|
الموت الرائع
للدانماركية بيا يول * Pia Juul ترجمة مشرق الغانم لا أحد بإمكانه أن يتصور مدى تعاستي,لذلك أجدني مدفوعة للاتصال بك تلفونياً.في المرة الأخيرة,كدت أطير من الفرح,ولكنني الآن حزينة,هذا ما أريد أن أحيطك به علماً,أشعر بالعجزعن توضيح ما يجيش بخاطري,لقد استولت عليَّ هذه الأحاسيس تقريباً بعدما إلتقيتكُ في المرة الأخيرة,لم أعتد أن أتعايش معك على هذه الحال من قبل,على أي حال إنك الآن إنسان مختلف,لك وجه آخر,ربما يعني إليك هذا شيئاً ما,هذا ما أستطيع ملاحظته كنت ُ أشعر بوجود هذا التغير عند زوجي,دون الحاجة إلى طرح الأسئلة عليه,فنحن ندرك مدى علاقة أحدنا بالآخرولم يكن بمستطاعي أن أهاتفك,لأنك منهمك بعملك,مُركّزاً الذهن َعميقاً,لكي تلمس الراحة والإطمئنان. لكن إذا رنَّ هاتفك,أرفعْ السماعة في الحال,لأن مثل هذه المفاجئة ستثير في نفسك المتعة,كنتُ قد خبرتك جيداً,في كل الأحوال ,لا أريد مقاطعتك حتى هذه اللحظة,لقد كان عملك مرهقاً بالنسبة لي,الرغبة تعتريني أن أتصل بك يومياً,لم أجرؤ على ذلك,لا أعرف بالتحديد لماذا أنا قلقة من أجلك,كنتَ تنصت فرحاً كلما أتصل ُ بكَ,لكنك الآن لم تعد تتصل بي,وإذا ما اتصلتُ بكَ,فغالباً ما يكون حديثك مقتضباً. أنا الآن حاقدة عليكَ,نحن نعرف بعضنا جيداً,أردتُ فقط أن أقول هذا إليك. حتى هذه اللحظة لم أتفوه بكلمة واحدة.فأنت تبدو منسجماً مع ذاتك كما يقول المرء,ربما مع عملك.لستُ على علم إذا ما كان الضجر ينتابك أو تعتريك السعادة,لو إتصلت إنت بي لكنتُ على بينة من هذا التقلب في تصرفاتك, لن أعدم الوسيلة للإتصال بك,ولو كنت مكانك وسألتني عن حالي,لأخبرتك حالاً بعدم إستقراري.هذا ما لم تفعله على الإطلاق,ومع هذا أقول لنفسي انني إتصلت بك لكي نتسامر قليلاً,لكنك تحاول الإيحاء دائماً بأنك مسرور.بينما تجلس مع عملك ضجراً,العمل الذي صار معقداً. أنا أعرف أن لا شئ يضجرك,فأنت سعيد ومدرك لعملك,ولا أفهم بالضبط ما الذي تفعله.وكأنك تواسيني عندما تذكر لي بأنك سئمت من كل شئ وتود أن تنهي هذا العمل قريباً, وحسب تخميني,أعلم أن هذا الأمر سيستغرق شهوراً أخرى. أتذكّرُ عندما إقترنتُ بك, أنهيتُ علاقاتي بجميع الصديقات, قراري لم يكن حاسماً,لم أفكر بمثل هذا الشئ,لقد توقفت فقط عن الإتصال بهنَّ وتمسكت بزوجي وحده,فذلك كان كافياً بالنسبة لي,كأننا كنا نسكن في حفرة,نتحدث بدون إنقطاع عندما نكون سوية,كنت أسرد إليه كل شئ,كل الوقائع التي حصلت معي,وتلك الحوادث التي فكرت بها,مالاقيته عند البقال,وما حدث لي في طفولتي, الأحلام التي تتدافع في منامي,كيف كنت أتصرف مع الرجال ,الذين كنت على علاقة بهم كنا نفصح عن كل شئ,هذا ما فعلناه بالضبط,أنا فعلت هذا الشئ, فلن يكون من الحكمة أن أنغلق على نفسي,مختارة ركناً مخفياً مثل سر ٍ, ليس عاراً كبيراً ومخجلاً التمسك بالسرّ والتعتيم عليه, فلكل شخص قيمته . كنت أفرغتُ كل ما عندي من مشاعر لها علاقة بصداقته,دون أن أفكر في مغزى ذلك,وفي الأحلام لم يعد هناك ما يثير الإهتمام سوى البقال. لم أستطع آنذاك التفكير بشئ آخر وأتحدث عنه إليه. كان الصمت يطبق على جو البيت,بصمت كنا ننسل إلى الفراش,ونودّع ذلك اليوم ب"تصبح على خير"فقط,فلن يبقى شئ نستكشف من خلاله بعضنا,أو يتأمل أحدنا ذاته متفحصا ً إياها بعمق. في تلك اللحظة خطر ببالي,فيما لو ارتبطتُ بعلاقة مع شخص ما,فالأفضل أن لا يعرف هو شيئاً عن تفصيلات حياتي,فقد حصدت ُالمزيد من الهموم,وهذا ما أسفت عليه, لم أكن قادرة على طرح هذه الوقائع بطريقة أخرى على زوجي,ذلك الشخص الذي أحبه فعلاً,ولا أستطيع الفكاك منه,أو الارتباط بعلاقة حب مع رجل آخر بهذه الطريقة. ثمة شئ يبعث على الغرابة,فعندم ا إلتقيتك آنذاك إسترجعتُ كل هذا,لم أكن فطنة ًبما فيه الكفاية,لأنني نسيت تماماً,كيف على المرء أن يلتقي مع شخص جديد بهذا الأسلوب,وكنت أيضاً قد نسيتُ كيف أتواصل بعلاقة مع صديقة ما. كنت أفتح فمي إنشراحاً,لذلك اللقاء الذي إنقلبت حياتي بالكامل بعده,إلى أن حظيت َأنت على ذلك العمل,أو ربما قبل ذلك بقليل. آنذاك حلَّ الصمت بيننا,وكأننا قد تزوجنا منذ زمن بعيد. الآن أشعر بالأسف والحزن معاً وكليَّ أمل بالتحدث إليك,وكأن الأمر أصبح متوقفاً على الطريقة التي سوف أبدأ بها الحديث معك. عندما إكتشفت وبدأت قراءة دفتر يومياته,بدا الأمر مثل نافذة إنفتحت على أفق واضح,شيئاً فشيئاً عبّأتُ رأسي إستيعاباً بكل ما دوّن في هذا الكتاب,في البداية عندما فتحت جارور الطاولة بحثاً عن غرض معين ليست له علاقة بما يجري بيننا,وقع نظري على دفتر اليوميات,لم أجرؤ على فتحه في البدء,فقط ألقيتُ بجسدي على الكرسي جنب الطاولة,وبدأت التحديق في السقف,دون أن ألمس الدفتر. في الواقع كانت فترة طويلة هي علاقتنا,ما يقارب تسع سنوات,تسعة كتب, مخاتلة وإحتيال,أكاذيب,مع كلمة قديمةTolper (وتعني الرجل الذي يتظاهر بالأخلاق والعفة ويمارس عكس ذلك).ليس لأنني إطلعتُ على الكثير الكثير مما يحفل به دفتر اليوميات,وليس لأنه خانني على كل هذه الصفحات,فقط لشئ واحد, فقد كان يكتب من وراء ظهري. كلمات كثيرة,مثلاً هو قد سمح لنفسه أن يهمس في أذني,بينما أنا منطرحة في الفراش نصف نائمة,أنتظر عودته إلى البيت,أو إذا نهض من جانب الطاولة, أسمعه وهو يفتح النوافذ ....إلى أن أغط في نومي,أو أسترق السمع عندما يُدخل ُ المفتاح في القفل ....فأنام بعدها,لم ألحظ شيئاً جديداً حينها,لا عنه ولا عني, هكذا أصبحتُ على قناعة الآن بشئ لم أكتشفه من قبل,من أنه لم يعد يحبني, هو لم يكتب هذا بشكل مباشر,فلا ضرورة لذلك,أعرفه جيداً,لم يعد بمقدوره أن يحبني,فقد أصبح يحب كائناً آخر. لا يطلق عليه حباً,بل يكتب مثلاً "رقصة مع ....." كتابة ترمز إلى شخص ما, لقد كان هيناً عليَّ أن ألتقط المعنى وماذا يقصد بالضبط. أمام كل هذا, كان الموقف يتطلب مني, أن أمنح وجهي تعبيراً مقصوداً,حدث هذا أثناء جلوسنا إلى مائدة الطعام,وهذا ما أحدث فيه إرتباكاً,فراح يردد مع نفسه حذراً بكلام غير واضح,فيما عيناه تحدقان في الغرفة التي تقع إلى جنبنا بالضبط, حيث هناك طاولة الكتابة,لكنني سارعت وحرَّفتُ الحديث من مجراه فأستعاد هو هدوءه. بالطبع ستعتقد الآن,أن هذا سيشكل صدمة ,لأنني أغص بالبكاء وأذرف دموعاً, تثير الشفقة من جرّاء ما حدث بيننا ....