|
الإعلام العشوائي وفضائيات مصارعة الديكة
توفيق أبو شومر arabicbloggersunion@googlegroups.com ما أكثر ما كتبتُ عن الإعلام، وبخاصة الإعلام العربي، كتبتُ ناقدا ومقترِحا، غير أن الإعلام العربي، وبخاصة الفضائيات العربية تواصل انتشارها العشوائي، كما يحدث بالضبط في أحياء السكن العشوائي المنتشرة حول المدن العربية التي تفتقر إلى القانونية، حين تفشل الدول في حل مشاكل الناس، مما يؤدي إلى إفساد المدن أو ترييف المدن، أي تحويل المدن إلى أرياف كبيرة. الفضائيات العربية قسمان: القسم الأول، وهو العشوائيات الفضائية،فقد صار سهلا وميسورا أن يملكَ مغامرٌ ذو رأسمال بسيط قناة فضائية، تبثُّ أربعا وعشرين ساعة، وأصبح من السهل أن تواصل هذه العشوائية الفضائية برامجها سنوات طويلة، وتدرُّ أيضا على مالكها ربحا وفيرا إذا أجاد التقنيات التالية : أن يفتح حسابا مع شركات الاتصالات لتقاسم الربح في المكالمات الواردة للفضائية العشوائية بواسطة الثرثرة الكلامية التافهة، وأن يستعين بوجوه نسائية جميلة، يُجدنَ تحريك مواضع الشهوة في الأجساد، وأن يستعمل الإعلانات التجارية والتغريرية بكفاءة عالية، حتى وإن كانت في البداية بأسعار رمزية . وإذا رغب في استعجال الربح فما عليه إلا أن يقوم بتخصيص شطر كبير من وقت البث لشيفات المطابخ،أو لقصص من يحسبون على الطرب والفن، أو أن يعمد إلى بث أفلام الرعب الممنوعة في معظم قوانين الإعلام في العالم . وإذا رغب في أن يريح نفسه من كل المهمات السابقة، فما عليه إلا أن يخصص القناة لفتاوى مَن يدعون احتكار الدين وتفسيره وفق أهوائهم بحيث تكون الفتاوى جديدة، كفتوى أكل لحم خروف مضغ قبل أن يُذبح ورقة عليها اسم الله، أو أن يرضعَ من ثدي زميلته في العمل حتى يصبح ابنها بالرضاع حتى يتجنب الخلوة بها، حينئذٍ سينهال عليه الدعم المالي من كل حدبٍ وصوب . أما إذا رغب في أن يجعل من عشوائيته الفضائية مشروعا كبيرا لتوظيف أبنائه وأقاربه وإثراء حساباتهم البنكية، فما عليه إلا أن يواظب على مغازلة بعض أثرياء أمة العرب، ممن يملكون الحل والربط، أو ممن يسيَّرون أمور السياسة في أوطان العرب، وبعد الغزل يأتي الزواج من مليونير أو من سياسي عربي كبير، فتصبح العشوائية الفضائية من جواري سلاطين العرب . وتُعتبر الثقافة في هذه العشوائيات الفضائية العربية من ملوثات البث، تفسدُ البرامج، وتُنفِّرُ الناس منها، لذلك فهذه العشوائيات تتجنب دائما الثقافة، لا لأنها لا تفهمها فقط، بل لأنها تدرك بأن الثقافة هي عدوها اللدود، كما أنها تعتبر نشر الوعي بين الناس جريمة في حق العشوائية، لأن نشر الوعي يعني بالضبط إغلاق العشوائية الفضائية وكل ما على شاكلتها من الفضائيات . والنموذج الثاني من الفضائيات العربية، هو فضائيات مصارعة الديكة، وهو نموذج الفضائيات التي تتستر بعباءة السياسة والأخبار والحوار، وهذا النمط هو الأخطر على أمة العرب، لما يقوم به من أدوار خطيرة، فهو وإنْ بدا نموذجا راقيا ورائعا إلا أن إسهامه في نشر الوعي لا يُحقق الهدف المرجوَّ منه وذلك للأسباب الآتية : معظم هذا النمط أيضا مملوكٌ لدولٍ، أو لأفرادٍ يسوّقون دولهم، وإن ادَّعى الاستقلالية والديموقراطية وأنشد ليل نهار مقطوعات حرية الرأي، وعزف سيمفونية احترام الرأي الآخر، فإنه سيظل أيضا خادما من خدم البلاط في دول العرب. ومن الأسباب التي تجعلني أعتبر هذا الإعلام إعلاما خطيرا، هو أنه يسعى بتخطيط لتحقيق مجموعة أهداف منها، إثارة الفتن بادعاء حرية الرأي، مما يعرقل جهود التضامن والوحدة وبالتالي فإنه يضعف من جوهر الرسالة الإعلامية، وهي بناء الإنسان ثقافيا واجتماعيا ونفسيا ليتمكن من الخلق والإبداع والتفوق . كما أن هذا النمط من الإعلام وهو الأكثر شيوعا يُعزّز ثقافة السباب والشتائم، ويخرق آداب الحوار، الذي هو جزءٌ من الثقافة والوعي واحترام الرأي الآخر . وقد تحوّل هذا الإعلام من راصدٍ ومُحذرٍ ومثقِّفٍ إلى صانع الأحداث، إذ أنه أصبح يملك من الوسائل ما يمكِّنه من إثارة البلبلة ونشر الفوضى والقتل والتدمير، وذلك باستضافة المجرمين والإرهابيين وإذاعة بيانات الحركات الإرهابية، مدعيا بأن ما يقوم به يندرج تحت بند حريات الرأي والتعبير. بالإضافة إلى ما سبق فإن هذا النمط من الفضائيات أسهم في تأسيس طائفة اجتماعية برجوازية جديدة من المرتزقين، وهم طائفة من المحللين السياسيين والاقتصاديين، والحربيين والنفسيين، ممن يحسبون أنفسهم ويحسبهم الإعلام على الثقافة والوعي، وهم في الواقع لا يقومون بأي جهد ثقافي عملي لتعزيز الوعي الشعبي،وفضح أساليب التجهيل التي يمارسها كثيرون . يظهر أثر الإعلام دائما بوضوح في وقت الأزمات، ومن يتابع الإعلام في وقت الأزمات فإنه يدرك بأن سعي الإعلام الرئيس وهدفه الأسمى وغايته يكون في الغالب من أجل اقتناص سبق إعلامي فقط، مهما كانت النتائج، وليس توعية الجمهور، وفضح ممارسات القمع والتنكيل والاعتداء على الحريات . وهذا ما حدث بالضبط عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي غزة، فقد كان كثيرٌ من المراسلين يبحثون فقط عن الدمار وجثث القتلى وصرخات المكلومين، وكأنهم يُجرون مسابقات بين المراسلين لبيان أي المراسلين هو السابق في نشر الخبر، وأي المصورين هو الذي التقط بقايا جسد الطفل المدفون تحت الركام، لينال بها جائزة الموسم، وقلة من المراسلين من أشاروا إلى الكوارث البيئية التي خلفتها آلات الدمار، وقلة منهم أيضا غطوا انقطاع ماء الشرب، وندرة الطعام والشراب، وقلة منهم أيضا فتحوا المجال أمام البسطاء ليقولوا رأيهم، وقلة منهم من استعانوا بخبراء حقيقيين لنشر الوعي الصحي، وطرق الإسعاف . فقد ظلَّ كثيرٌ من المراسلين حفظا لوظائفهم في هذه القنوات أسرى لدفاتر تليفوناتهم السابقة حتى لا يفقدوا وظائفهم في هذه الفضائيات إن شذّوا عن القاعدة، فقد ظلوا لا يستضيفون إلا مريدي وأتباع هذه الفضائيات من المحللين السياسيين المُكرَّرين . وللحقيقة فإن معظم الفضائيات العربية التي يربو عددها على خمسمائة فضائية لم تسهم حتى الآن في بناء الوعي العربي، ولم تقم بدورها المنشود في تعزيز ثقافة الرأي العام العربي، لأنها ببساطة لم تجد ما ينافسها من القنوات الثقافية التوعوية . فما تزال معظم حكومات ودول العالم العربي تنظر إلى ثقافة الوعي كعدوٍّ لدود، وتخشى أن تستثمر في مجال الإعلام الثقافي لأنها تظن بأنه يهدد مستقبل الحكومات، ويطيح بالديكتاتوريات . وآمل أن نتمكن في القريب العاجل من تأسيس البنية الأساسية للإعلام العربي الثقافي الذي يعتمد إستراتيجية ثقافية عمادها " الثقافة والوعي ومحاربة الجهل هي الطريق الوحيد للمستقبل" لأن معظم وسائل الإعلام في العالم العربي ما تزال تابعة لأنظمة الحكم السياسية، وليست حرة ومستقلة كما يزعمون ولا يمكننا بناء هذه المنظومة إلا على أساس نشر الديموقراطية بمفهومها الواسع، ومحاربة كل أنماط الجهالات التي تتفشى وسط أبنائنا، كما فايروس الزكام . وللإعلام التوعوي والثقافي شروطٌ ينبغي أن تتوفّر فيه، أولها ؛ تعزيز البيئة الديموقراطية في العالم العربي، ونشر الأفكار والآراء الحرة، والعمل على إحداث القوانين التي تعزز الحريات واحترام الملكيات الفكرية والإبداعية. أن يكون لهذا الإعلام التوعوي لجانٌ استشارية فاعلة من المثقفين والواعين والعلماء والمفكرين والتربويين، وأنا أعني باللجان الفاعلة، تلك اللجان التي تناقش البرامج المعروضة، وتسهم في إنتاج البرامج الثقافية، وليست لجانا شكلية كما يحدث في كثير من وسائل الإعلام العربية، التي تمنح أعضاء اللجان الاستشارية مرتبات شهرية ثمنا لسكوتهم عن برامجها التافهة، وثمنا لغيابهم عن اجتماعات مناقشة برامجها . ومن الشروط في الإعلام التوعوي أن يكون مسخرا لبث أصول التربية، وبخاصة تربية الأطفال، وجعل الغاية من التعليم هي توسيع المدارك والعقول، وليس حشوها، وكذلك محاربة العادات السيئة والجهالات، وتعزيز دور المرأة في المجتمعات العربية، لتتحول من حالتها العربية الراهنة في كثير من دول العرب من تحفة وتمثال وحليةٍ مسليةٍ، إلى عاملة نشطة تؤدي دورها في بناء الأجيال وتنشيط بؤر الخمول وإزالة التردي والجهل . ومن الشروط أيضا التي يجب أن تتوفر في الإعلام العربي، هي اكتشاف المواهب ورعايتها لمنافسة دول العالم الأخرى، وحفز طاقات الإبداع والإنتاج .ويكون ذلك بتخصيص قنوات فضائية أو برامج عديدة في القنوات الفضائية لاكتشاف المواهب العربية ومنح الجوائز للمتفوقين.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |