المثقف وحرية الاستشعار عن بعد

 

بسام عليان

arabicbloggersunion@googlegroups.com 

عزيزتي الأخت حنان محمد فارع... تحية لك من الأعماق لرأيك النقدي للمثقف المنزوي عن جمهوره وناسه؛ ولكني أريد أن أقول أيتها الأديبة أن آفة المثقف هي الحرية. وما من شيء يلاحق المثقف ليل نهار مثل الرغبة في نيل مساحة أكبر من الحرية والتعبير عن الذات وطرح الأفكار والآراء المختلفة. والحرية مطلب حيوي من حيث انها بوابة العبور نحو التغيير الذي ألمحت له بل أكدت عليه كمطلب على المثقف أن يعمل جهده لإظهاره أو المشاركة فيه.

فما من مجتمع يمكن تغييره بدون مساحة مناسبة وغير مشروطة من الحريات. ولا يوجد سقف للحريات المتاحة، كما لا يوجد تعلية لهذا السقف، إلا إذا تغير الواقع وتغيرت طبيعة العلاقات المرتبطة به. فلا توجد حريات نظرية لكن الحريات تكتسب اكتساباً؛ من خلال الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة.

ورغم أن مسيرة الحريات التي بدأها المثقف العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن إلا أن  واقع الحرية للمثقف الملتزم بوعي أمته مازال منقوصا إلى حد كبير. لماذا انتكست الحريات في عالمنا العربي؟ ولماذا لم يحصل المثقف العربي على حرياته غير المشروطة من قبل السلطات السياسية والاجتماعية المختلفة؟ وهل يتحمل المثقف ذاته جزءا كبيرا عما أصابه من قمع وتقييد لحرياته المختلفة؟ حتى تجعل بعضهم يتقوقع في منزله أو يتحجر خلف مكتبه؟!!

نشأ المثقف العربي في بداياته الأولى ضمن الشرعية التي تتيح له مقاومة الاستعمار والقوى المحلية المتعاونة معه. من هنا فلم تكن هناك حاجة للحديث عن الحريات بمعناها الحالي. فكل الأطر متاحة من أجل مقاومة الاستعمار والقوى المتحالفة معه. فقد كانت الحرية في ذلك الوقت خيارا حتميا يجب اكتسابه أو بكلمة أدق انتزاعه سواء رغب المستعمر أو رفض. وكان غالبية الناس إن لم نقل كلهم يقفون إلى جانب هذا المثقف ويتبنون آرائه بل يسوقونها كأنهم صحف منتشرة أو إذاعات تبث صوتها كل حين...

كما – يجب أن نعرف-  أن رفض هذا الحق المرتبط بمقاومة المستعمر كان يعني في النهاية الخيانة لقضايا الوطن والاستقلال والوصم المشين لمن يمنع هذا الحق وينقده.

 فمن هنا؛ برزت قضية الاستقلال على قائمة القضايا التي يجب العمل على تحقيقها. فلم يفكر الكثيرون في ذلك الوقت في الحرية كقيمة في ذاتها، فقد غلبت حرية الأوطان على كل ما عداها من حريات أخرى.

ورغم ذلك فقد برزت الكثير من القضايا الأخرى المرتبطة بالحريات مثل حقوق المرأة والمواطنة  الصالحة والمساواة الاجتماعية والعدل وقيمه المنظورة بين فئات المجتمع. ورغم غلبة الحقوق السياسية في فترة الاستعمار إلا أن الكثير من الحقوق الأخرى تم تناولها وإن بنسب متفاوتة. لكن رغم كل ذلك ظل هم التخلص من الاستعمار هو القضية الجاثمة على صدور كافة المثقفين والأحرار في معظم دول العالم العربي.

وللإنصاف فإن الإحساس بقيمة الوطن والمواطنة يختلف من مجتمع لآخر في عالمنا العربي. بل إن مسألة مقاومة الاستعمار ذاتها تختلف من بقعة لأخرى ليس فقط على مستوى القيادات السياسية ولكن أيضا على مستوى إحساس المواطن العادي بعبء هذا الاستعمار وضرورة التخلص منه. فالمستويات الوطنية التي تتجلى تجاه مقاومة الاستعمار في فلسطين لا يمكن مقارنتها بغيرها من البقع الجغرافية الأخرى التي لم تواجه الاستعمار بالدرجة نفسها، ناهيك عن تواطؤها معه. هذا إذا علمت أن الفلسطينيين عانوا من استعمارات عدة وما زالوا يعانون شتى أنواع الاستعمارات والاحتلالات والقيود حتى الفلسطينيين الذين يعيشون في بعض الدويلات المحسوبة على العرب ظلماً وبهتاناً.

وأستطيع أن أقول أنه بقدر ارتباط مرحلة ما سمي بما بعد الاستقلال ببعض  الاعلانات الشكلية عن رفع الاحكام العرفية ونشر الحرية الملغومة التي قامت بها الدويلات بوصفها الراعي الوحيد لهذا المواطن المغلوب على امره ، مما جعل تلك المرحلة ترتبط بالكثير من الإخفاقات وعلى رأسها الانتهاكات الواسعة المدى لمسألة الحريات السياسية، وعلى رأسها حرية التعبير والكتابة وتشكيل الأحزاب السياسية. فقد رأت هذه الدويلة  أو تلك أنها الفاعل الرئيسي في الساحة وأنها تشبع كافة الجوانب الاجتماعية المرتبطة بمواطنيها (؟؟!). من هنا فيجب على الآخرين إما أن يدعموا الدولة ( من مثل كلمات ولاء وموالاة ) أو فليصمتوا؛ بل زاد كثير منهم فقال "فليرحلوا"!!!؟ وهذا هو ما سعى إليه الاستعمار الجديد بثوب حقوق الانسان وحريته المسلوبة.

 ومن هنا استحلت الدولة (الدويلة) الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية، وأصبح المثقف مجرد فرد عامل في مؤسساتها، يكسب إذا ما تواطأ معها، ويخسر إذا ما عارضها. كما أن الدولة هذه وعبر مؤسساتها واجهزتها المختلفة والمتعددة أصبحت أداة الوصم الجديدة بديلا عن قوى الاستعمار السابقة لكل من تسول له نفسه نقدها أو مواجهتها أو تحديها. وللأسف كان لها هذا عن طريق تجييش عدد من الانتهازيين والمتسلقين الذين يختبأون تحت مظلة السلطان الحاكم أو حاشيته من الجهلاء وهم كثر.

 وفي ظل هيمنة هذه الطغمة من الطبالين والمسفقين (السحيجة) لم تكن هناك قوى حقيقية مؤهلة لمواجهتها والدفاع عن مصالحها. لقد كانت المواجهات أقرب للحالات الفردية أو الجزر الاجتماعية والسياسية المنعزلة والمحدودة النطاق التي أمكن للدولة أن تجهز عليها بسهولة ويسر. وأنا اعرف الكثير منهم الذي دخل إلى نفسه وأقفل الباب خلفه؛ ليس خوفاً من هذه الشرذمة المتسلطة؛ ولكن ليستطيع قراءة الأمور بتأن أكثر وواقعية، ووضع العلاجات اللازمة لهذه الحالات المهيمنة على كل السقوف بما فيها سقف الغرفة التي اتخذها هذا المثقف حصنا أخيرا له للدفاع عن معنى الثقافة والمثقف؛ في ظل تزوير تاريخ بأكمله....

 وفي الحالات التي شكلت فيها هذه القوى قدرا كبيرا من التهديد لهيبة الدولة كشرت الأخيرة عن أنيابها، وفتحت أبواب معتقلاتها وأدارت ماكينة القمع والتعذيب. ونشرت جواسيسها، ورفعت قالب الحياء الذي كانت تتصنع لبسه أو ارتدائه عند الحرج. وعبر كل هذه الممارسات استندت الدولة للشرعية التي أوصلتها لسدة الحكم (والشرعية التي اوصلتها كلنا يعرفها ويعرف تاريخها المخزي؛ ولكن...وأخ من كلمة ولكن). فقد أصبحت أية ممارسة للحقوق الإنسانية المشروعة من جانب المثقفين أو الجماعات السياسية أو الاجتماعية الأخرى خروجا على شرعية الدولة وتحديا لها.

