|
الدكتور كاظم حبيب/ برلين أتوجه بهذه الرسالة إلى جنابيكما انطلاقاً من كوني مواطناً عراقياً عاش وتعرف على سياسات وتجارب نظم وحكومات عراقية عديدة خلال العقود الست المنصرمة إزاء القضية الكردية, إضافة إلى متابعتي ودراستي للكثير مما كتب عن الفترة الواقعة بين قيام الدولة العراقية الحديثة والحرب العالمية الثانية وما بعدها حول العلاقة بين النخب الحاكمة العربية العراقية والقوى السياسية الكردية بشكل عام وحول مطلب الشعب الكردي بالاعتراف له بحقه في تقرير مصيره بنفسه ورغبته المستقلة في تحديد صيغة وجوده ضمن الدولة العراقية. إن هذه المعايشة والمتابعة والدراسة والخبرة المتراكمة على تواضعها من جهة, ومتابعتي المستمرة لاتجاهات تطور العلاقة بين الحكومات العراقية الثلاث التي تتابعت على الحكم في أعقاب سقوط نظام الاستبداد والجريمه المنظمة حتى الآن من جهة ثانية, وضعتني أمام شعور طاغٍ بمسئوليتي أيضاً, كواحد من مواطني الجمهورية العراقية الخامسة, في أن أتوجه بهذه الرسالة الودية والخالصة إذ يحدوني الأمل في أن توجهوا المزيد من عنايتكما واهتمامكما مع بقية أعضاء الحكومتين إلى المخاطر الجدية التي يمكن أن تحيط بالعراق كله حين يتوقف الحوار الهادئ والهادف بينكما, وحين تعلوا الأصوات المتبادلة من على منابر الخطابة الجماهيرية, وحين يُستخدم الإعلام على نطاق واسع من الطرفين للدفاع عن المواقف المتباينة, وحين تشتد الكلمات المستخدمة قسوة, عندها يشعر المستمع والمشاهد والقارئ في الوطن أو في الخارج بالقلق وغياب اللغة المشتركة المطلوبة والحكمة الضرورية, كما يختفي عن الدرب المشترك الجهد المشترك المطلوب في التحري عن المصالح المشتركة في معالجة المشكلات القائمة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة اتحادية إقليم كردستان العراق في أربيل, وعندها يمكن أن تغيب عن الانظار الحلول العملية التساومية الضرورية الممكنة للمشكلات القائمة. لقد برهنت التجارب المأساوية المنصرمة لذوي النيات الحسنة في العراق بأن الطريق الوحيد والسليم المفتوح على مصراعيه أمام الجميع هو طريق التفاوض والحوار الديمقراطي السلمي, طريق السلام والاستعداد المشترك للمساومة لصالح القضايا المشتركة والمستقبل والمصير المشتركين في عراق مدني ديمقراطي اتحادي موحد وحديث. ليست هناك في عالمنا الراهن مشكلة لا يمكن معالجتها وحلها بالطرق السلمية, شريطة أن تتوفر النية الحسنة والإرادة الصادقة والرغبة الخالصة في الوصول إلى حلول تؤمن مصالح الجميع دون مزايدة أو مكابرة أو تهديد, في حين برهنت الحياة أيضاً بأن التهديد والوعيد واستخدام القوة أو العنف أو السلاح والحرب كلها أساليب لا تعالج المشكلات القائمة بل تزيدها تعقيداً وصعوبة وتزيد من التوتر المتبادل وتعمق الهوة بين الطرفين وتدفع إلى التطرف في المواقف وإلى التباعد, كما يزداد نزيف الدم العراقي من جميع مكوناته القومية, والدمُ, كما قال شاعرنا الجواهري الكبير الراحل, يَنزفُ دماً, إضافة إلى دموع الأرامل والأمهات الثكالى والأطفال الذن يتيتمون عبر سياسات العنف والقسوة والحرب. تواجه الدولة الاتحادية في العراق معرفة وتجربة