لا,لم أكن هكذا أبداً,بل كنت أريد أن أسمع القليل من فمه هو,لكنه كان يفكر بأمر آخر على مدار الوقت. فجأة كان يكتشف ذلك عندما أسلّط عليه نظري,ومع هذا فهو لم يتفوه بكلمة واحدة. أما بالنسبة لي,فقد غدا الأمر مهما للتحدث إليك حول هذه القضية,وأنا لست واثقة من إستعدادك.فأنت لك رَجُلكَ الذي لا أعرفه,وان كنت ُواثقة من تقبلك الأمر. لكن بطبيعة الحال أعرف حجم حبكما الذي لا يضاهيه حب ٌآخر. وعلى هذا الأساس فلا أحد منا نحن الإثنان يستطيع مجاراة هذا الواقع . أتذكّرُ أنك لم ترد إزعاج نفسك عندما كتبت "لأجل الخلود " لم تكن هناك ضرورة كي تقول هذا,كان بوسعي رؤية ذلك في نظرتك حين تذكر اسمه. كانت حياتي عادية جداً,هادئة وطيبة بالقرب منك,في الواقع لم أفهم ابداً ماذا كنت ترى فيَّ,كنتُ على يقين بمحبتك لي,هذا ما كنت أحسه على الأقل,وأعتقد أيضاً, دون أدنى شك أنك قلتها هذه المرة,والآن تعتقد أنني أصبحت مخبولة. لهذا السبب لم يكن في المستطاع,أن أسمع كلاماً عندما أتصل بك,بيد أني خمنت ُبهذه الفكرة,انك أنت الواقع في محبة ذلك الرجل في الوقت الحاضر,فلم يكن مكتوباً في دفتر يومياته"انها تحبه"هل فهمت الآن ؟ لن أقدر على التصور أنك تحب رجلي,لا,حتى حينما تبدو سعيداً بذاتك,أعتقد فقط بأنك هو الذي يفكر بهذا الشئ,وإلا من يعرفه غيرك؟ أعتقد أنك ستوافقني الرأي, لهذا لم تعد تتصل بي,أليس صحيحاً؟ فقد كان الذعر يدبُّ في أوصالك,عندما يوشك هو على رفع سماعة الهاتف. كنت ُ وحيدة أذرع المكان ذهاباً ومجيئاً وأتحدث مع نفسي بصوت مسموع وحاولت مراراً أن أضحك على ما يحدث,فثمة ما يحوّل الحدث إلى فعل هزلي,فكرْ ! أهذا أنت الذي يحبك ذلك الشخص في هذا المكان لأجلي,وأن يطيل التفكير بك أمامي ؟ هذه هي المهزلة بعينها! لن تمكث في مكاني بعد الآن,فالمكان لا يتسع لجسدك الرّيان الطويل.... هل بإمكانك أن تخبرني مع من سأتحدث بهذه الورطة ؟ لم ينتابني مطلقاً أي إحساس بالوحدة,مثلما أعيشها الآن,بينما أنتما تمكثان وحدكما هناك.كنتُ حسمت أمري وبإمكاني أن أفضح كل شئ وبصوت مرتفع,كلاهما كبير وصغير,بنفسي شهدت ذلك عند البقال,ماذا بوسعي أن أفعل,لقد لمست هذا عدة مرات فهنا بإمكاني أن أغلق نفسي على هذه الفضيحة وأحبسها في داخلي. كنت أشعر في الماضي,عندما بدأ عودي يكبر,انني كنت أرفع رأسي عالياً,أكثر مما كنت معتادة عليه,فقد صبرت على تحمل حدث موجع,لكن أحداً لم يدر بخلده, من أنني كنت أكبر من ذلك,السؤال أو المشكلة,هو هل بإمكاني أن أفصح عن كل ما جرى ؟ فغالباً ما يعتاد الإنسان أن يعيش على صغائر الأمور,وفي المقابل أيضاً يعتاد أن يحصل على ما يريد من نظام الحياة المتناسق. أليست هذه قصة ؟ تقريباً قلت هذا لشخص عن شخص آخر,فلم تكن هذه الحادثة قصة,إنها حكاية, منحتها أقصى ما تحتمل وحددت شكلها وكالمعتاد أضفت إليها لمسة كوميدية. في البدء لم أتمالك مقدرتي,على الخوض في مثل هذه التجربة,لأنها تجعلني مضطربة على الدوام,فما الذي سأفعله مع نفسي,هذه الحكاية لن تخلق حجة دامغة,إنها تنمو وتنمو في داخلي بإيقاع منتظم,توازيها إطالة عميقة في التفكير بأمر آخر,نعم لا أفكر,أصبحت أتأمل الوجود. فجأة وعلى غير عادته,إنبرى زوجي يسألني,ما الذي يشغل بالك وتفكرين به؟ حقاً في الواقع لم يضطر هو في السابق,أن يطرح عليَّ مثل هذا السؤال,كان هذا قبل أن تتضح قناعاتي بقليل,فقد بدأ يكتشف أنني أصبحت مثيرة للإهتمام, لماذا لا يصبح المرء مثيراً للإهتمام ,طالما هو يبدو مثل كتاب مفتوح؟ مرة قبل أن أتزوج كنت عادة ما أتحدث مع أخي في الأشياء التي أتصورها أو الأمور التي تثير قناعاتي,فهو لم يجد حرجاً في أن يقول: أوه! بإمكان المرء,إذا ما أطال النظر إليك,أن يكتشف ذلك السر في داخلك, لذلك عليكِ التحدث,أفصحي عما تفكرين به. الأجدر أن لا يعتقد أحد بأنني سأظل كتاباً مفتوحاً إلى ما لا نهاية. قبل أيام قليلة تناهى إلى سمعي من المذياع,شئ ما أثار في نفسي الاضطراب. فالإنسان إذا ما تكثفت خلاصة معايشاته في داخله,يبدأ بتأمل أشياء الحياة وجودياً. هذه القصة القصيرة النائمة في الباطن,لا تسعفني الخبرة في كيفية وضع حد لها,تلك التي أصبحت مثل الورم الخبيث فيَّ. أحياناً أمشي وأتحسس جسدي ,لأطمئن من أنني لا زلت أحيا. نهداي الصغيران اللذان لا يتوجب كشفهما عندما أقع في المأزق. الأجمل أن يكونا مخبوءين تحت ظروف الورطة. على أي حال,أشعر الآن أن القصة تفور في داخلي,ويبدو أنها ستستفحل وتنتهي بي مع المرض العضال. أحياناً أهدئ نفسي وأستغرق في التفكير,أتخيلني نزيلة في المستشفى,وأنتما ستجيئان وتزوراني,أنتما الاثنان معاً,تحملان باقة ورد,ومحبة لا حدود لها, وستقلقان عليَّ كثيراً,لأنني سأموت بينكما. لكن إلى ذلك الوقت,لن أكون قلقة. سأحبكما أنتما الاثنين معاً,وسأحاول أن أذكر ذلك قبل أن أرحل,حيث سأحمل سرّي معي إلى القبر. أنا الآن بأحسن حال,إلى أن ينقشع عني كل ما فكرت به,لا شئ البتة يدفعني إلى البكاء,إذا ما تراءى لي موتي,الموت الذي سيأتي باهراً,فكل ذلك الذي لم ترغبان بمعرفته,هو هذا الذي أتحدث عنه, فلا أريد أن أموت موتاً آخر,أقل من ذلك الذي كنته, قبل هذا التحول,كنتُ أقرب إلى الاستحالة أن أسترجع ما حصل. لم أكن قادرة على فتح فمي. البارحة عندما جلسنا نتناول الطعام سألني زوجي فجأة: ماذا قال البقال ؟ ماذا تقصد ؟ سألته سريعاً ألم تكوني عند البقال هذا اليوم ؟ أجل. لقد تعود أن يقول شيئاً مشرفاً,أردف زوجي يقول. لم أعد أتذكر شيئاً عن البقال,فلم أكن في البقالية على الإطلاق. ................................................................................... ترجمها عن الدانماركية مشرق الغانم . *بيا يول Pia Juul شاعرة وروائية دانماركية لها مكانتها في الأدب الدانماركي حصلت علي عدة جوائز وأصدرت عدة كتب شعرية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |