انتخابات مجالس المحافظات .. الدرس المستفاد بين خياري العلمنة والطائفية

 

الأستاذ الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

محلل سياسي أكاديمي

tayseer54@hotmail.com

 جرت انتخابات مجالس المحافظات لتؤشر خطوة أخرى في العملية السياسية الجارية في العراق. وقد عدَّها طرف إنجازا إيجابيا ومؤشرا مهما لنجاح مميز في العملية السياسية فيما هوَّل طرف آخر تصوره عدَّا إياها مؤشرا على مقدار الخلل والنقص.. وفي جميع الأحوال ينبغي أن نقول إنّ معدل المشاركة الانتخابية عالميا يظل بالنسبة التي ظهرت في مشاركة العراقيين فيها... وينبغي هنا أن نقول ايضا: إن سبب عدم مشاركة حوالي الـ 50% يعود لعوامل مختلفة منها العادي المبرر كما في عدم قناعة الشخص بالمشاركة العامة ودرجة وعيه الفردي المتدني بأهمية المشاركة ومسؤوليته الجمعية مع محيطه في اتخاذ القرار العام والخضوع لضوط اللحظة ولانفعال رد الفعل حتى تجاه من يؤيدهم ويشاركهم الموقف والبرنامج... ويعود أيضا لدرجة الاحباط التي ظهرت نتيجة عدم الاقتناع في نتائج الانتخابات (التشريعية) السابقة وما شابها من ثغرات ونواقص صغيرة أو خطيرة والضغوط التي تعرض لها الناخب في ظل أوضاع غير مستقرة يومها فخشي أن تتكرر بالمستوى ذاته فيعيد شرعنة من لم ينتخبهم... وفي كل الأحوال فإنَّ نسبة عدم المشاركة هذه تظل عالية جدا بالتحديد في وسط القوى الديموقراطية واليسارية منها تحديدا بسبب عوامل الاحباط التي أشرنا إليها من جهة وعوامل أخرى خارجة عن الإمكانات كما في مسألة قوائم الناخبين وآليات الأداء التي حرمت مئات ألوف المعدمين الفقراء وأبناء المجموعات القومية والدينية (التي يسمونها ظلما الأقليات) وهو ما أثر على تناسب القوى وحجومها النهائية...

لكن بجملة القول يمكن التأكيد على أن الانتخابات سجلت تراجع الاختيار على أساس ديني مذهبي وتراجع تأييد الأحزاب الطائفية وظهر هذا جليا ليس في قراءة نظرية موضوعية متأنية وحيادية حسب بل في النتائج الانتخابية عمليا... وقد عملت القوى التي عقدت صلاتها بالناخب العراقي في مطلع العملية السياسية على أسس طائفية، عملت على تغيير وسائل ظهورها وصلاتها بالناخب فاتخذت من تسميات غير دينية شكلا خارجيا للصلة معه من نمط ائتلاف دولة القانون وكتلة الأحرار والمستقلون وما شابه من تسميات تحتضن قوى إسلامية طائفية في برامجها وطبيعة تركيبها... كما عكفت تلك القوى على استغلال خطة تقديم مرشحين بمسمى المستقلين سواء بالتحالف المعلن أم من دون وجود صلات معلنة مع المرشحين في أثناء الحملة الانتخابية.. وهذا ما يعني خشية صريحة من المدّ الشعبي الجماهيري الواسع الذي بدا قبيل الانتخابات واستوعبته بنجاح (نسبي) الأحزاب الدينية في خطتها تلك... فمنعت هزيمة انتخابية ساحقة وعادت للمسؤولية مجددا وإن بحجم أضعف نسبيا...

لقد حصدت القوى الإسلامية بتحالفها مع مسمى مستقلين نسبة مهمة من التصويت كما حصدت بتغيير عناوينها وأسمائها من تلك التي تشير للطائفي الديني إلى التي تتغطى بالعلماني نسبة أخرى فيما حصدت كذلك من تجيير بعض النجاحات (الحكومية) لصالحها تلك النجاحات التي تحققت من وحدة النسيج الوطني ونضالات وجهود القوى الوطنية الديموقراطية العلمانية منها تحديدا وليس لبرامج القوى الطائفية التي رفضتها جموع غفيرة كما أكدته النتائج الأولية... وطبعا ستحصد من نجاح مستقلين تماما عنها في الحملة يوم تعيد التحالف معهم بعد ظهور النتائج على وفق الخطة المرسومة...