وهذا لا يعفيني من القول ؛ أن بعض المثقفين  لا يتحملون جانبا كبيرا مما آلت إليه حالة الحريات في عالمنا العربي. فعبر سنين طويلة من التدجين الذي مارسته الدولة في عالمنا العربي أصبح بعض هؤلاء المثقفين  أكثر التصاقا بسحيجة الدولة وأكثر اعتمادا عليهم سواء من خلال التقدير المعنوي والوظيفي أو من خلال التقدير المادي.

وهكذا ارتمى بعض المثقفين وبقوة في أحضان الدولة وعطاياها المختلفة. صحيح أن الجميع لم يكونوا على تلك الشاكلة أو الهيئة، فقد كان هناك فريق لم يرتض ذلك الارتماء وتلك الهيمنة من جانب الدولة، وهو ما دفع بعضهم ثمنه فيما بعد. لكن تظل إحدى السمات الغالبة ل "المثقف العربي المعاصر" هو اعتماده المادي والمعنوي شبه المطلق على الدولة. ونسي مع النعمة المسلوبة من أفواه الفقراء دوره الثقافي الأصيل؛ بل نسي أنه مثقف أصلاً، وأصبحت ترى في حفلات التواقيع كبار المسؤولين الذين يوضع أمامهم الورود لرعاية نشر كتبهم، ويكتب لهم ما سيقولونه عنهم، وعن جمائلهم المتعددة او التي لا حصر لها؛ ومن هنا تضمن هذه الفئة وجمهورها دعم الكتاب أياً كان نوعه، وتضمن تسويقه بأريحية؛ كما وهو الأهم تضمن الإشادة بموضوع الكتاب إعلامياً ، نظراً لأن التغطية تكون لنشاط المسؤول وليست أصلاً لهذا المنتج الثقافي الهزيل....

الأمر الثاني الذي يتحمل المثقف تبعاته في ذلك الانتقاص الهائل للحريات الذي يتعرض له الآن أنه لم يكن لديه مشروع واضح وشامل للحريات. فقد اتسمت مشروعات المثقفين بالانتقائية التي تحقق لهم أهدافهم الشخصية أو أهداف جماعاتهم الحزبية أو التنظيمية؛ وأحياناً الطائفية أو الاقليمية التي يتشدقون بها بدون حياء أو خوف من التبعات في أي حال قد يصادفهم أو انقلاب موازين القوى مستقبلاً. فتجد بعضهم لا يتحدث ليل نهار سوى عن حقوق المواطنة والمساواة والعدل الاجتماعي وهو يعني في النهاية حقوق جماعته أو فئته الضيقة.

وحينما نجد بعضهم الآخر ليس له من همّ سوى النيل من المنتمين إلى التيار الوطني الفلسطيني الرافض للاحتلال والرافض للهزيمة والرافض لأي هيمنة من هنا أو هناك. ولا يتحدث من قريب أو بعيد عن حجم الانتهاكات والتعذيب الذي يتعرض له المنتمون لهذا التيار في عالمنا العربي فهو يظل انتهازبا يجامل السلطة في النهاية ولا يمت بصلة من قريب أو بعيد لقضايا  المثقف والمثقفين كما يحشر نفسه في التعربف عن حرفته أو صنفه المجتمعي؟؟!!

 وهو الأمر الذي يجعلنا نرى بعدم وجود مشروع متكامل للحريات في عقلية المثقفين العرب في دويلات أصبحت فائضة عن الحاجة لولا حزام الاستعمار الذي تلبسه في وجوه مواطنيها الأصليين .

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com