قصة مغربي اكتأب خطأ

 

عبد الرحيم الوالي

 abderrahimelouali@gmail.com

حين يريد العالم أجمع أن يشعرك بأنك مجرد عربي تافه، بلا تاريخ ولا حضارة سوى بضعة خيام في البيداء، وبضعة جمال، وبضعة أبيات من الشعر، تضيق مساحات الخيار أمامك وتكون أمام أمرين: إما أن تقبل العيش كما يريدون لك، بدون تاريخ وبدون هوية وبدون حضارة، وأن تسعى إلى إثبات العكس تماما مع تحمل مسؤولياتك الكاملة عما سيحصل لك حتما.

وما سيحصل يبدأ أولا بمرض خطير اسمه الاكتئاب. ومن أسبابه ـ حسب ما أسهب صديقي الطبيب النفساني في شرحه ـ كثرة القراءة والكتابة والتفكير ورسم الأهداف التي يصعب تحقيقها على أرض الواقع.

لا تتجلى خطورة المرض في المرض نفسه وإنما في تجلياته. فأنت قد تهب بغتة من فراشك على الساعة الثانية صباحا دون أن يكون هناك دافع محدد ودون أن يكون لديك هدف محدد من قيامك. وحين تقوم تندم على ما فعلته وتحاول العودة إلى الفراش. وحين تعود إلى الفراش يجافيك النوم وتجد نفسك غارقا في أسئلة ممتدة من زمن الملك قحطان إلى زمن الرؤساء والملوك العرب الحاليين الذين يخاف أكثرهم ـ إن لم يكن كلهم ـ من السير بضعة خطوات في الظلام ولا يستأسدون إلا على الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها.

ويستمر المرض في الاستبداد بك فتراودك رغبة دفينة في أن تنصب مشنقتك بنفسك ما دمت على هذه الأرض مجرد عربي تافه لا يغير موته ولا حياته شيئا. ثم تنبعث فيك إرادة الحياة من جديد وأنت تنظر صباحاً إلى عيني صديقة شابة، فاتنة، وعربية هي الأخرى، تتعلق بك بكامل البراءة مثلما تتعلق طفلة بأبيها وأخت بأخيها، وتسألك عن سبب السهاد الذي يبدوأثره في عينيك: "من تكون هذه التي تمنع النوم من عينيك؟"

يعيدك السؤال البريء، الذي لا غاية من ورائه إلا ممازحة كهولتك والمشاغبة على الشعيرات البيضاء التي أخذت تغزوشعر رأسك وشاربك، إلى تلك "التي تمنع النوم من عينيك". وعندها تجيب في داخل نفسك دون أن تتجرأ على الجهر: "إنها أمة بأكملها من الماء إلى الماء، من سبأ وحضرموت وتدمر وعاد وثمود إلى بغداد المحتلة، وغزة الجريحة، وإلى كل الشعوب العربية التي ترزح تحت واحد من اثنين: إما الاحتلال والاستبداد".

هل أنا فعلا بلا تاريخ، وبلا حضارة، ولم يكن أجدادي إلا قوما رحلا، جهلة، أجلافاً، لا يعرفون شيئا حتى جاء الإسلام؟ من بنى إذن سد مأرب وجمع إليه سبعين وادياً؟ ومن بنى حضرموت وسبأ وتدمر وغيرها من الممالك العربية القديمة؟

لا تجد بدا من العودة إلى حيث كنت: إلى رفوف الكتب وركام الورق لتقرأ وتدون الملاحظات والاستفهامات أملا في الوصول إلى إنهاء البحث لكي تقول لهم جميعا: "أنتم مخطئون تماما أيها السادة، مخطئون وأنتم تقرأون تاريخنا، وشعرنا، وحتى الدين الذي نزل بلغتنا".

ثم تنظر حواليك فتجد كثيرا من أشباه المتعلمين وأشباه المثقفين المتهافتين على إنكار أي شيء على العرب حتى ولوكان حق العربي في أن يموت بكرامته. وعندها ترى أن هؤلاء لا يستحقون الإقناع بقدر ما يستحقون الاحتقار والازدراء واللامبالاة. وتحاول أن تنسى ـ وتتناسى ـ فتترك الكتب وتشغل التلفاز وإذا بصور القتل والتدمير تهاجمك حيثما وليت طبق الالتقاط: إما قتل أميركي هوليودي على القنوات المتخصصة في أفلام الحركة، حيث الأميركي ينط شمالا ويمينا وسط الرصاص والشظايا دون أن يصاب (فقط لأنه أميركي!!!)، وقتل أميركي بالأباتشي والبلاك هوك والشينهوك وغيرها من وسائل القتل التي يعملها فينا الأميركي وهومحصن داخل دبابته وداخل طائرته. ومرة أخرى تقفز إلى ذهنك صور قديمة: سيف ياباني صقيل كانت أناملك تتلهى به يوما ما في مشهد بهلواني بينما المتفرجون يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من أن يروا ساقك مبتورة ورقبتك مقطوعة. وتتحسر على هذا الزمن الأميركي الرديء الذي أصبح القتال فيه يتم بلوحة مفاتيح، وتتمنى لويعود الناس إلى زمن السيف لترى إن كان بإمكان هذا الأميركي فعلاً أن يفلت من ضرباتك السريعة المحكمة (والتي كانت بالأحرى كذلك في زمن ما!!!!!). بل تتمنى لوعاد الناس ـ على الأقل ـ إلى ما قبل الحرب العالمية حيث لم يكن لسلاح الجووجود لترى إن كان بإمكان هذا الأميركي السوبرمان فعلا أن يفلت من طلقتك المصوبة إلى القلب والرأس. ودون أن تشعر تجد أن شعر رأسك قد أضحى مثل أسلاك الكهرباء، وأن عضلاتك أضحت مشدودة، وأن وجيب قلبك يزداد والعرق يتصبب من جبينك، ولا تجد أمامك إلا مضادات الاكتئاب مرة أخرى وتعليمات الطبيب الذي يريد أن يحولك من رجل إلى كتكوت رومي يصحوبمقدار وينام بمقدار، ولا ينبغي أن ينزعج على الإطلاق.

وفجأة ـ في عز الليل وبين أشعار العرب ـ تهتدي إلى حل أقوم: ما دمت في المغرب، أكثر بلدان العالم العربي حرية وانفتاحا، فلماذا لا تفعل كما يفعل عامة المغاربة حين يتعبون؟ لماذا لا ترمي بكل الأدوية جانبا وتذهب إلى حانة من حانات الدار البيضاء (وما أكثرها!) لتعاقر نبيذا مغربيا أحمر، وتأكل ما شاء الله لك أن تأكل من أسماك وشواء؟

تدخل الحانة فتداهمك أغنية قديمة من الزمن الجميل يصدح فيها صوت المرحوم بوجميع: "يا بني الإنسان! لاش الكروب لاش الأحزان؟ لاش الحروب لاش الطغيان؟ واحنا خاوة واحنا جيران؟".

 تعيدك الأغنية إلى مغرب السبعينيات، ويأتيك النادل بالقنينة الأولى من نبيذك الأحمر ومعها صحن من السمك الطري المقلي. تصب في جوفك الكأس الأولى، والثانية، والثالثة، قبل أن تأكل سمكة. ثم تشعل سيجارة وتصب كأسا أخرى. وما تكاد تشرب نصف القنينة حتى تحس بأن جسدك قد انتعش، وأن وجنتيك قد احمرتا، وأن التوتر قد اختفى تماما.

تنهي القنينة الأولى وتطلب أخرى فيحضرها النادل بسرعة معززة بمزيد من الأسماك المغربية الطرية. تصب منها الكأس الأولى وتلتهم ربع ما في الصحن من أسماك قبل أن تشرب كأسا ثانية. وفجأة تصبح الدنيا جميلة وتجد نفسك بين الخدود والقدود فتراودك الرغبة. لكنك تتذكر أن الزمن أيضا زمن الأيدز وأنك رجل متزوج وأب وأن الشيب بدأ يغزورأسك. وعندها تقرر أن تشرب ما تبقى في القنينة بسرعة وتغادر الحانة. إلى أين؟ إلى حيث كنت بين الكتب والأوراق وشاشة الحاسوب. لكنك حين تصل لا تفكر في كتاب ولا في ورقة وإنما في قنينة ثالثة من النبيذ المغربي الأحمر. من أين تحضرها في هذا الوقت المتأخر؟

ليس هذا سؤال مغربي شاطر. فما أمامك إلا أن تشير إلى سيارة أجرة تقلك مقابل أربعة دراهم فقط إلى حيث ذلك الرجل الذي يبيع الخمور من نافذة بيته.

تشتري قنينة ثالثة وتعود أدراجك. تدخل الغرفة التي حولتها إلى مكتب وتغلق عليك الباب ثم تفتح القنينة والميسنجر في لحظة واحدة لتجد صديقتك الشابة، الفاتنة، ما تزال هي الأخرى من الساهرين وتبادر بالكتابة إليك بفرنسيتها الرقيقة:

ـ أين كنت يا عزيزي إلى هذا الوقت؟

ـ لماذا تسألين؟ هل تزوجتك دون أن أشعر؟   

ـ ليتك فعلت.

ـ ليتني فعلت؟ أتريدين أن أساق إلى محكمة الأسرة؟

ـ لا تخف. سأعرف كيف أقنع زوجتك بأن من الضروري أن نتقاسمك.

ـ قبل ذلك ينبغي أولا أن تقنعي نفسك.

ـ بماذا؟

ـ بأنك مجنونة. لماذا تتزوجين كهلا مثلي ومئات الشبان يركضون وراءك؟

ـ الكهولة والشيخوخة والشباب في القلب لا في الجسد.

ـ حسنا. ما دام الأمر كذلك لدي حل جيد.

ـ ما هو؟

ـ تزوجي قلبي واتركي جسدي رحمك الله.

تضحك صديقتك بطريقتها المعهودة التي تكتب بها ضحكتها على نافذة الميسنجر ويعود الحديث بينكما إلى أصله، إلى براءته، إلى تلقائيته، فتشعر أنك محظوظ لأن لديك صديقة شابة، جميلة، ذكية، تقطر رقة وأدبا بلغة موليير كما بلغة امرئ القيس، ويتردد في داخلك صوت شاعر العرب الأكبر، الراحل محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة!".

تطلب منك صديقتك الجميلة أن تحدثها صوتيا فتعتذر وتصارحها بأنك شربت كثيرا وأنك لا تريد التحدث إليها وأنت سكران. لكنها تصر وتكتب بفرنسيتها الأنيقة:

 ـ أريد أن أسمعك وأنت سكران.

ـ لماذا؟

ـ لأن الخمر تقول الحقيقة.

ـ وأية حقيقة تريدين أن تعرفي؟

ـ عدد الفتيات اللائي غازلتهن وأنت سكران.

ـ تغارين إلى هذا الحد؟

ـ نعم.

ـ حسنا. في المرة القادمة حين أسكر تعالي لأغازلك أنت أيضا.

ـ كم أنت متخلف؟ لماذا تنتظر حتى المرة القادمة؟ حدثني الآن وغازلني ما دمت سكرانا.

ـ سأحدثك لكني لن أغازلك.

ـ لماذا؟ ألا أعجبك؟

ـ ليس هذا هوالسبب. لقد استنفذت قاموس الغزل مع كل النساء اللائي صادفتهن في الطريق وأنا سكران.

 وتفتح خط المحادثة لتجد صديقتك تقهقه في جوف الليل وتقول إنها توشك أن تستلقي على قفاها من شدة الضحك فتسأل نفسك: "لماذا أنا وحدي الذي عليه أن يشعر بالمسؤولية تجاه الناس والتاريخ والله؟ لماذا لا أضحك أنا أيضا ـ كما كنت دائما ـ إلى أن أستلقي على قفاي ويستلقي قفاي علي؟"

وفي الدقائق الأولى من المحادثة تحكي لك صديقتك آخر نكتة سمعتها فتضحك حتى تدمع عيناك، وتتحدثان ساعة وما يزيد، ثم تودعها وتذهب لتنام. وفي الطريق إلى الفراش تستوقفك علب مضادات الاكتئاب. تنظر إليها ساخرا وتقرر أن تضعها في المكان الذي تستحقه فعلا. تفرغ كل الحبوب في كفيك وتتجه إلى المرحاض لتلقي بكل الحبوب وتتبعها تيارا جارفا من الماء...إلى غير رجعة!!!

"على هذه الأرض ما يستحق الحياة!"

وعلى هذه الأرض من يستحق الحياة!!! 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com