إنَّ اللعبة الديموقراطية لا يمكن أن تأتي دائما بما يتفق وتطلعات الناخب وطموحات القوى الحية والديموقراطية بل تتيح (أحيانا) عبر آلياتها فرصا لنفوذ قوى غير ديموقراطية أو أخرى ليست في قائمة خيار الناخبين ولكنها تعرف أصول اللعبة فتمرّ في ضوء خطط وحسابات مناسبة لها كتلك التي أشرنا إليها في أعلاه.. ولكن مع تعدد التجاريب والعمليات الانتخابية تعطي التراكمات معارف ومعلومات ووعيا وخبرة بالعملية الانتخابية كما تفرز ردودا مناسبة لجميع أطراف العملية الانتخابية ومن سيدرس التجربة ويضع الخطط الميدانية الأنسب والأفضل يكسب الجولة التالية...

 وعلى صعيد النتائج التي نقرأها اليوم نسجل توكيدا صريحا لخيار الناخب الذي ابتعد عن قبول فلسفة الحزب الديني، ما يتطلب أن ينعكس هذا على مطلب التعديلات الدستورية المناسبة [بالخصوص] أي على مطلب سنّ قانون الأحزاب على أسس ديموقراطية لدولة حديثة في بنيتها لا تقبل مؤسسات ما قبل الدولة المعاصرة [كما في شرذمة وتشظي الطائفي والعشائري] المفروضة قسرا على العراق الجديد. كما نستنتج من التجربة الانتخابية أن القوى العلمانية عادت لصدارة المشهد السياسي وللظهور بما يطابق الواقع وخيارات المواطن العراقي الحقيقية بلا تزييف أو تشويه وتشويش..

من هنا ينبغي عقد الصلات مجددا مع الناخب الذي حجب صوته [الـ50% الصامتة] بسبب الاحباط ولأية أسباب أخرى كيما يدلي بصوته بفعالية في الانتخابات البرلمانية المقبلة وهي قاب قوسين أو أدنى وعلى مسافة مدة الحملة الانتخابية؛ ما يتطلب دراسة وخططا جدية منذ الآن.. وسيكون مهما ومفيدا أن يتم تعزيز العمل الديموقراطي وآلياته بالقبول بالآخر وبمبدأ التداولية وبالتوجه للناخب وخياره بعيدا عن لغة أن من يفوز اليوم يمكنه أو يبيح لنفسه أن ينفي الخاسر في الجولة التي فاز فيها..

إن فكرة التداولية التي تعني صعود طرف لسدة المسؤولية لا تعني إلغاء دور الطرف الآخر ولكنها تعني فسح المجال له ليدرس الأخطاء التي ارتكبها بما دفعت قناعة الناخب لاختيار طرف آخر ليسلمه مسؤولية الإدارة في المرحلة المعينة.. ومن هنا فإن العلاقة بين الفائز انتخابيا والخاسر فيها تظل علاقة إنسانية طبيعية وعلاقة قانونية سليمة قائمة على المساواة وعلى المسؤولية في تعزيز احترام وجود الآخر والقبول به وبالتحاور معه من منطلق الإفادة والاستفادة.. [وسيفيدنا أن نتحدث بخطاب التخصص المهني في إطار برامج المحافظات كيما ننفذ مشروعات لصالح الناخب بعيدا عن تسييس العمل البلدي وتضييع مصالح الناس في هذه الفلسفة العقيمة فالائتلاف والتعاضد في الجهود مطلب رئيس مستفاد من هذي الانتخابات]...

إن درس الناخب العراقي الذي رفض صيغة الطائفية ووجدها غير صائبة في التعبير عنه ينبغي أن يستفيد منه الحزب الديني مثلما يستفيد منه الحزب العلماني. وينبغي أن يُفهم منه أنه موجه لمصلحة العراقيين جميعا بلا استثناء يؤسَّس على الاختلاف وإقصاء الآخر المختلِف مع الفائز.. أيا كان الفائز أو الخاسر انتخابيا. إذ الانتخاب مجرد آلية لتسيير دفة إدارة العمل العام ببرنامج يعود على الجميع بالخير ولا يستثني من هذا الخير طرفا...

إنَّ الفكرة التي مرقت هذه المرة بمرور حزب بعينه بآلية انتخابية وفاز بخطته لن تمر ثانية على الناخب وهي لن تبقى ناجحة إلى الأبد حتى عندما تتكرر النتيجة لأكثر من مرة.. وعليه فلابد من أخذ الدرس ليس لأجل الفوز بالسلطة ولكن كيما نفهم أن الجوهري في الأمر لا حساب الفوز والخسارة بقدر ما هو حساب قبول الناخب ببرنامج الفائز من عدمه.. ومن ثمّ ما ينبغي أن نتعلمه هو مقدار استجابتنا لمطالب الناخبين التي يعبرون عنها بتصويتهم.. التصويت الذي لا يظهر بالضرورة في النتيجة وجوهرها ولكنه يظهر في خلفية الدرس الذي تعبر عنه النتيجة ذاتها... أي بقراءة ما خلف النتيجة وليس ما يطفو منها على السطح.

إن ميل الناخب للعلمانية في العراق الجديد يعني رفضه لبرامج السنوات المنصرمة التي مثلتها برامج الأحزاب الطائفية وعليه فالعامل الوطني والعامل الديموقراطي هما العاملان اللذان اختارهما الناخب العراقي وفي ضوء معطياتهما يريد البرامج التي سيتم العمل بها.. فهل يمكن لحزب طائفي غيَّرَ واجهته واسمه من دون تغيير في جوهره أن ينهض بالمهمة أو بأداء الهدف الذي أراده الناخب وطنيا ديموقراطيا، السؤال موجه أيضا لأعضاء تلك الأحزاب أنفسهم؟!

إن المشهد سيكون مكشوفا اليوم بمجرد عودة الأطراف ذاتها للسلطة وهي عودة غير قوية وغير حاسمة يشاركها صعود جدي ومقبول للأصوات الوطنية الديموقراطية التي ستقف ندا مسؤولا يدافع عن الأهداف التي أرادها الناخب وسيكون الواقع حكما ومحكا يقرأ في ضوئه الناخب ما أراده..  الأمر الذي سيدفعه لتعزيز اختياره الذي بدا واضحا في النتيجة وهو ما سيدفع مجددا القوى التي حكمت لتغير لا الاسم بل البرامج كذلك إذا ما أرادت البقاء في إدارة العمل العام...

إنَّ كل طرف يزعم مصداقيته وصلته مع الناخب سيتوجب عليه أن يقدم دراسات وافية لانتخابات مجالس المحافظات ويقرأ الأمور بموضوعية ويتابع مسار الأداء والعمل في الأشهر القابلة كيما يرسم الخطط المناسبة التي توضح الأمور جلية أمام الناخب وتسهل أمر اختياره وتصويته فهو من جهته يعرف أهدافه ويعي ما يريد بدقة ولكنه ينتظر من الأطراف المعنية تقديم برامجها واضحة جلية وبشكل عملي يتفق وتطلعاته...

وأعتقد أن الجامعات ومراكز البحث المتخصصة والأكاديميين المعنيين هم الطرف الذي ينبغي التعويل عليه في قراءة التجربة ورسم الخطط كيما تسير سفينة البلاد إلى موانئها بسلامة وأمان.. فهل ستتجه الأحزاب الوطنية العراقية المؤمنة بالوطن والشعب ومصالحهما إلى مثل هذه القراءة المؤملة المنتظرة أم أن بعضها سيبقى بحوزة قرار زعيم أو قيادة سياسية ببرامج متحنطة أو بعيدة عن الاحتكام للواقع وتجاريبه؟ وأي الأحزاب ستتقدم بالتجربة الديموقراطية التي تحترم الناخب إلى أمام وأيها التي ستحاول حجبه ومصادرته بوسائلها الخاصة؟

ذلكم ما سنقرأ تفاصيله ونطلع عليه قريبا............

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com