|
أوربا من القيادة القوية الى القيادة الفتية في ظل الظروف الصعبة...
د. محمد مسلم الحسيني/ بروكسل إنتهت قيادة الفرنسيين للإتحاد الأوربي في نهاية شهر كانون أول (ديسمبر) الماضي واستلمت جمهورية التشيك هذه القيادة وأصبح رئيس وزرائها السيد (ميريك توبولانيك) رئيسا لدول الإتحاد الأوربي لفترة ستة شهور تبدأ من الأول من شهر كانون ثاني(يناير ) الجاري وحتى نهاية شهر حزيران (يونيو) القادم. لقد أدرك الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين وجود مفارقة كبيرة بين القيادتين حيث تنتقل القيادة من بلد أوربي غربي كبير، له وزنه وثقله السياسي والستراتيجي والتأريخي في أوربا وفي العالم وله جذوره الممتدة في الديمقراطية وحقوق الإنسان وكونه من المؤسسين الأوائل للإتحاد الأوربي، الى بلد صغير من دول أوربا الشرقية التي كانت منضوية تحت مظلة المعسكر الإشتراكي، جديد على الديمقراطية وحديث الإنتماء الى عضوية دول الإتحاد الأوربي ،قليل الخبرة في المعترك السياسي وسياسيوه في صراع مع أنفسهم!. الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي قاد أوربا للفترة الماضية أبلى بلاءا حسنا في معالجته للأزمات التي مرت بها أوربا إبتداءا من إرتفاع أسعار الطاقة الى الـ ( لا) الإيرلندية للدستور الأوربي المنقح، الى الحرب الروسية الجورجية ثم الخلاف الأوربي الروسي جراء هذه الحرب، حتى الأزمة المالية والإقتصادية التي ضربت أوربا في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم. نجاح ساركوزي في التعامل مع هذه الأزمات بحزم وحنكة لا يستطيع أن ينكره أحد، حيث جعل بعض الصحفيين الغربيين يصفونه بسيّد أوربا بل وصفه آخرون بسيّد العالم خصوصا بعد أن أفل نجم الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جورج دبليو بوش. نجاحات ساركوزي لم تقتصر على الوقوف بحزم أمام الأزمات فحسب بل إمتدت الى جوانب وتفاصيل أخرى، فقد نجح في إرساء أسس ما يسمى بـ (إتحاد من أجل المتوسط) وهو مشروع شراكة بين دول شمال حوض المتوسط وجنوبه. كما نجح أيضا في التوصل الى معادلة وموازنة بين متطلبات الطبيعة (المناخ والبيئة) ومتطلبات الإقتصاد (إستهلاك الطاقة)، إذ وعد العالم بأنه في عام 2020م ستكون نسبة الإنبعاثات الغازية الناتجة عن الحرق الحراري في أوربا 20 في المائة أقل من معدلاتها لعام 1990م . هذا الوعد يعتبر نصر هام للبيئة ولسلامة الأرض من التلوثات الغازية التي أدت الى ظاهرة الإحتباس الحراري، ويعتبر رسالة مفتوحة الى العالم الصناعي فحواها بأن " أوربا قد أعطت شيئا ما للطبيعة فماذا أنتم معطون ؟". يشك الكثير من المراقبين السياسيين بوجود نفس الصفات القيادية التي كان يتحلى بها ساركوزي من حيوية ودبلوماسية وحكمة وبعد نظر وتأثير على الآخرين، عند الرئيس الجديد للإتحاد الأوربي. هذا الأمر جعل بعض السياسيين الأوربيين يتساءل حول إمكانية تمديد فترة رئاسة فرنسا لدول الإتحاد لفترة إضافية خصوصا وأن أوربا تمر بمراحل صعبة وأزمات خانقة تستدعي قيادة حكيمة ومتمرسة وديناميكية. إلاّ أن الأوربيين بشكل عام لا ينظرون الى الخلف وعقارب الساعة عندهم لا ترجع الى الوراء ومهما كلف الثمن! عليهم أن يحترموا دستورهم ولا يفعلوا ما يخالف بنوده التي نصت على وجوب القيادة الدورية لأوربا دون أن تشير الى مسألة تمديد القيادة في ظل ظروف طارئة. دون شك القيادة الأوربية ليست قيادة متفردة في السلطة تعمل وتصنع ما تشاء وحسبما تهوى وتريد.... إنما لها برنامج تلتزم به وتعمل على تحقيقه بالوجه الصائب والصحيح. أوربا أشبه ما تكون بقطار يسير بإتجاه معين وسائقه مكلف في إحترام هذا المسار فلا يستطيع تغيير مساره أو عكس إتجاه حركته... كل ما يستطيع عمله قائد هذا القطار هو أن يريح الركاب أثناء هذه الرحلة أو أن يزعجهم من خلال ميكانيكية قيادته. نفس الأمر ينطبق على القيادة الأوربية التي تلتزم ببرنامج عمل ومهام يجب تحقيقها بالشكل الصحيح والمريح وهنا تبرز خصائص القيادة المتمرسة عن غيرها. أمام القيادة الأوربية الجديدة برنامج عمل وأجندة يمكن حصرها بثلاث نقاط رئيسية : توفير الطاقة، مكافحة الفاقة وتطوير العلاقة... على القيادة الجديدة أن توفر الطاقة لدول الإتحاد الأوربي وذلك من خلال إيجاد أسواق متعددة لتزويد الطاقة وعدم حصرها بيد طرف ممول واحد كي لا يتكرر المأزق الذي تعرضت له دول أوربا الشرقية ودول أوربا الوسطى حينما إنقطع عنها الغاز الروسي إبان الأزمة الروسية الأوكرانية في شان تزويد الطاقة. الكثير من هذه الدول كان يعتمد إعتمادا كليّا أو شبه كلّي على الغاز الروسي ، فقد كانت البوسنة وسلوفينيا تعتمد مائة في المائة على هذا الغاز بينما كان إعتماد بلغاريا على 96 في المائة منه. ليس فقط تنويع مصادر تزويد الطاقة يكفي لتجنب الأزمات بل على أوربا أيضا أن تحسن شبكات نقل الطاقة بين بلدانها حتى إذا ما تعرض بلد من بلدانها الى شحة أو نقص في الطاقة تستطيع البلدان المجاورة إسعافه بالشكل السريع والوافي. إنشاء مراكز جمع وتخزين لمواد الطاقة وإستخدام التكنلوجيا الحديثة في توليد الطاقة النظيفة وإلإقلاع عن مصادر الطاقة الملوثة للطبيعة كالفحم الذي تنبعث عنه غازات كثيرة من شأنها تلويث الجو كغاز ثاني أوكسيد الكاربون والميثان والنتروز، هي أمور على القيادة الجديدة السعي من اجلها وتحقيق ما يمكن تحقيقه. على القيادة الجديدة أن تشرع أيضا في إحتواء آثار الأزمة المالية التي تعرضت لها مصارفها ومؤسساتها المالية والتي أدت الى دخول بلدانها في كساد إقتصادي وأزمة حادة نتيجة لفقدان الثقة عند المستثمرين وأصحاب رؤوس المال. أن تتجه نحو تشجيع الإستثمار وأن تفتح أبواب العمل وتشجع الأيادي العاملة من أجل القضاء على البطالة أو إحتوائها. عليها أن تتفاوض وتتبادل في وجهات النظر مع الدول الصاعدة إقتصاديا مثل الصين وألا تتدخل بالشؤون الداخلية لهذا البلد خصوصا في الظروف الحالية الصعبة. كما عليها أن ترسي أصول الموازنة بين ما تتطلبه الطبيعة من خفض نسبة الغازات المنبعثة من إحتراق مصادر الطاقة وبين متطلبات الإقتصاد المتعب. على القيادة الجديدة أن تضع أوربا في مكانها المرموق بين دول العالم وأن تستلم دول الإتحاد دورها المغيّب في بعض الحالات وتطورعلاقاتها مع سائر الدول خصوصا تلك التي ترتبط معها بمصالح حيوية. عليها أن تحسن التصرف في علاقاتها مع روسيا وأن تتدبر مسألة الشراكة الروسية الأوربية بالشكل الذي يعود بالنتائج الطيبة على الطرفين. أن تضّيق مساحة الخلاف معها وأن تعيد العلاقات الطيبة الى مجاريها كما كانت عليها قبل الحرب الروسية - الجورجية. فتح صفحة جديدة للتعامل مع الأمريكيين في ظل قيادة باراك أوباما لأمريكا ربما ستكون ضرورية وممكنة لما يتميز به الرئيس الجديد لأمريكا من رؤى وأفكار ربما تتطابق مع رؤى وأفكار الساسة الحكماء في أوربا. وهكذا قد يحصل تطابق في السياسات العامة بين الأمريكيين والأوربيين إزاء قضايا ساخنة وخطيرة تتماثل أمام العالم، خصوصا إحتواء المأزق المالي والإقتصادي الذي يضرب دول الغرب وسائر بلدان العالم . إضافة الى كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني والتواجد العسكري الأمريكي في العراق وتحريك عملية السلام "النائمة منذ زمن طويل" في منطقة الشرق الأوسط . كما على أوربا أن تتدارس مع الإدارة الأمريكية الجديدة سبل مكافحة الإحتباس الحراري والتمحص بمتطلبات الطبيعة، وأخيرا وليس آخرا الموقف إزاء روسيا وكيفية التعامل معها على ضوء الملفات الشائكة . إذن الحقيبة الأوربية التي يحملها رئيس دول الإتحاد الأوربي الحالي ستكون ممتلئة بالقضايا المعقدة والملفات الصعبة إضافة الى المستجدات والأحداث الساخنة الجديدة التي لم يتوقعها المنظرون وأصحاب الفكر الأوربي حينما رسموا خارطة السياسة الجديدة للرئاسة الجديدة. فقد كان إنقطاع الغاز الروسي عن دول أوربا أمر مفاجىء لم يكن في الحسبان ولم يدرج ضمن البرنامج الرئاسي ، كذلك كان الهجوم العسكري الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة المعزول. فهل ستتفاعل القيادة التشيكية الفتية مع حرارة الأحداث بشكل مشوش وأرعن كما تفاعلت مع قضية هجوم إسرائيل على غزة حين أعتبرته دفاعا عن النفس!؟ أم أن العصا الأوربية ستبقى مرفوعة عليها وعلى طول الخط كي لا تخرج عن مسارها المرسوم لها وأن تتعلم كيف تتصرف و تتكلم بلسان حال أوربا وليس بلسان حالها !؟. فإن إعتذرت أوربا مرّة عن خلل طفولي كانت القيادة الفتية قد إرتكبته وتقبل المعنيون إعتذارها فلربما لن يقبل مثل هذا الإعتذار في المرات القادمة.....
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |