كلَّ أربعين عاماً وأنت عقيد!

 

عبد الرحيم الوالي

 abderrahimelouali@gmail.com

أقل من ثلاثة أشهر فصلت يوم مولدي عن اليوم الذي استولى فيه العقيد معمر القذافي على الحكم في ليبيا، وحوالي أربعة أشهر فقط تفصلني اليوم عن إتمام سنتي الأربعين على هذه الأرض.

خلال ما ينيف عن أربعة عقود من الحياة رأيت الرؤساء الأميركيين يتعاقبون على البيت الأبيض من ول رئيس تحتفظ به ذاكرتي بوضوح تام، جيمي كارتر، إلى باراك وباما. ورأيت رؤساء فرنسا يتعاقبون بدورهم من ول رئيس فرنسي تحتفظ به ذاكرتي بوضوح أيضا، فاليري جسكار ديستان، إلى نيكولا ساركوزي، بل رأيت رؤساء الحكومات الإسرائيلية بدورهم يتعاقبون من مناحيم بيغن إلى نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.

قد يتعجب البعض من احتفاظي بهذه الذكريات لأنني كنت ما أزال طفلا يافعا في عهد كارتر وديستان ومناحيم بيغن. لكن الذي جعلني أذكر كل هذا ـ وغيره كثير! ـ يرجع إلى سبب واحد ووحيد. لقد كان والدي يجبرني على الدخول إلى البيت فور عودته من عمله ويرغمني على أن آخذ كتابا وأقرأ، بينما كان هويجلس ليستمع إلى الأخبار على مختلف المحطات الإذاعية. وبما أن الكتب التي كان علي أن أقرأها كانت في أغلب الأحوال كتبا مدرسية معروفة، ومستهلكة، فقد كنت أتظاهر بالقراءة بينما كنت في الواقع أظل أستمع إلى المذياع الذي كان الوالد لا يكف عن نقله من إذاعة إلى أخرى بحثا عن نشرات الأخبار وكأنه يملك نصف العالم.

وهكذا تسربت إلى ذاكرتي أسماء كل هؤلاء الرؤساء وعشت على المذياع تفاصيل ثورة الخميني وغيرها من أحداث المغرب والعالم التي طبعت تلك المرحلة. وبنفس الوسيلة أيضا دخل إلى ذاكرتي العقيد معمر القذافي. ولأن والدي رجل قومي حتى النخاع، ومن الذين يقدسون جمال عبد الناصر كأغلب أبناء جيله، فقد كان يحلوله الاستماع إلى إذاعة ليبيا التي كانت مختصة في بث مقاطع من خطابات القذافي، وهتافات "الثورة"، والنشرات التي كانت تخصص بكاملها لسب ما كان يعتبره القذافي "أنظمة رجعية" في العالم العربي.

أتذكر أن القذافي كان يزعم أنه قادر على ما كان يسميه "تحرير الشعوب العربية"، وأنه قادر على إلحاق شر هزيمة بأميركا والغرب، وأنه ـ بنظامه "الجماهيري" ـ نبي القرن العشرين الذي سيخرج الأمة العربية من ظلمات الاستبداد والاضطهاد إلى رحاب الحرية والانعتاق. وكانت إذاعة ليبيا ـ ولنسمها منذ الآن إذاعة القذافي! ـ تبشر كل المضطهدين في العالم العربي بأن يوم الفرج وشيك وأن العقيد (والأخ القائد كما كانت تسميه الإذاعة!) قادم لا محالة لإنقاذهم.

غير أن الذي حدث كان عكس هذا تماماً إذ تلقت ليبيا ضربة أميركية عام 1986 ثم وقعت ضحية الحصار الذي فرض عليها بسبب دعم القذافي للإرهاب الدولي. وبعد أن كان القذافي ينعت ملك المغرب، الراحل الحسن الثاني، بأنه "هتلر القرن العشرين" (وكأن هتلر عاش في قرن آخر!) أصبح يستنجد به ويستجدي منه التحور مع الغرب باسم ليبيا. أكثر من ذلك فقد سحب القذافي اعترافه بالجمهورية الصحروية الوهمية وسحب دعمه للبوليساريوأيضا وأصبح من دعاة تخيير البوليساريوبين واحدة من اثنتين على حد قوله: إما الانخراط في النسيج السياسي المغربي والعمل على إلغاء الحدود في إفريقيا!

واضطر القذافي، بعد عقود من الشعارات الخوية، للانصياع للغرب وتقديم اثنين من مواطنيه للمحاكمة في اسكتلندا. ودفع من أموال الشعب الليبي تعويضات خيالية لضحايا الإرهاب الذي دعمه ومارسه. وبمجرد ما دخلت ولى الدبابات الأميركية إلى بغداد أعلن القذافي أنه قد وقف كل برامج أسلحة الدمار الشامل في ليبيا ليعلن بذلك آخر حلقات انبطاحه أمام أميركا والغرب. فلا أميركا انهزمت، ولا الغرب انهزم، ولا الشعوب العربية تحررت، ولم يبق من القذافي إلا طزطزته (أي قوله "طز") التي كان يطلقها في وجه الصواريخ الأميركية التي انهمرت على ليبيا عام 1986.

رغم كل هذا السجل الكارثي على بلاده وشعبه، وحتى على أفراد عائلته وطفلته التي ماتت بنيران القصف الأميركي، فالقذافي مصر على البقاء على كرسي الحكم. بل ليس مصرا فقط على ذلك وإنما على أن يحكم ليبيا وحده لا شريك له. وكل من عارض القذافي ـ وسولت له نفسه ذلك ـ فمصيره حبل مشنقة والاختطاف والاختفاء القسري في أقبية التعذيب والمعتقلات السرية.

أربعون عاماً من الدكتاتورية والإعدامات والتعذيب والاختطافات، واضطهاد العصابات المسلحة التي يسميها القذافي "اللجان الشعبية"، حولت ليبيا إلى أكبر وأقدم معتقل في العالم، يحتجز فيه شعب بأكمله طيلة أربعة عقود من الزمان وسيظل كذلك إلى أمد لا يستطيع أحد أن يتكهن به. فالغرب، الذي انساق انسياقاً بهيمياً وراء بوش لإسقاط صدام حسين، يبدوأنه قد سوى كل ملفاته مع العقيد وضمن الوصول إلى خزان البترول الليبي ولم يعد يهمه بعد ذلك أن يذهب الليبيون إلى الجحيم.

لا يعني هذا أنني أدعوإلى إسقاط نظام القذافي بتدخل عسكري خارجي لأنني لست من أنصار الحروب والعنف والإرهاب والاحتلال. لكن الإنسانية تتحمل جزء من المسؤولية عما يحدث للشعب الليبي منذ أربعين عاما اغتيل فيها قادة من المعارضة الليبية، وأرسل فيها كثيرون إلى المشانق في الساحات العمومية في مشهد ترويعي قل نظيره، وأصبح فيها المواطن الليبي والمهاجرون إلى ليبيا تحت رحمة عصابات يمدها العقيد القذافي بالسلاح والسلطة لتفعل برقاب الناس ما تشاء دون حسيب ورقيب. ولذلك فالإنسانية لا بد وأن تعمل، بالطرق السلمية والمشروعة، على الضغط على نظام القذافي من أجل الشروع في الانتقال الديموقراطي داخل ليبيا ضمن مسلسل تتوافق عليه كل الأطراف المعنية. وبدل أن يستمر العقيد في المهاترات واقتراح "الحلول" المضحكة لمشاكل الآخرين، مثل حديثه عن دولة "إسراطين" التي ستحل ـ في نظره ـ صراع الشرق الوسط، ربما يكون أجدى له أن ينظر إلى نفسه في المرآة ويستحضر أربعين عاما من الانتكاسات التي جلبها على بلده، ورتبته العسكرية التي ظلت جامدة أربعة عقود من الزمن. إن ذلك يعني بكل تأكيد، من الناحية العسكرية، أن القذافي ضابط لا يستحق الترقية. والدليل هوأنه لم يتجرأ، هونفسه، على ترقية نفسه. وإذا كان الأمر كذلك فهذا ضابط لا يستحق أن يخوض العالم حرباً ضده بقدر ما يحتاج إلى أن يحيله العالم، بكل هدوء، إلى التقاعد. وما لم يفعل العالم ذلك فسلاح الدمار الشامل الوحيد الذي امتلكته ليبيا حتى الآن، والذي هوالقذافي عينه، سيستمر في تدمير ليبيا وشعبها.

وكل أربعين عاماً وأنت عقيد.. يا حضرة العقيد! 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com