختلط بالعرف القبلي والعشائري وبالتالي أضفى الناس نوعا من القداسة والهيبة الدينية على أعراف اخترعوها وأضفوا عليها القداسة بفعل تراكم الوقت والزمن، ولولا أن العالم تغير ودخل الساتلايت والإنترنت والهاتف والفاكس إلى حياتنا لكان لهذه العادات والتقاليد والأعراف البالية أكبر الضرر في حياتنا، وإذا كانت هذه الأعراف والعادات مفيدة ذات يوم، فقد أصبحت الآن نقيضا لـ"دولة القانون" التي تعامل المواطنين بالمساواة المطلقة، ففي الماضي كان النظام القضائي والحكم يراعي شكليات العدالة والتغني بالعدل والرحمة بينما كانت الوساطة والطبقية والرشوة هي التي تحكم، ويكفي أن تقرأ كتاب المرحوم الدكتور علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) لتجد كيف أن العراقيين والمصريين والسوريين واجهوا مدّ التطور والعدالة والمساواة بين المواطنين وعدم التفرقة بينهم لأسباب دينية وقومية، واتخذت تلك المقاومة صبغة المقدس، فمثلا كان العثمانيون يعتبرون "الشيعة" الأمر ذاته ـ كراهية الحداثة وشعارات الجهاد والمقاومة الفارغة ـ تكرر مع المصريين والفرنسيين الذين أخرجوا المماليك وأحلوا محلهم العدل والمساواة والنظم الحديثة والنظافة والبيئة السليمة، حتى أنك تجد الجبرتي وهوالمؤرخ المصري الذي أرخ لتلك الأحداث ينظر نظرة المرتاب إلى المعاملة الحسنة التي تعامل بها الفرنسيون مع المصريين فيقول ـ كما نقله الدكتور علي الوردي: ثم أن عساكرهم صارت تدخل إلى المدينة شيئا فشيئا حتى امتلأت منهم الطرقات وسكنوا البيوت وجافت منهم الحارات، ولكن لم يشوشوا على أحد، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، وهذه من أعظم المكايد لأجل إضلال عقول العامة، وانهمكوا على أنواع المأكولات..." ثم يصف الجبرتي التطور الاقتصادي والأمن والأمان الذي حلا بمصر ولكن شاب هذا التغيير فتن وثورات حصدت الأرواح ودمرت البلاد، فعقلية المؤامرة وكراهية الحداثة في عالمنا الإسلامي ليست وليدة اليوم، يقول الدكتور الوردي: وذكر الجبرتي أن الجنود العثمانيين ـ بعد الجلاء الفرنسي ـ عادوا إلى عاداتهم القديمة في معاملة أهل الأسواق، فقد أخذوا يتحكمون في الباعة ويفرضون على أصحاب الحوانيت دراهم يأخذونها كل يوم، كما صاروا يتناولون طعامهم في الأسواق بلا ثمن، ولم يكفهم هذا بل تعرضوا للناس في مساكنهم فكان أفراد منهم يأتون إلى البيت ويأمرون صاحبه بالخروج منه ليسكنوه. وأسرف بعض الجنود في التعدي على الناس، فكان أحدهم يذهب إلى السوق ومعه دنانير مزيفة ويستبدل بها دراهم فضة. ويستأجر حمارا من المكارين فيذهب به إلى غير رجعة وإذا سار المكاري معه ليمشي وراء حماره قتله. وعندما اشتكى الناس ذلك إلى الرؤساء قال هؤلاء لهم: إن الجنود هم إخوانكم في الجهاد حاربوا أعداءكم وأخرجوهم من بلادكم وهم الآن ضيوفكم لأمد قصير فلم يسع الناس إلا السكوت.." ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج 2 ص 304 ـ 305 وهكذا تبقى هذه المجتمعات المتخلفة دون أن تعرف مصلحتها ومستقبلها لأنها ببساطة لم تمحص ثقافتها ودينها ولم تفكر في حرية أبناءها، بل بقيت تركض وراء الشعارات الفارغة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |