|
من مصمم نصب 14 تموز؟
بلقيس شرارة لقد كُتبت أبحاث ومقالات وكتب عن نصب 14 تموز، ولكن جميع ما كتب عنه، كان يتعلق بالجداريات النحتية التي قام بنحتها الفنان جواد سليم. إن معظم الذين كتبوا وما زالوا يكتبون عن نصب 14 تموز، يجهلون – على ما يظهر- من الذي قام بتصميم النصب، هذا بالرغم من تدوين الأحداث بالتفصيل في كتاب من قبل مصمم النصب. وأجد أن من الإنصاف بعد مرور ما يقرب من الخمسين سنة على إشادة النصب أن أكتب عن مصمم هذا النصب وعن المهمة التي ألقيت على عاتقه في تنفيذه، والمشاكل التي جابهها في الحفاظ عليه. والغريب في الموضوع أن هذه الأبحاث جميعها أغفلت ما دوّنه رفعة الجادرجي من الأحداث اليومية التي تبين كيف تحقق النصب، ودور المساهمين فيه، وذلك في كتابه «الاخيضر والقصر البلوري» الفصل التاسع بعنوان «مع جواد سليم»، ص 94- 115، المنشور سنة 1991، من قبل دار الريس للكتاب والنشر. لقد قام عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، في نهاية عام 1958، بتكليف رفعة الجادرجي بتصميم ثلاثة نُصب في بغداد لتخليد ثورة 14 تموز. نصب الجندي المجهول ونصب 14 تموز ونصب الحرية. ولقد تم تصميم وتنفيذ الجندي المجهول من قبل رفعت الجادرجي في 14/7/1959، وافتتح بمناسبة مرور عام على الثورة. وتحقق انجاز نصب 14 تموز بعد عامين على الثورة. أما النصب الثالث وهونصب الحرية، فأقدم على تصميمه رفعت بعد عام من انجاز نصب 14 تموز. وكَلف الرسام فائق حسن بتصميم الجدارية في ساحة الطيران. أما كيف خطرت الفكرة له، فيقول رفعت الجادرجي، كانت شوارع مدينة بغداد آنذاك تغص بالمتظاهرين الرافعين اللافتات بجميع أشكالها وألوانها. و«تساءلت: لِمَ لا يكون التصميم على شكل لافتة جميلة بدلاً من هذه اللافتات القبيحة المرفوعة الآن؟ لافتة جميلة وتكون باقية، و«خالدة» حسب قولهم... فقررت أن يبلغ ارتفاع اللافتة عشرة أمتار ويكون ارتفاعها عن مستوى الأرض ستة أمتار، وطولها اثنان وخمسون متراً، تملأ هذه اللافتة بأشكال برونزية تمثل يوم 14 تموز، ولتكن بديلاً عما يملأ شوارع العاصمة الآن... وعرضت على قاسم رسماً لنصب 14 تموز، ولم يكن أكثر من تخطيط كبير لجدار مرتفع... وقد بينت له أن هذا السطح سيحتوي على نحت ناتئ يمثل الثورة، فوافق على الفكرة من غير مناقشة...» ومن ثم فاتح رفعت الجادرجي جواد سليم بالموضوع وعرض عليه التصاميم المعمارية الأولية، وطلب منه ملأها بنحت برونزي. وتقسيم الجدارية إلى ثلاثة أقسام:« قبل الثورة، يوم الثورة، وبعد الثورة، على أن يبرز الجيش في قسم يوم الثورة وأن يتوسط النصب. أما قبل الثورة فيرمز إلى التهيؤ لها، وأما بعدها فيرمز إلى الازدهار المتوقع في الصناعة والزراعة... تأمل (جواد) قليلاً وبان عليه الفرح وقال: إن هذه أعظم فرصة في حياته وإن هذا العمل سيجعلنا نرتبط بالآشوريين وانه سيكون أكبر عمل في العراق لمدة طويلة... واقترحت عليه أن يبتدئ تسلسل النصب من اليمين إلى اليسار، أي أن تكون رموز ما قبل الثورة في اليمين وما بعدها في اليسار لأن اللغة العربية تكتب من اليمين إلى اليسار، فاستحسن ذلك.» تكونت لجنة للأنصبة التذكارية برئاسة رفعت الجادرجي وحسن رفعت الذي كان وكيل وزارة الإسكان آنذاك، وسافر جواد سليم إلى فلورنسا للقيام بتنفيذ العمل بعد أن وافق عبد الكريم قاسم في اجتماع خاطف عرضت عليه مبادئ التصاميم من قبل رفعت الجادرجي، ولم يقابل جواد سليم عبد الكريم قاسم، إذ كانت جميع الاتصالات تحدث بين رفعت وعبد الكريم قاسم في جميع المناسبات المتعلقة بالنصب. ولم يستطع جواد أن ينجز في تلك الفترة القصيرة، بعد مرور عام على الثورة، إلا تمثالاً واحداً وهوتمثال الفتاة التي تمثل «الحرية». وكتب رفعت الجادرجي بهذه المناسبة كتيباً صغيراً عن النصب، بحث فيه النقاط الرئيسة التي تتعلق بفحوى النصب، ورمزيته، وهوالكتيب الذي وزع على الحاضرين أثناء الاحتفال. وقام جبرا إبراهيم جبرا ببعض التعديلات اللغوية، كما وافق على طلب رفعت في أن يصدر الكتيب باسمه، وألا