جديدتين, إضافة إلى كونها ثقافة جديدة لم يعهدها المجتمع من قبل وتستوجب من الجميع الكثير من الجهد لفهم مضمونها والتعامل الواعي معها من مختلف جوانبها والتشابكات المحتملة في تطبيقها وإلى وضع القوانين التي تنظم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة اتحادية الإقليم, كما تستوجب الحالة الطبيعية وجود محكمة دستورية عليا تأخذ على عاتقها فض المشكلات والخلافات التي تنشأ في الممارسة العملية لهذه المعرفة والتجربة الجديدتين والثقافة الجديدة بين الحكومة الاتحادية وحكومة اتحادية الإقليم. كما أن اتحادية الإقليم التي تأسست في العام 1992 بقانون صادر عن برلمان كردستان العراق على أنقاض الحكم الذاتي الميت في دولة البعث وسياساته الفاشية, قد مارست حكومتها سياساتها المستقلة بعيداً عن الحكم الدكتاتوري المركزي في بغداد وعن اعتراف حكومة العراق غير الشرعية حينذاك بفيدرالية كردستان العراق. أما بعد سقوط النظام فقد نشأ وضع جديد, إذ صدر الدستور العراقي الجديد وتم الاعتراف الكامل بالنظام الاتحادي في العراق وباتحادية إقليم كردستان العراق. وهذا يعني بالضرورة نشوء أوضاع جديدة يستوجب هضمها جهداً كبيراً من الجانبين والتعامل الواعي معها ومع الدستور ومع القوانين التي يفترض صياغتها على ضوء الدستور لبلوة وصياغة العلاقة المتبادلة. إن الحفاظ على وحدة العراق وسلامة شعبه بكل مكوناته القومية وتطوره المستقل وازدهارة لا يستوجب القوة بل يستوجب الحكمة والتوازن في التعامل الواعي مع الحقوق في ضوء الخبرة المتراكمة وبعيداً عن الأهواء والتحولات في موازين القوى من أي من الطرفين, إذ لا بد من احترام حقوق الحكومة الاتحادية وحقوق حكومة الإقليم والمحافظات في الدولة العراقية الاتحادية التي أقر الشعب قيامها. ولا يمكن الانفراد في المواقف والقرارات التي يمكن أن تقود إلى عواقب وخيمة على كل الأطراف. إن هذا لا يعني بأي حال حق أحد الطرفين في أن يفرض إرادته وأهدافه على الطرف الأخر, سواء أكانت الحكومة الاتحادية أم حكومة الإقليم, بل يفترض وضع جميع المشكلات على طاولة البحث والمشاركة الواعية من جميع القوى المشاركة في الحكم أو حتى من هي خارجه في المساعدة للوصول إلى حلول عملية ووفق الدستور بحيث تُحترم مصالح الجميع ولا تخلق للعراق مشاكل جديدة. فرئيس الحكومة الاتحادية ورئيس حكومة الإقليم يقفان وجهاً لوجه أمام نوعين من المشكلات: مشكلات ترتبط بالأرض وحدود الإقليم في إطار الدولة العراقية أولاً؛ ومشكلات ترتبط بالثروة وتوزيعها وصلاحيات التعاقد بشأنها واستخدامها, إضافة إلى حقوق وصلاحيات الدولة الاتحادية الدولية والداخلية وصلاحيات وحقوق حكومة الإقليم ثانياً. ومثل هذه المشكلات لا تعالج عبر الإعلام ولا بذهنية ترى بأن انفصال الإقليم قاب قوسين أو أدنى عن العراق, إذ عندها يبدأ الشعور القومي المتطرف يلعب دوره سلبياً على أي حل إيجابي يفترض التفكير به لا على العلاقة بين رئيسي الحكومتين, بل وبين بنات وابناء القوميتين, وهو أكثر ما يقلق الإنسان العراقي ويخشى منه على العلاقات المصيرية التي يفترض أن تشد لحمة القوميات المتآخية في العراق. ولكن إذا ما انطلقنا من تفكير مشترك يؤكد بأن العراق وإلى مدى بعيد وغير منظور, وهذا هو الواقع, سيبقى موحداً, كما أرى, فأن المصالح المشتركة واعتبار الأرض مشتركة واعتبار الوطن الواحد ستكون هي الرؤية التي تعلو على كل شيء, وبالتالي هي التي ستساعد على التساهل والتسامح والتحري عن حلول عقلانية وتساومية قابلة للتطبيق في ظل عراق متعدد القوميات وله تاريخ طويل في الوجود المشترك للقوميات الأربعة القائمة فيه, العرب والكرد والكلد آشور والتركمان. إن متابعتي لأوضاع العراق في أعقاب سقوط الدكتاتورية وقيام الجمهورية الخامسة والسياسات التي مورست من جانب الدولة الاتحادية ومن جانب حكومة إقليم كردستان عبرت من حيث الشكل والمضمون عن غياب التفاهم المتبادل وعن حساسية مفرطة متبادلة وعن ممارسة سياسات أو إعطاء تصريحات لا تساعد على التفاهم المتبادل والحل العملي للمشكلات القائمة, فهي تعطي الانطباع بأنها أشبه ما كانت تنم عن اغتنام الفرص في فترة من جانب حكومة الإقليم للوصول إلى ما تسعى إليه دون الأخذ بالاعتبار مواقف الطرف الآخر من جهة, ومحاولة تنم عن اغتنام فرص التغير النسبي في ميزان القوى لممارسة سياسات لا تقوم على مبدأ التفاهم ومحاولة استرداد كل ما اعتبر قد أخذ بالقوة أو في وقت غاب فيه ميزان القوى الراهن من جهة ثانية, بما في ذلك ما سجل في الدستور من صياغات توافقية. ومثل هذه السياسة من الجانبين لن يكتب لها النجاح بأي حال, بل يُفترض العودة إلى الواقع العراقي وإلى الحلول العملية المتفق عليها وبمساعدة الأمم المتحدة في حالة العجز عن الوصول المشترك إلى الحلول المطلوبة. يهمني هنا أن أورد لأخوة النضال واحدة من أكثر المشكلات حساسية التي تضعف الثقة المتبادلة بين الحكومة الاتحادية وحكومة اتحادية إقليم كردستان العراق حين لا يمارس الطرفان سياسة التفاهم والثقة المتبادلة بينهما, وأعني بها مشكلة التسلح. حين يشاع على نطاق واسع بأن حكومة الإقليم قد استوردت أسلحة دون علم الحكومة الاتحادية العراقية وموافقتها, وإذ ليس هناك دخان من دون نار فعلية, فهذا يعني العديد من المسائل التي يمكن أن تفسر بعدد غير قليل من التفسيرات وتثير الشكوك وتخلق ردود فعل غير محسوبة كما تضعف الثقة المطلوبة بين الطرفين. وحين تقوم الحكومة الاتحادية العراقية باستيراد 5 مليارات دولار أمريكي أسلحة من الولايات المتحدة وحدها, إضافة إلى استيراد أسلحة أخرى من دول أخرى, دون أن تشارك الطرف المساهم في الحكومة, حكومة الإقليم, في اتخاذ مثل هذا القرار ولا تضعه بصورة قائمة الاستيرادات, فأنها تخلق إشكاليات كبيرة لحكومة الإقليم وتخلق حساسية وشكوك وعدم ثقة نتيجة تجاربها الطويلة المنصرمة مع الحكومات المركزية في بغداد وعلى مدى 80 عاماً. فلا أسلحة الإقليم ستنفع حين تنشأ الحرب بين الطرفين ولا أسلحة الحكومة الاتحادية ستنفعها في مواجهة أي وضع جديد ينشأ في الإقليم. كما لن تنفع في مواجهة إيران أو تركيا في حالة شن العدوان على إقليم كردستان العراق, فهما دولتان عسكريتان ومسلحتان حتى الأسنان. فالأسلحة المستوردة من جانب الحكومة الاتحادية ليست للدفاع عن عدو خارجي, فهي غير كافية قطعاً لمثل هذه المهمة, والولايات المتحدة هي التي تأخذ على عاتقها على وفق الاتفاقيات المعقودة بين الطرفين ممارسة هذه المهمة, فهي والحالة هذه أسلحة موجهة للداخل, فهل الداخل بحاجة إلى هذه الكميات الكبيرة من الأسلحة التي أصبح التقادم فيها مكثفاً جداً, إذ غالباً ما تنتج أجيال جديدة من ذات الأسلحة والمضادة لها بحيث لا يمكن أن يستفاد منها أكثر من عام واحد أو عامين على الأكثر. نحن أمام سياسات لا يجري التفكير الهادئ والموضوعي بشأنها ومخاطر ذلك كبيرة في حالة التفكير بما يقود إلى نشوب حرب. فغالباً ما يشعر الحكام بالقوة والقدرة على معالجة المشكلات بالسلاح حين يمتلكون ترسانة كبيرة من السلاح تفوق الحاجة الاعتيادية والعامة لها , وحين يلعب الجيران دوراً سلبياً في تكريس ذهنية القوة في حل المعضلات, حينذاك لا يصبح الدستور حجر عثرة في طريق الحكام, سواء أكانت الحكومة الاتحادية أم حكومة الإقليم, بل يمكن أن يوضع جانباً, كما حصل في الكثير من التجارب السابقة وفي بقاع أخرى من الكرة الأرضية. ويمكننا هنا إيراد مشكلات أخرى بغض النظر عن من له الحق في ذلك, إذ المهم ليس الحق وحده , بل كيف يعالج الأمر في الوصول إلى الحق. وهنا تبرز مشكلة التعاقد على صفقات النفط الخام في إقليم كُردستان التي رُفضت حتى الآن من الحكومة الاتحادية العراقية, أو موضوع تسلم الإيرادات من جانب الحكومة الاتحادية وكيف توزع, أو قضية كركوك, أو تلك المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. إن التسويف في معالجة القضايا لن يخدم أحداً , ولكن محاولة فرض حل معين دون تأمين ممارسة الدستور والإحساس بأهمية التوافق بين المكونات التي تقطن هذه المناطق لن يقود إلى نتائج إيجابية في دولة لا يزال الوضع السياسي والأمني فيها هشاً حقاً وقابل للإنفجار في كل لحظة. وأي انفجار من هذا النوع يضيع كل المنجزات التي تحققت حتى الآن والخسارة الفادحة تعم الجميع. أملي أن تحرك هذه الرسالة المتواضعة من مواطن عراقي يشعر بالقلق وبمخاطر التوتر الراهن في العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والعواقب التي يمكن أن تترتب عليها في ظل قوى ودول مجاورة تنتظر الصراع والنزاع الداخلي في العراق لتساهم في تدمير ما تحقق حتى الآن لا بقواتها العسكرية, بل ربما بأساليب وقوى كثيرة أخرى جاهزة في العراق وفي الدول المجاورة. لا خسارة من التنبيه, بل الخسارة كل الخسارة للجميع حين لا يعار انتباه لتلك التنبيهات التي يفترض توجيهها لكل المسئولين في العراق, إضافة إلى السيدين رئيسي الحكومتين, وكذلك إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة الإقليم ورئاستي مجلسي النواب, وللشعب العراقي بكل مكوناته القومية وكل القوى والأحزاب السياسية الفاعلة في العملية السياسية في العراق. اتمنى لكما من كل قلبي العودة إلى الحوار والنجاح في حل المعضلات القائمة وعدم استخدام تلك المشكلات في العمليات الانتخابية القادمة إذ من الضروري الابتعاد عن الأجواء التي يمكن أن توتر الوضع العام والتي يمكن أن تقود إلى نتائج غير حميدة في صفوف الشعب.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |