|
سيرة الشيخين ابو بكر وعمر وثورة الحسين ع .. بحث تاريخي!
حميد الشاكر ( مقدمة ) 1:- لاريب ان معظم الدارسين والباحثين وكذا التأريخيين قد استوقفتهم تلك الكلمة التاريخية لعبد الرحمن بن عوف وهو يفصل في قضية من أهم القضايا التاريخية والاسلامية على الاطلاق ألا وهي قضية الخلافة بعد عمر بن الخطاب والتي اصبحت فيما بعد هي كلمة الفصل التي وجهت المسار الاسلامي السياسي في جهة معينة بعد مقتل الخليفة الثاني للمسلمين في سنة ثلاث وعشرين للهجرة، وبيعة عثمان بن عفان على أساس انه الاقرب للتوافقات القرشية انذاك في مسألة الحكم والخلافة للمسلمين !. ولماذا هي كانت بتلك الاهمية بحيث انها حسمت قضية الخلافة لعثمان بن عفان على صهر الرسول ووصيه علي بن ابي طالب ؟. وماقيمتها الاسلامية على الحقيقة ؟. وكيف كان يفهم جلّ صحابة الرسول هذه السيرة التي اطلق عليها وصف سيرة الشيخين ؟. وطبعا كل ذالك لالنثير هنا وهناك مواقف سياسية فحسب لهذا الصحابي او ذاك من صحابة رسول الله محمد ص في قضية خلافة عثمان بن عفّان او خلافة امير المؤمنين علي بن ابي طالب ع، بل لنسلط الضوء على نقطة في السياسة الاسلامية هي وحتى هذا اليوم تعتبر من اهم المحاور الذي تحركت بموجبها الكثير من الثورات الاسلامية داخل الاطار الاسلامي ضد النظم السياسية التي حكمت تاريخيا وحتى هذه اللحظة باسم الاسلام وحسب شعاراته !. ونعم اصحاب الادراك الواعي لمنعطفات التاريخ الاسلامي يدركون ان انتقالة الخلافة تاريخيا من عمر بن الخطاب بعد مقتله لعثمان بن عفّان، وتجاوز اصحاب الشورى لعلي بن ابي طالب ع، او تجاوز عبد الرحمن بن عوف من خلال كلمته وشرطه في قصة (السيرة) التي طرحها على اهل الشورى في نقل الحكم من علي بن ابي طالب الى عثمان بن عفّان ..... كانت من المنعطفات التي غيّرت كثيرا في المسيرة الاسلامية السياسية، واحدثت بعدها ما احدثت من اشكاليات اجتماعية وسياسية وفكرية ... حتى افضت الى الانشقاق الكبير بين المسلمين، وتحوّل مشروع الخلافة والحكم في الاسلام برمته من شكله الاسلامي النظيف الى لباسه الامبراطوري الملكي القيصري الكسروي الدنيوي الرثّ على يد ملوك وسلاطين بني امية في بداية مشروعهم السياسي الذي بدأ مرحليا في خلافة عثمان بن عفان، وظهر فعليا للوجود في سنة واحد واربعين هجرية في ملكية معاوية بن ابي سفيان بعد استشهاد الامام الحسن بن علي بن ابي طالب مسموما !. أذن : ماهي تلك الفكرة التي ابتكرها عبد الرحمن بن عوف سياسيا او اوصى بها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عبد الرحمن بن عوف ليضعها كشرطا للخلافة الاسلامية، والتي فعلت أفعالها الخطيرة جدا في ابعاد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عن سدّة الحكم في وقت حرج وحسّاس جدّا لامة الاسلام، وتمكين العائلة الاموية منه، واحداث انشقاق قوي لفكرة الامة الواحدة، ومن ثم تمكنّها من تغيير المعالم والملامح العامة لنمطية الحكم في الاسلام ؟. ********************** ( سيرة الشيخين ) 2:- روى الطبري في تاريخه / ج2/ ص 422 / في احداث سنة ثلاث وعشرين للهجرة بعد ذكر مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ووصية عمر بتشكيل مجلس شورى مؤلف من ستة صحابة كبار ( علي بن ابي طالب وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص، وطلحة بين عبيد الله ) لتداول الرأي في مآل الخلافة وكيفية صناعتها من بعده على شرط ان تكون كلمة الفصل في النهاية لعبد الرحمن بن عوف قوله : انه لما دفن عمر بن الخطاب واجتمع عبد الرحمن بن عوف بكل اصحاب الشورى تقريبا ماعدى طلحة بسبب غيابه دعى في نهاية الامر علي بن ابي طالب ع ومن بعده عثمان بن عفان ليلقي عليهم بالكلمة الاخيرة في هذا الشأن (( فقال عبد الرحمن بن عوف : أنّي نظرت وشاورت فلاتجعلن ايها الرهط على انفسكم سبيلا، ودعا علياًّ فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟. قال : ( يعني عليا) أرجو ان افعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي !. ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي،فقال : نعم فبايعه !. أما في رواية المسور بن مخرمة التي هي عمدة الحادثة تقريبا لجلّ المؤرخين، فقد روى الطبري في نفس المصدر الحادثة ولكن بشكل مختلف نوعا ما في جواب الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب في فكرة وشرط ( سيرة الشيخين ) مفادها :(( فقال : أنّي قد سألت عنكما وعن غيركما فلم أجد الناس يعدلون بكما، هل انت ياعليّ مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل ابي بكر وعمر ؟. فقال :( يعني عليا) اللهم لا ولكن على جهدي من ذالك وطاقتي !. فالتفت ( يعني عبد الرحمن بن عوف ) الى عثمان فقال : هل انت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل ابي بكر وعمر ؟. قال : اللهم نعم .)). وكذا مارواه الطبري في صيغته الثالثة التي ذكر فيها عقد البيعة لعثمان ولكن في المسجد وعلى رؤوس الاشهاد حيث قاموا الى المسجد، ولما صعد عبد الرحمن بن عوف المنبر تكلم :(( فأخذ عبد الرحمن بيده ( يعني عليّاً )فقال : هل انت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل ابي بكر وعمر ؟. قال : اللهم لا، ولكن على جهدي من ذالك وطاقتي . ... ثم فعل بعثمان مثل ذالك فقال عثمان : اللهم نعم.)) فبويع لعثمان اواخر سنة ثلاث وعشرين وبداية سنة اربع وعشرين هجرية ./ انتهى . أما في رواية ابن الاثير في الكامل في التاريخ فليس هناك عظيم فرق في النقل وفي الرواية ايضا حيث ذكر في احداث سنة ثلاث وعشرين هجرية قول عبد الرحمن بن عوف في قصة الشورى بقوله :(( فقال عبد الرحمن بن عوف : أنّي قد نظرتُ وشاورت فلاتجعلن ايها الرهط على انفسكم سبيلا، ودعا عليّاً وقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟. قال : أرجو ان افعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي !. ودعا عثمان فقال له مثل ماقال لعلي فقال : نعم نعمل !. فرفع راسه ( يعني عبد الرحمن ) الى سقف المسجد، ويده بيد عثمان فقال : اللهم اسمع واشهد اني قد جعلت مافي رقبتي من ذالك في رقبة عثمان فبايعه ج2/ ص 464 )). وفي رواية السيوطي في تاريخ الخلفاء تحت عنوان ( فصل في خلافته ) يعني عثمان ينقل الصورة بشكل هذا نصه بلا ذكر لعرض سيرة الشيخين من قبل عبد الرحمن على علي بن ابي طالب ع، بل الذكر يذهب مباشرة الى عرض سيرة الشيخين على عثمان فقط، قال صاحب تاريخ الخلفاء :(( ثم أخذ بيد عثمان فقال : نبايعك على سنة الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه المهاجرين والانصار /ج1 / ص 61 )). وقريب من هذا النقل ما رواه احمد