يذكر اسم رفعت في الكتيب، لأنه يرغب في أن يتفادى مقابلة عبد الكريم قاسم في الوقت الحاضر، خشية من طلبه تغيير في نصب 14 تموز. ولكن بعد بضعة أشهر من افتتاح القسم الوسطي من النصب، عرض رفعت على عبد الكريم قاسم بناء على طلب هذا الأخير، صورة فوتوغرافية بطول مترين وبارتفاع سبعين سنتيمتراً، بعثها جواد سليم من فلورنسا إلى رفعت. وشرح رفعة لعبد الكريم قاسم الفكرة التي صمم على أساسها النصب، وما يرمز كل قسم منه، وما سيكون شكله النهائي. وبعد أن تأمل «قاسم» الصورة الفوتوغرافية، قال لرفعة: «هذا النصب جيد ولكنه لا يمثل ثورة 14 تموز بالذات، انه قد يكون نصباً رومانياً ونصباً في أي مكان آخر»، وهذا ما كان رفعتيتجنبه، خاصة بعد أن أصبح الزعيم يشار إليه بـ»الأوحد»، والجماهير تهتف باسمه ليل نهار، فكيف بنصب بهذا الحجم يكون خالياً من تمثال «الزعيم الأوحد»؟ لذا أراد أن يكون تمثاله في منتصف النصب! وفي هذه المحنة التي كان يمرّ بها رفعت، تبرع النحات خالد الرحال وأبدى استعداده لنحت صورة لعبد الكريم قاسم في النصب. سافر رفعت إلى فلورنسا، ليضع حداً «للنغمة الجديدة الخاصة بإضافة صورة شخصية إلى نصب فني». وبلّغ جواد أن يكمل العمل كما هومخطط – وهذه التفاصيل مذكورة في الكتاب المشار إليه أعلاه - ارتاح جواد بعد اللقاء واستمر في العمل. وهنا يتعين أن نؤكد ان كل ما جاء في المنحوتات الجدارية كان من تصميم جواد سليم. ولكن عادت الشائعات ثانية، عندما علم جواد من خالد الرحال أن النصب سيرفض من قبل عبد الكريم قاسم وانه سيكلف بهذه المهمة بدله، ارتبك جواد خاصة وإن السفارة العراقية في روما لم تتعاون معه آنذاك، وعلى أثر ذلك أصيب جواد بانهيار عصبي أدى إلى دخوله مستشفى الأمراض العقلية. الأمر الذي دفع برفعت إلى السفر حالاً ثانية إلى فلورنسا، وكنت معه هذه المرة، وذهبنا إلى المستشفى بصحبة زوجته لورنا ومحمد غني حكمت. وأخرجه رفعت من المستشفى بعد تقديم تعهد بأنه المسؤول عنه، خرج جواد ليكمل ما تبقى من صب تماثيل النصب. ووصلت التماثيل إلى بغداد، وبدأ نصبها، حيث نقل رفعت الجادرجي محل عمله إلى نصب 14 تموز. وكان جواد مشرفاً معه على فتح الصناديق التي وصلت من ايطاليا، وصفت المنحوتات على الأرض. وقبل المباشرة باللحم والرفع والتثبيت، أصيب جواد بنوبة قلبية نقل على أثرها إلى المستشفى وتوفي بعد عشرة أيام، ولم يرَ المنحوتات مرفوعة على النصب، وقام رفعت بتكملة العمل. وعاد الكلام على وضع نحت لصورة عبد الكريم قاسم، وأدى النحات خالد الرحال دوراً بعيداً عن الأخلاق المهنية، إذ كان من المفترض أن يكون مدافعاً عما تركه رفيق له في المهنة، وهوعمل من أهم ما أنتج من فن في القرن العشرين في العراق، وليس إثارة ضجة ربما كانت ستؤدي إلى نسف النصب وتدميره لووضعت منحوتة لعبد الكريم قاسم في النصب. وهذا ما حاول أن يقوم به البعض بعد انقلاب 8 شباط 1963. وباستطاعة القارئ أن يطلع على تفاصيل إنقاذ النصب في كتاب «الاخيضر والقصر البلوري». وعن نجاح رفعت في عدم الرضوخ لطلب عبد الكريم قاسم في وضع تمثاله في النصب. وعندما علم رفعت أن النصب في خطر وربما يهدم من قبل السلطة الجديدة بعد انقلاب 8 شباط، للتخلص من كل ما له علاقة بعهد عبد الكريم قاسم، اتصل رفعت بالدكتور محمد مكية، الذي قام بدوره بتقديم احتجاج شديد اللهجة إلى أمين العاصمة، ما أدى إلى التراجع عن الفكرة وإنقاذ النصب. _____________ 1- (الأخيضر والقصر البلوري) رفعت الجادرجي، دار الريس للكتب والنشر، لندن 1991، ص94-95 2- - المصدر نفسه، ص 99- 101 3-وعلى خلفية هذا الكتيب، كتب جبرا إبراهيم جبرا كتاباً مفصلاً عن «نصب14 تموز»، بعنوان: «نصب الحرية»، وأصبح هوالمرجع بالنسبة إلى الكتّاب الذين يكتبون عن النصب. (ب.ش) 4- التفاصيل في كتاب (الأخيضر والقصر البلوري) حول الدور الذي قام به كل من إحسان شيرزاد ولورنا سليم ومحمد غني حكمت وفاضل ألبياتي وعبد الأمير أحمد وغيرهم
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |