الشاعر عمر سعدي

 

نائله خطيب – عودة الله

 nailla.k1@gmail.com

هناك من الكلامِ ما يخترقُ القلبَ بخط مستقيم, يقتحمه ويمشي فيه مشية وئيدة فيُحدث تيارا من الدفء الذي يسكنك هديلُ الحمام, بل يقتحم عمى الظلمة ويدفعك كما الرياح العاتية, يردك للوراء حتى يجعلك ترتجف كستارة حريرية تقهرها الريحُ حتى المسام ولا يحتويها الصقيعُ المثلّجُ لكثرة حركتها أبدا.

قلت بالتأكيد هو كلام عمر سعدي: (أخي الذي لم تلده أمي وهو ابن أمي الذي حملته الدنيا برحمها الواسع كما لو كانت تحمل معزوفة..).

 أنا الآتي من اللاشيء

أجهل أنني ناءٍ...

 أنا المزروعُ بين دقائق الأوهام

أنا المرئي والرائي....

دعوني أقتلِ الكلماتِ...

أغمرها بأشلائي...

أضحي في دمي جهراً

أمامَ عيون قُرّائي...

لقد بدأت الرواية تشيد بطلا جديدا بل هو كان وما زال لكنّ الأيامَ من سرعتها لم تدرك ذلك, هذا البطل ليس من أولائك الأشباح الذين يأتون في الليل, هذا عمر لا يشبهه أحدٌ, وهو عمر الذي يضجُّ بالإرادة فيشغله الليل ويخاف منه أن يسكر فينسى البزوغ, كلماته كالأفق الأرجواني تستبطن خفاياك فلا يرف لك جفنٌ حتى تنهيها ولا تنتهي لأن فيها كل شيء وصفحته هنيهة عمر كامل.

فلا أتفاجأ حين يقول " سأفترضُ أنَّ تلك الأنغام التي أسمعها ليلاً هي أشباحٌ تفتش عني رغم جمال تلك الأنغام ووضوحها وسأعبر مسرحَ العمر هـكذا بشفافيتي وتقلصي الآخذ بالازدياد ونشوتي بالتحول من رجلٍ يسكنُ بركاناً من الألم إلى ألمٍ يسكنُ بركاناً من رجل ....".

وأقول: حين تشعر بالحزن, نمْ على عتبة بيتك وابكِ كالأطفال, فبعدها لن يؤذيك أحدٌ سوى القدر الذي لا زال يؤلمنا جميعا لحظة صمت.

تبدو وكأنك تطوف في إحدى الخمارات على ضفاف بحيرة أنت سواحلها وعلى امتداد الساحل والرمل المُخبَّأ بين الصخور تجلس وحيدا  تتأمل زرقة الأمواج لتقول "هذي بحيرتي" وتجيبك ترانيم الموج بصوتها المتلألئ كالأضواء فتتشبث بالحياة: أنت الاثنين معا لكنك لا تصغي سوى نصف إصغاءة فتأتي موجة أخرى لا تعرف عمق الماء وهي مجبرة على تحمل الكثير من الرضى لأنك هناك حضرة الزمن تلك اللحظة, تفاجئك, لكن عمر لا يتفاجأ فهو يقول:

أتمايل كالأفعى طربا من صوت الناي

وأجرجر ذيل الشؤم الآخذ بالقسوة

أنزح من شجر العدم المعهود

إلى شجر الحب المفعم بالشهوة

أبدّل أحلامي

من رجل يملك زمنا بين يديه

إلى رجلٍ تكفيه الرحمة...

إنها بحيرة الشعر التي تسكن غابات الصنوبر تتساءل عن غلام تلجأ الأرواحُ إليه, لقراءته فهو يستنطق ارتعاشهم الأليف بخفة يتشابك فيها الإيقاع المتكامل حيث يتبدد لينقلهم إلى وهج يخرق السكينة فيزين كل شعور بتلقائيته, رقته, ومكره المتفوق اللفظ في أدبيته ونغمته وعصبيته وجماله.

عمر لستَ من هؤلاء الذين يمرون...يمكثون طويلا....ثم يمضون.

وأخطائي الإملائية ستشهد على ذلك فأنا نسيت الصرف منذ زمن طويل.

البحر وحده يتقن التملص من اللغة الجميلة فلا يصطخب مثله أحدٌ , ولا يمارس هدوءه أحدٌ.

أما عمر فيقول:

خذوا روحي

خذوا قلبي

خذوا لغتي

دعوني مثل عصفورٍ

أغني في دجى الصمتِ

وغنّوا فوقَ ذاكرتي

غناءَ الحرفِ للشَفَةِ

عزيزي الطيب الغالي عمر,

هكذا هي الحياة, ليست سوى مجموعة من القصص, ترانا نجسد أحيانا ميلاد التراجيديا وأحيانا أخرى نجسد العصفور الثمل الذي يحلق حتى تكاد أجنحته تعجز عن الطيران,  وأحيانا لا نكون سوى أنفسنا فقط.

عمر سعدي هو إرادة ذلك الشاب المغامر الذي تعلمه القسوة كيف يرتدي الحياة على الوجهين من دون أن تزجَّ بهم الذاكرة التي لا تستعاد إلا ضيفة ثقيلة تترك أثرا كافيا لتجعلك تلاحقها كالمجنون أو ترميها في عربة الأيام فتبقيك مسمرا بابتسامة لا يفك سرها المنجمون . هو بكلماته يخلق كل شيء جميل.

هو ليس بحارا وليس قديسا وحين أغوص في بحره أعود غربية ذلك لمجرد أنه رآني, وأحيانا أقرأه من تلك الابتسامة التي لا تشي بالمكر.( سماههم على وجوههم ).

 كما اعتدنا المزاح والضحك سنعتاد البكاء ثم نعتدل فترانا نتبادل الأدوار مع الحياة فتبدأ هي بالبحث عنا بكل سيقانها وأذرعها.

أما أنا فقد احتجتُ الكثير من الشجاعة لأكتب عنه ولو قليلا فأنا أخجل أن أملأ الصفحات بأدغال كثيفة تكون ملاصقة لبحره العميق, بل أعجز وأخاف أن أظلمه , فكلما حاولت إيجاد تفسير لكلماته أجدني في دقائق صمت مع أنني المغامرة بطبعي؟

مزيدا من عمر؟

 نسيتُ... سلاسل الكلمات

تزحفُ خلفَ آهاتي...

يدور الشكّ في قلبي...

ويعصر ضعفيَ البشريَّ

كي يمتص مأساتي...

ويومض في سهادِ الليل

بينَ أنين مقتولٍ وبينَ حنينِ مشتاقِ

فأصرخُ دون أن أدري

أيسمعني سوى نفسي؟!

وأصرخُ دونَ أن أدري...

فيرجعني صدى صوتي

ويًبقى بينهُ بيني..

سجينا مثل ذاكرةٍ

سباها العمر مرّاتٍ ومرّاتٍ .

عمر سعدي كالبحر الذي يغرق غموضه في مياهه الساكنة وحين يكون حزينا هو لا يشبهك أبدا, فقط دع كل شيء واتبعه لأن أمواجه الزرقاء تتلاطم فتسقطك ثم تسحبك وتجرك في قعر المحيط فترغمك أن تستدل وحدك على طريق العيش كأنك سمكة في ساحل المحيط الهادئ, تجيد الغطس وتعبر القارات وتبقى أبرع من أبرع غطاس دون أن تجيد السباحة, وأنا في كل قصيدة يكتبها أسكن في المدى المترامي الممتد حيث أختنق وأتعافى وأسبح طويلا حتى أنسى كيف أتنفس.؟

هو الذي يفتخر بعروبته حيث يقول : الحيـاة محضُ افتراضاتٍ ليسَ أكثــر؛ أو ربما صدفٌ فحسب، ولكنَّ إيماننا بمقدرتنا على التحليقِ عالياً يجعل من الجاذبية أمراً بسيطاً فلا ننظـرُ للأعلى كثيراً ولا نبسطُ أجنحتنا فوق الترابِ وندَّعي التحليق عالياً ؛ انظر الى الطير ، لديهِ مسارٌ في السماء فهو لا يبتعد كثيراً عن الأرض ونحنُ كذلك نحمِل عروبتنا على أكتافنا مفتخرينَ بها كثيراً رغم ثقلها وشدَّتها ومع ذلك فنحن ألفنا التعلقُ بينَ الأرض والسماء وتركنا مساحةً شاسعةً تحتنا ومساحةً أكبرَ فوقنا وبقينا في الفوضى عالقين . 

الحياة لا ترحم والنزول إلى البحر مفيدٌ جدا, لكن لا تدعه يراك, علمه كيف يصمت ذلك المتبجح, وتحداه ذلك الشيخ الذي يثقله ألمه الخاص, لا تخرج لو منعك من الخروج فهو متعصب, وغضبه سعير, فقط دعه يتوسل إليك, وأنا سأدعو لك بالسلامة. 

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com