في مسنده عن ابي وائل قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليّاً ؟. قال : ماذنبي قد بدأت بعلي فقلت : أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة ابي بكر وعمر ؟. فقال : فيما استطعت . ثم عرضت ذالك على عثمان فقال : نعم / السيوطي / تاريخ الخلفاء/ ج1/ ص 61 . وفي رواية البخاري في باب (( البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رض )) بعد رقم (3747) قال : حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا ابو عوانة عن حصين بن عمروبن ميمون قال : رايت عمر بن الخطاب .... في حديث طويل نأخذ منه الشاهد : فأخذ بيد احدهما فقال لك قرابة من رسول الله ( يعني عليا ) صلى الله عليه وسلم والقدم في الاسلام ماقد علمت فالله عليك لأن أمرّتك لتعدلن ولئن امرّت عثمان لتسمعن وتطيعن، ثم خلا بالاخر ( يعني عثمان ) فقال له مثل ذالك، فلما اخذ الميثاق قال : أرفع يدك ياعثمان فبايعه )) وكما يُرى فان عادة البخاري بتر الاحاديث والاجتزاء منها كل ما من شأنه الابتعاد عن مفاصل الوضوح . أخيرا : نذكر ما رواه اليعقوبي في تاريخه ج 2/ ص 55/ تحت فصل ( أيام عثمان ) حيث ذكر مقولة عبد الرحمن بن عوف الزهري لعلي بن ابي طالب ع بعدما خلا به بما نصه :(( فقال : لنا الله عليك، ان وليت هذا الامر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة ابي بكر وعمر . فقال : أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت !. فخلا بعثمان فقال له : لنا الله عليك أن وليت هذا الامر ان تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة ابي بكر وعمر ؟. فقال : لكم ان اسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة ابي بكر وعمر . ثم خلا بعلي ........ فقال له مثل المقالة الاولى . فقال : ( يعني عليّاً)) إن كتاب الله وسنة نبيه لايحتاج معهما الى إجيري احد . انت مجتهد ان تزوي هذا الامر عني ...)) *********************** (( أسألة حول ماهية السيرة )) 3:- مما ذكرناه آنفا يبدو انّ شرط (( سيرة الخليفتين او سيرة ابو بكر وعمر، أو سيرة الشيخين )) كما ورد في الاخبار والاحاديث التاريخية هي الفكرة والنقطة والمحور الذي بسببها زُوى الحكم والخلافة عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب ولو على سبيل الظاهر في مجلس الشورى العمري هذا ( نسبة الى عمر بن الخطاب ) وتحويلها الى عثمان بن عفان باعتبار انه صاحب كفاءة الموافقة بنعم على شرط الحكم لعبد الرحمن بن عوف الزهري صهره وقرينه !. والحقيقة لااريد هنا وفي هذا المنعطف ان اناقش الكثير من القضايا التي طرحت حول موضوعة سيرة الشيخين والتي لم تطرح ايضا، فلا ارغب بمناقشة مثلا : اولا : مَن الذي ابتكر فكرة سيرة الشيخين في الحكم الاسلامي لتطرح كشرط يحمل ميزة واجب القبول وإلاّ ... لاخلافة ولاحكم في الاسلام بلا سيرة الشيخين ؟. ثانيا : وهل المبتكر لهذه الفكرة هو عمر بن الخطاب قبل موته أم انه عبد الرحمن بن عوف الزهري لغاية في نفسه بهذا الصدد ؟. ثالثا : هل ان حكم الكتاب والسنة النبوية المطهرة في الاسلام ناقص ولهذا تطلب الامر اضافة سيرة الشيخين او الخليفتين لهما ولهذا اصبح شرط الحكم في الاسلام قبولهما حسب ماكان يراه عبد الرحمن بن عوف؟. أم ان سيرة الخليفتين ليس لهما اي مدخلية في شرعية الحكم في الكتاب والسنة، ولهذا رفض امير المؤمنين هذه البدعة من منطلق ان لااساس لها في الاسلام او الكتاب والسنة على الاطلاق ؟. رابعا : لاريب ان عبد الرحمن بن عوف لم يأتي ببدعة في الاسلام على فرض سلامة النوايا، ولهذا اشترط سيرة الخليفتين، كما ان عليّاً بن ابي طالب ايضا لايرفض اي شيئ فيه امتداد لحكم الاسلام، وعليه كيف لنا ان نفسر موقف كلا الطرفين علي بن ابي طالب الرافض لفرض سيرة الخليفتين على الحكم في الاسلام، وعبد الرحمن بن عوف الذي كان يرى في تلك السيرة شيئ لابد منه مع حكم الكتاب والسنة ؟. خامسا : ما الذي كان يخشاه عبد الرحمن بن عوف من حكم علي بن ابي طالب ع ان هو لم يوافق على السير بسيرة الشيخين ؟. هل كان يخشى عدله وانصافه وعدم محاباته في الحق لومة لائم، ولهذا كانت سيرة الشيخين قد بنت نوعا من التجاوزات على الحكومة الاسلامية، فخشي عبد الرحمن من علي بن ابي طالب ان يطيح بهذه المصالح للعائلة القرشية الكبيرة لهذا قدّم شرط الضمان على المكاسب التي نشأة في عهد الشيخين وعدم تعرض علي بن ابي طالب لها ؟. أم ان عبد الرحمن رأى في علي بن ابي طالب خطر ثوري قادم سينقلب على كل السيرة الماضية للشيخين، ولهذا استشعر عبد الرحمن الخطر على سيرة الرجلين وان عليا بن ابي طالب لو قدّر له ان يكون هو القادم الجديد، فأنه حتما سيكون الذي يطيح بكل تلك السيرة المتقدمة عليه من سيرة الرجلين ؟. سادسا : ثم لماذا علي بن ابي طالب ضحى بمشروع حكم ومنصب خلافة امة من اجل عدم قبوله بسيرة الرجلين ؟. وهل كانت السيرة للرجلين تمثل كارثة اسلامية على الدين والاسلام ولهذا كان رفض علي بن ابي طالب ع حازما جازما في هذا الامر حتى وان تطلب هذا الرفض التضحية بالحكومة الاسلامية وخلافة الامة ؟. أم ان لعلي بن ابي طالب فقط رؤية سياسية مختلفة المعالم والملامح السياسية فحسب عن سياسة الشيخين اراد علي بن ابي طالب ان يطبق نظريته الاسلامية السياسية بموجب مايدركه هو من العلم الرسالي الذي يحمله لاغير ؟. كل هذه محاور واسألة لدراسات عميقة وثرية وغنية بالعلم الذي ينبغي ان يُناقش ويُدارس ويُبحث اسلاميا للخروج بمشروع رؤية تاريخية وحاضرة للحكم في الاسلام وكيفية ادارته بصورة واضحة، ولكنّ من جانبنا الان فسنبحث فقط ماهية مفهوم ( السيرة ) لندرك جزءا يسيرا جدا لموقف علي بن ابي طالب عليه السلام من سيرة الشيخين ولماذا تختلف سيرة علي بن ابي طالب عن سيرة حكّام وخلفاء وقياصرة وملوك المسلمين في التاريخ وحتى اليوم ؟!. *************** (( سيرة علي بن ابي طالب ع )) 4:- السيرة في اللغة تأتي على وزن ( فِعْلة ) وفي اللغة العربية ايضا فرق بين (فَعْلَة) بفتح الفاء و ( فِعْلة) بكسر الفاء وسكون العين، حيث ذُكر : ان العرب عندما تستخدم ( فَعلة ) بفتح العين، فأنما يكون المقصود هو القيام بالعمل لمرّة واحدة، في حين أن أستخدام العرب لوزن ( فِعلة ) يدللّ على القيام بالعمل بشكل ونوع خاص مع الاستمرارية والحركة !. أي ان وزن ( فِعْلة ) في الادراك اللغوي العربي يحمل في داخله نمط خاص من شكل حركة مستمرة، وهكذا كلمة ( سِيرة ) بكسر السين، فهي تأتي لغويا عربيا من مادة ( سير) وعلى وزن (فِعْلة) والسير يعني الحركة، وعليه فأن ( السيرة ) تعني الحركة بطريقة او هيئة وشكل ونمط خاص ومعين !. قال ابن مالك في الفيته : وفَعلة لمِرّة كجلسة ... وفِعْلة لهيئة كجِلسة . \ أذن عندما يسمع الانسان العربي كلمة ( ِسيرة ) فانه يدرك ان المراد طريقة ونمط وهيئةٍ معينةٍ من العمل سواء كان عملا طبائعيا في طبيعة الانسان كهيئة جلسته ام انه عملا نمطيا سياسيا في ادارة الحكم والدولة !. والى هنا نستطيع فهم مراد الصحابي عبد الرحمن بن عوف الزهري في مقولته لعلي بن ابي طالب ع ( تبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين ) على ضوء فهمنا وادراكنا لكلام ولغة العرب ومقاصدها، كما اننا ندرك من خلال هذه اللفتة اللغوية العربية، ان عليّاً بن ابي طالب ع ايضا كان يدرك تماما شرط عبد الرحمن بن عوف في جلسته الشورية ومراده، وانه يريد بشرطه وادخاله ل(سيرة الخليفتين) في معادلة الحكم والبيعة، التزام علي بن ابي طالب ع بنفس نمطية الحكم وحركته وشكله وهيئته الذي كان قائما في زمن الخليفتين ابو بكر وعمر !. ويبدو الى هنا ان الشكل والنمط والحركة التي كان يحملها علي بن ابي طالب للحكم في الاسلام هي مختلفة تماما عن نمطية وشكل وحركة ورؤية الحكم للشيخين السابقين في خلافة الامة، ولهذا رفض علي بن ابي طالب ان يقيّد مشروعه السياسي ورؤيته لادارة الدولة بالشكل الذي اقترحه عليه عبد الرحمن بن عوف في معادلة الحكم مقابل سيرة الخليفتين !.. وحتى الان ليس هناك خلاف على كتاب وسنة اسلامية، ولكن هناك بون شاسع حول الادارة وشكل الحكم ونمطية حركة القائد في قيادة الامة نحو المشروع السياسي الاسلامي ؟!. اذن هل كانت سيرة الشيخين فيها اخلال بعدالة او خروج على حكم الاسلام، ولهذا امتنع علي ع عن الاقرار بعبقرية سيرة الشيخين وصلاحيتها للادارة المستمرة ؟.. سؤال عرضي لااعتقد ان عليّا بن ابي طالب كان يشغل باله بجدية ايضا، وكان بأمكان انسان غير علي بن ابي طالب ان يوافق على شرط ( الالتزام بسيرة الخليفتين ) كما فعل بالضبط عثمان بن عفان وحصد ثمار الحكم والخلافة كمرحلة مناورة سياسية، سرعان مابان عوارها ونكث الالتزام بها، حتى ان عبد الرحمن بن عوف نفسه مات وهو غضبان على عثمان بن عفّان وما احدثه من خسف خطير في سيرة الشيخين نفسهما، لكنّ قائدا مثل علي بن ابي طالب فضلا عن انه كان يرى في خلافة وسيرة الشيخين مادة عرضية دنيوية متغيرة ومتجددة في كل زمن وجيل ولايمكن لها ان تكون سنة اجتماعية قابلة للتجدد والاستمرار والبقاء، هو كذالك لايقبل ان يكون اطار سيرة الشيخين معتقلا يحدّ من حريته الفكرية والسياسية من الحركة الخلاّقة لاي حاكم وقائد امه !. اي بمعنى اخر : ان ماطرحه عبد الرحمن بن عوف من شرط ( الالتزام بسيرة الشيخين ) لتمرير بيعة الخلافة بعد عمر بن الخطاب لم يكن فحسب هو ضد الشرع الاسلامي في الكتاب والسنة النبوية المطهرة فحسب، ولم يكن هو بدعة ماأنزل الله بها من سلطان، ولم ........ بل هو كذالك شرط ضد سنن الحياة والمجتمع وادارة الدول، فمعروف ان لكل زمان مراحله المتجددة ومستجداته المتنوعة، وفرض نمطية معينة في الحكم واشكالية نظامية في الادارة ستعيق حتما تطور الحياة الاجتماعية فميزة السيرة المتجددة هي من مختصات سنن الانبياء والمعصومين في هذه الحياة لاغير باعتبار ان سيرهم ومشاريعهم السياسية مشاريع وسير الاهية كلّية تضع المقاييس العامة لحركة الحكم و تأخذ بنظر الاعتبار تغيرات الزمان وتقلبات الدهور والاحقاب، ولهذا هي سنن وسير متجددة لكل زمان ومكان وانسان إن عصمت من التحريف، أما ان نفرض نحنُ هذه النمطية او تلك السيرة لخليفتين لاهما انبياء ولارسل ولا من اصحاب الاتصال اللاهوتي المطلق، فهذا يعتبر اعاقة صريحة لحركة الحياة السياسية المتطورة بطبيعتها وغاياتها واليات الحركة فيها لاسيما ان اخذنا بوجهة نظر عبد الرحمن بن عوف الذي جعل سيرة الشيخين هي الميزان لكتاب الله وسنة نبيه ولم يجعل كتاب الله وسنة نبيه هي الميزان لسيرة الرجلين كما طرحه علي بن ابي طالب ع في رؤيته !. ومن هذا لايمكن لقائد كعلي بن ابي طالب ع مبدع في فكره وفي ادارته للحياة والمجتمع ان يقبل بأن تفرض عليه صورة محددة لنظام الحكم وطريقة وحيدة لادارة الدولة وسيرة خليفتين لايرى فيهما علي بن ابي طالب الا انهما اقل منه علما بالدين واقل منه ادراكا لادارة الدولة، بل ولاينبغي في عرف علي بن ابي طالب ان تفرض اي سيرة اخرى سواء كانت للخليفتين او لغيرهما ماعدا سيرة الرسول الاعظم محمد ص الكلّية باعتبارها الاهية معصومة وشاملة في ادارة الشأن السياسي العام المتغيرة والمتطورة مع الازمان كسنة من سنن الله في خلقه سبحانه وتعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا !. وعليه وعلى كل المقاييس كان يدرك عبد الرحمن بن عوف وغيره ان ليس علي بن ابي طالب من النوع الذي يقبل بمثل هذا الشرط مطلقا، بالاضافة الى ادراك عبد الرحمن بن عوف ان ليس علي بن ابي طالب من النوع الذي يمكنه استخدام سياسة المناورة والكذب بالعهود والنقض للمواثيق التي تبرم في سبيل الحصول على البيعة والخلافة والحكم كما يفعل غيره بمقولة (نعم ) !. ومن هنا كان الشرط يبدو لوهلته الاولى انه خِيط بشكل متقن لعرقلة وصول علي بن ابي طالب لسدة الخلافة من جهة، ولضمان البقاء على الوضع القائم بكل تراكماته السابقة ومصالحه المتراكبة كما هو عليه لتبقى حركة الحياة بسكون وجمود وموت سريري على سيرة الشيخين حتى اشعار اخر !. ان رفض علي بن ابي طالب لقضية وجوب الالتزام بسيرة الشيخين في ادراته للحكم لم يكن رفضا سلبيا مطلقا بحيث انه يرفض الالتزام بمنهج الشيخيين او الخليفتين ابي بكر وعمر في مقابل عدم التزامه باي منهجية وسيرة سياسية اسلامية اخرى غير واضحة المعالم للامة المسلمة وجمهور صحابة رسول الله ص، وأنما كان رفض علي بن ابي طالب ع مبنيّ ايضا على الحكم بالكتاب والسنة التي هو افقه انسان فيهما واعلم واعدل مسلم في هذا الباب، حتى ان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان يرى في حكم علي بن ابي طالب انه حمل للامة على المحجة المحمدية البيضاء التي لاتشوبها شائبة لولا دعابة حضارية كانت في علي بن ابي طالب ع تمّيز اخلاق الرحمة والعطف والليّن في علي بن ابي طالب عن غيره من غلظة وقسوة وخشونة البداوة !.. أذن علي لم يكن يتخذ الموقف السلبي من سيرة الشيخين على اساس انه موقف سلبي لاغير، بل انه كان في المقابل يطرح سيرته وجهده وطاقته في الحكم كبديل لسيرة الشيخين التي يريد عبد الرحمن بن عوف فرضها على سياسة وادارة امير المؤمنين علي بن ابي طالب ع لشؤون الدولة وادارة المجتمع، وكما نقلناه سابقا فأن الروايات التاريخية تكاد تكون مجمعة على ان علي بن ابي طالب ع كان يُعلن وبكل صراحة امام عبد الرحمن بن عوف وباقي صحابة رسول الله ص : انه ان تولى الخلافة فانه سيسير بكتاب الله العظيم وسنة رسوله ص الواضحة وطاقته واجتهاده في الحكم على اساس منطقة الفراغ الطبيعية السياسية التي يمارس فيها اي امام سيرته الذاتية في الادارة والحكم !. وهذا مايبدو ما كان يرعب جلّ الصحابة من علي بن ابي طالب، وهذا مايبدو انه السبب الاصيل الذي دفع عبد الرحمن بن عوف وغيره بوضع شرط سيرة الخليفتين كعقبة أمام مشروع علي بن ابي طالب الاسلامي في ادارة الحكم والسياسة !. ولكنّ واتماما للرؤية علينا ان نتساءل كشكل طبيعي لدراسة الموضوع من كافة جوانبه الممكنة البحث والدراسة لنقول : وماهي سيرة علي بن ابي طالب الذي جلبت عليه كل هذه المآسي والمظالم التي وقعت على كاهله ولسنين متطاولة ؟. وهل كان لعلي بن ابي طالب سيرة أصلا لتكون هي النموذج الاخر في الاسلام بين سيرة الخليفتين ابي بكر وعمر وسيرة علي بن ابي طالب ؟. **************** (( ثورة الحسين ع من اجل سيرة علي )) 5:- ان المتتبع للشعارات الحسينية التي بُنيت على اساسها الثورة والنهضة الحسينية المباركة سنة 61 هجرية سيرى ان من ضمن الشعارات التي نادى بها الامام الحسين بن علي بن ابي طالب ع هو شعار :(( أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي )) وقد جاء هذا الشعار في الوصية التي وجهها الحسين بن علي ع الى اخيه محمد بن الحنفية الذي كان مشلولا انذاك !. ومايثير في هذه الوصية الحسينية حقا هو ليس شعار خروج الحسين بن علي بن ابي طالب ع لطلب الاصلاح في امة جده رسول الله، ولاهو شعار :آمر بالمعروف وانهي عن المنكر !. وانما الاثارة متأتية من زاوية شعار الحسين بن علي ع الذي ذكر فيه قوله:(وأسير بسيرة جدّي وأبي) فهل كان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا مختلفا عن سيرة الرسول الاعظم محمد ص وامير المؤمنين علي بن ابي طالب ع، ولهذا ذكر الحسين السيرة منفصلة عنهما ؟. طبعا كان هناك فرق بين الدعوة للامر بالمعروف والنهي عن المنكر الشرعي الاسلامي، وبين السيرة التي كان يدعو لها الحسين بن علي ع كشعار لثورته الاسلامية في كربلاء !. ومنشأ هذا الاختلاف ومكمنه هو في : ان السيرة مصطلح كان يستخدم كما ذكرنا في الذهن العربي للكيفية والهيئة والنمطية والحركة في الحكم والادارة وسياسة الدول !. اي ان الحسين بن علي بن ابي طالب ع لايكفيه ان يُعلن للامة انه خرج لطلب الاصلاح والدعوة لاقامة العدالة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر لاغير، بل هو بحاجة ايضا ليوضّح للامة برنامجه السياسي الاني الدنيوي المتغير والمتجدد والمتطور، او سيرته التي يحاول تطبيقها بعد وصوله للحكم وادارة الدولة، ومن هنا جاءت وصية الامام الحسين ع وشعاراته متكاملة في جميع فروعها واصولها الاسلامية !. ونعم ان الحسين كان امام هدى وداعية اسلام وصلاح وعدالة وحرية وأمر بمعروف ونهيي عن منكر، لكن كلّ هذه الشعارات تتصل بالجانب الديني والشرعي والاسلامي العام الذي بامكان اي داعية القيام والدعوة ورفع الشعارات لهن ايضا، أمّا مايتعلق بالجانب السياسي والسيرة الادارية وماسوف يسير به الحسين بن علي بن ابي طالب من سياسة ؟. فقد ذكر الحسين بن علي ع نموذجي سيرة جده رسول الله ص وسيرة ابيه علي بن ابي طالب ع !. أذن من اهداف ومبادئ وشعارات الحسين بن علي الغير مركّز عليها بشكل مكثف من قبل الكتّاب والباحثين هو شعار وهدف ومبدئ انتفاضة وثورة الحسين بن علي بن ابي طالب ع من اجل احياء سيرة الرسول الاعظم وسيرة علي بن ابي طالب عليهما السلام جميعا السياسية والادارية بالخصوص، وليس سنة الرسول الشرعية والدينية مع ان بني امية قد تمادوا حتى على سنة رسول الله ص الدينية والشرعية ايضا !. ان السيرة بهذا المعنى كأنما هي شيئ قريب جدا مما طرحه فيما مضى عبد الرحمن بن عوف في شرطه على اصحاب الشورى للخلافة ب (( بسيرة الخليفتين )) والتي اعتبرها عبد الرحمن شرطا اساسيا للقبول بتولية مَن يريد ان يحكم الامة والجمهور الاسلامي، وعلى هذا ايضا نفهم : ان عبد الرحمن بن عوف لم يكن يخلط بين الكتاب والسنة وسيرة الشيخين بلا ادنى روية، بل انه كان واعيا جدا ان في الاسلام ثلاث محاور اساسية لابد ان تكتمل ليقوم الحكم في الاسلام : الاول : كتاب الله سبحانه وتعالى . والثاني : سنة رسول الله ص مبيّن الكتاب وواضع احكام الاسلام . والثالث : هو محور سيرة القائد واجتهاده وطاقته !. في حالة علي بن ابي طالب ع كان علي بن ابي طالب صاحب سيرة ومشروع سياسي وادارة دولة وهيئة حكومة من نوع خاص قريب جدا لمشروع وسيرة الرسول الاعظم محمد ص في ادارته للمجتمع وسياسته للدولة في الحرب والسلم، وكيفية توزيعه للثروة واعطائه المناصب الادارية والسياسية والعسكرية هنا وهناك، كما هي الحال في سيرة علي بن ابي طالب الذي كان يحمل مشروعا سياسيا لايعير كبير اهتمام للتوازنات القبلية الاسلامية القائمة، ولاهو في وارد ان ان يجامل هذه القبيلة او تلك على حساب العدالة الاسلامية وقيام المحجة البيضاء كما وصف عمر بن الخطاب سيرة علي بن ابي طالب ع !. أمّا في حالة عبد الرحمن بن عوف وكذا من قال نعم لسيرة الشيخين ابو بكر وعمر فلم يكونا اصحاب رؤية سياسية او اصحاب مشروع مستقبلي مستقل ومبدع ودافع للمجتمع للامام والتقدم، وانما اكتفى كل منهما للرجوع والعودة وتقرير الوضع السياسي على ماهو عليه عندما اشترط عبد الرحمن (( سيرة الخليفتين )) كرؤية وسيرة سياسية صالحة للمرحلة المستقبلية وما بعدها !. وهكذا بالضبط كانت ثورة الحسين موجهة الى الحكم ب : اولا : كتاب الله . ثانيا : سنة محمد رسول الله . ثالثا : وسيرة النبي محمد السياسية والامام علي بن ابي طالب ع . وفرق كبير بين سيرة الشيخين بالنسبة للحسين وثورته وبين سيرة الرسول ص وعلي بن ابي طالب ع !. ان الثورة التي يخشى منها الى هذا اليوم أعداء الحسين وعلي هي : ليست الثورة التي سوف تغيّر بمعادلات كتاب الله وسنة رسوله ص في واقع الحياة الاجتماعية الاسلامية ؟!. انما هي الثورة التي تهدف الى اعادة السيرة، سيرة محمد ص وعلي بن ابي طالب ع، والحسين بن علي الذي دفع دمه الطاهرة من اجل احياء سنتها السياسية !. كما ان الثورة التي ميّزت أمة الاسلام الى شيعة وسنة هي هي نفس الثورة التي واحدة منها ترى في سيرة الشيخين السيرة التي لامحيص من التعبد بها الى يوم القيامة، وانها شرط الحكم، وانها المفصل الذي علىاساسه يقبل الحاكم والخليفة، بينما ترى الاخرى ان سيرة محمد ص وعلي بن ابي طالب والحسين بن علي ع هي السيرة التي تعطي معنا للحياة وقاعدة للحركة والتطور وعزة للانسان وكرامته وحقوقه !.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |