|
السعودية وسياسة العصا الغليظة ضد 'العصاة'
د. سعيد الشهابي arabicbloggersunion@googlegroups.com بغض النظر عن اسباب المواجهات الامنية التي حدثت الاسبوع الماضي بالقرب من مسجد رسول الله (ص) بالمدينة المنورة، فقد جاءت في فترة عصيبة بالنسبة لحكومة المملكة العربية السعودية، وبالتالي فهي قضية، ما لم تتم السيطرة عليها، ليس من الجانب الامني فحسب، بل في جوانبها السياسية، مرشحة للتحول الى بؤرة للتوتر الداخلي، والتمدد خارج حدود المنطقة التي حدثت فيها. القضية في ظاهرها وكما عرضتها وسائل الاعلام الرسمية مرتبطة بـ 'شغب' و'فوضى' قام بها 'بعض زوار مدينة الرسول لانهم 'تجاوزوا الضوابط التي وضعها المسؤولون' و'تصرفوا خارج القانون'. هذه العبارات ليست جديدة على الاسماع خصوصا في الدول العربية التي تعتبر 'الاحتجاج' و'التظاهر' تصرفات غير قانونية. فمتى كان الامر غير ذلك؟ والاقتصار على هذه التعريفات يوفر عادة لقوات الامن والاستخبارات ذريعة لاستعمال اقسى الاساليب للتعاطي مع من يمارسها. وترفض الحكومات العربية اعتبار التظاهر حقا مشروعا او الإقرار بان التعبير عن الرأي حق مشروع آخر. ويندر وجود اعلام مستقل يتحرك خارج الاطر الرسمية، ويطرح وجهات نظر مغايرة للرواية الحكومية حول القضايا المهمة. في عالم كهذا، يصبح الاحتجاج ضد تصرفات المجموعات المسلحة ذات الصبغة الدينية في السعودية مثلا، نوعا من 'الفساد في الارض' يستحق من يمارسه أبشع العقوبات التي تصل الى قطع الرأس امام الملأ. وقد ابتلي حجاج بيت الله الحرام بتدخل هذه المجموعات التي يطلق عليها 'فرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر' في ممارساتهم، والسعي لفرض شكل واحد من الاجتهاد الفقهي على بقية المسلمين. تنطلق هذه المجموعات على خلفية تعتبر المخالف لها 'مشركا' يستحق القتل، وتوفر ارضية لظاهرة تكفير الآخرين التي انتشرت على نطاق واسع هذه الايام. هذه المجموعات لا تعتمد في قاموسها معاني 'الرحمة' و'الرأفة' و'الأخوة' في الدين او الانسانية. ولا تعترف بـ 'حقوق' الآخرين، خارج ما تراه او ما تنص عليه القوانين المحدودة في المملكة. هذه المجموعات مخولة بالتصرف كما تشاء، فهي القانون، وهي المخولة بالتفسير الديني واصدار الاحكام على الآخرين، وتنفيذ تلك الاحكام، بالقتل والتعذيب. وما قصة قتل الحجاج الايرانيين في موسم الحج في العام 1987 ببعيدة عن ذاكرة الجيل الذي عاصرها. جريمة أولئك الحجاج مشاركتهم في مسيرة 'البراءة' للتنديد بالسياسات الامريكية والاسرائيلية ازاء الامتين العربية والاسلامية. ولم ترفع تلك المسيرات شعارات الا ضمن محور البراءة من المشركين الذين يتصدون للمسلمين. مع ذلك جاء اعتداء مجموعات 'الامر بالمعروف والنهي عن المنكر' مدعومة بقوات الامن والاستخبارات خارج اي اعتبار او قانون اسلامي او انساني، ادى الى سقوط اكثر من 400 من الحجاج. ، أما إعدام الحجاج الكويتيين الستة عشر في العالم اللاحق فقد نفذ بدعوى وجود مخطط ارهابي، بدون ان تكون هناك محاكمة عادلة. ما جرى في المدينة المنورة الاسبوع الماضي لا ينفصل عما جرى للمسيرة التي خرجت قبل شهرين في المنطقة الشرقية للتنديد بالعدوان الصهيوني على غزة، شارك فيها قرابة 400 من مواطني تلك المنطقة انطلقوا بدافع الشعور بالمسؤولية الدينية والانسانية تجاه اخوانهم الفلسطينيين. لم يرفع اولئك اي شعار آخر، ولم يتطرقوا للاوضاع السياسية المأساوية في المملكة العربية السعودية. مع ذلك لم ترحمهم المجموعات التي تتصرف بذرائع دينية تحلل قتل المتظاهرين لا يقرها الدين. وثمة فرق بين انتفاضة جهيمان العتيبي في 1979 الذي احتمى مع اكثر من 400 من اصحابه بالكعبة، مستهدفا النظام السعودي، والمسيرات الاحتجاجية السلمية اللاحقة. فقد كانت تلك الانتفاضة تمردا مسلحا يستهدف اسقاط النظام. وبغض النظر عن شرعية تلك الحركة او عدم شرعيتها، فقد يرى البعض مبررا لقمعها بالقوة العسكرية. ولكن ما تزال التساؤلات تتردد عن مصدر شرعية الاستعانة بالقوات الفرنسية آنذاك التي اقتحمت المسجد الحرام وقتلت أغلب أفراد المجموعة. ولم يتم التحقيق قط في تلك المجزرة، او مجرزة الحجاج الايرانيين بعدها بثمانية اعوام. ولم تكن قوات الامن السعودية اقل قمعا عندما تصدت العام قبل الماضي للاحتجاجات في منطقة نجران بضرب المشاركين فيها واعتقال العديد منهم. جاءت تلك الاحتجاجات بعد ان اقتحم عدد من عناصر هيئة 'الامر بالمعروف والنهي عن المنكر' مسجدا للاسماعيليين وصادروا كتبا منه، واتهموهم بالشرك. وبرغم تقديم زعماء الطائفة الاسماعيلية رسالة احتجاج ومطالبة بالتحقيق للامير مشعل بن عبد العزيز، أمير نجران، الا ان ايا من عناصر الهيئة لم يتم توقيفه او محاسبته حول تلك الاعتداءات. ولم يعرف قط ان القضاء السعودي نظر في قضية أي من المواطنين الذين يتعرضون للقمع على ايدي تلك الهيئات. فـ 'المحاكم الشرعية' تؤسس احكامها على 'الايمان والشرك' فمن خالف القوانين الرسمية اعتبر مشركا وقطع رأسه، بدون مرافعات قانونية من محامين أكفاء. وتقدر منظمة العفو الدولية عدد الذين قطعت رؤوسهم في العام 2007 بـ 157 شخصا. بينما بلغ عددهم العام الماضي حتى شهر آب (اغسطس) 71. وما تزال قضية الفتاة من المنطقة الشرقية التي تعرضت العام الماضي للاعتداء والاغتصاب تكشف مدى الظلم الذي تمارسه تلك الهيئات. فبدلا من انزال العقوبة بالمعتدين عليها، اصدرت 'المحكمة الشرعية' حكما بسجنها عاما واحدا، الامر الذي أثار ضجة عالمية اجبرت المسؤولين على اصدار اوامر بالافراج عنها. وفي الاسابيع الاخيرة، تواترت الانباء عن اعدام ستة من المواطنين العراقيين على ايدي السلطات السعودية بعد تقديمهم لمحاكمات صورية، بتهم ترتبط بمعاملات بيع وشراء. فالمعروف ان حدود المملكة مع جيرانها متداخلة ويقطن فيها آلاف البدو الذين يعبرون الحدود يوميا وفق العادات القبلية القديمة. وخلال هذه التنقلات تتم عمليات بيع وشراء وتعقد صفقات حول الماشية بشكل خاص. ووفقا لبعض التقارير فقد اصدرت المحاكم السعودية احكاما قاسية باعدام العديد من العراقيين الذين عبروا الحدود واجروا معاملات مع البدو السعوديين. وحدثت مشادات ادت الى تصعيد السعودية الضغط على العراقيين. ووفقا لبعض التقارير فهناك اكثر من 600 عراقي في السجون السعودية تم اعدام بعضهم في الفترة الاخيرة. وقد احتج العراقيون مؤخرا امام السفارات السعودية في عدد من العواصم الاوروبية مطالبين بوقف الاعدامات والافراج عن السجناء العراقيين. هذه الممارسات توضع احيانا ضمن اطر مذهبية وطائفية، الامر الذي يضعف الاهتمام بها او يجعلها في نظر البعض قضايا مشروعة كثيرة الحدوث في الدول الاخرى. بينما الواقع ان هذه القضايا بعيدة عن الخصوصيات المذهبية او الطائفية، وان الحكم السعودي يعامل كل من لا ينتمي الى المذهب الوهابي باعتباره مارقا عن الدين. وهذه من القضايا التي تنتقد المملكة بشأنها كثيرا في المحافل الدولية. وجاءت التعديلات الوزارية التي قام بها الملك عبد الله الشهر الماضي لتضفي اهتماما بالمجلس الاعلى للقضاء الذي كانت عضويته محصورة بعلماء الوهابية. وقد امر بتوسيع العضوية لتشمل تعيين ممثلين عن الشافعية والمالكية والحنبلية. ويحتج المسلمون الشيعة الذين تصل نسبتهم السكانية الى الخمس، على عدم تمثيلهم في مثل هذه الهيئات. والاسماعيليون لا يحظون بتمثيل في تلك المجالس ايضا. ثمة عوامل عديدة تجعل من الاضطرابات الاخيرة مصدر قلق وازعاج للحكومة السعودية، وتستدعي تعاطيا جادا مع مسبباتها. فهناك اولا مطالبة دولية للحكم السعودي بالاصلاح الداخلي، وقد طال انتظار ذلك، وراهن الكثيرون على الملك عبد الله للقيام بتلك الاصلاحات، ولكن شيئا حقيقيا من ذلك لم يحدث. فما تزال الجزيرة العربية محكومة بنظام لا يؤمن بالتعددية ولا يسمح بانتخابات تؤدي الى مشاركة شعبية في تشكيل الحكومة، ولا يضمن حقوق الاقليات الدينية، ولا يسمح للمرأة بحقوقها سواء ضمن الاطر الدولية ام التعليمات الاسلامية. ثانيا ان تقرير وزارة الخارجية الامريكية الذي صدر الاسبوع الماضي حول حقوق الانسان في العالم أفاد باستمرار تقييد حرية التعبير والاجتماع والحرية الدينية وعدم شفافية النظام القضائي. ولفت التقرير الى تواصل العنف ضد المرأة وشيوع التمييز على أساس النوع. وتطرق تقرير الخارجية الامريكية الى هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (الشرطة الدينية) متهما الجهاز بانه يعمل بدون خوف من العقاب. وفي ما يتعلق بالفساد في السعودية اوضح التقرير ان المعلومات عن الفساد الحكومي أصبحت متاحة على نحو متزايد، وجاءت حوادث المدينة لتؤكد ما جاء في التقرير. ثالثا: ان الموقف السعودي المشين خلال العدوان الصهيوني ضد غزة أضعف موقفها السياسي خصوصا ان رهانها على هزيمة الجانب الفلسطيني لم ينجح، واتضح هشاشة دورها الاقليمي وعجزها عن التأثير على ما يجري على حدودها. وجاءت فتاوى علمائها خلال العدوان بتحريم المظاهرات المنددة بالعدوان والداعمة للجانب الفلسطيني، لتؤلب الموقفين العربي والاسلامي ضدها. ويمكن القول ان السعودية خسرت ما لديها من رصيد وهيبة بسبب سياساتها خلال العدوان، ومن الصعب استعادة الموقع بسهولة خصوصا مع استمرار القمع الداخلي والموقف الدولي الضاغط عليها للخروج من شرنقة الاستبداد والقمع. رابعا: ان التراجع الاقتصادي عموما وانخفاض عائدات النفط (الناجم هو الآخر عن قيام المملكة باغراق السوق بالنفط)، أضعف موقفها الداخلي والخارجي على حد السواء. فهناك الآن حالة من التململ في القطاع الاقتصادي الداخلي بسبب تجميد المشاريع الكبرى وتقليص انفاق الدولة على مشاريع البنية التحتية وحالة الكساد التي تسود السوق. في مثل هذا الوضع فان الاضطرابات السياسية لا تخدم الحكم السعودي، بل تجذب الاضواء الاعلامية لما يجري في المملكة، فتنكشف معها مواقع الضعف السياسي والاقتصادي معا. خامسها: ان الصراع على النفوذ الذي تخوضه المملكة اصبح عاملا ضاغطا على سياساتها، ويضطرها لاخماد كافة بؤر التوتر الداخلية. المملكة تسعى لممارسة قدر من النفوذ الاقليمي ولكن ذلك لم يعد ممكنا لان حلفاءها في لبنان فشلوا في ضمان مواقعهم، واصبحوا عرضة للنقد وضعف الاداء. وعلى صعيد مجلس التعاون فالواضح ان النفوذ السعودي بدأ ينحسر مع تعدد مراكز القوى وعواصم القرار، كما هو الحال مع قطر. وتبدو السعودية في ظل اوضاعها المتوترة شبه مشلولة ازاء ما يجري في محيطها. ان حكومة الرياض ترتكب خطأ فادحا بالسماح لبؤر التوتر بالاستمرار في الاشتعال. ومن الأجدى لها تقليم أظافر عناصر هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اصبحت سببا لاشمئزاز الكثيرين. فالتيارات الليبرالية تتأفف من دور هذه الهيئات القمعية، وأتباع المدارس الفقهية الاخرى، سنية وشيعية، لم تعد تحتمل ممارساتها، ولا تقر فتاوى 'مجلس كبار العلماء' او مواقف مجلس القضاء الاعلى، وكلها تخضع لنفوذ التيار الوهابي الذي لا يحظى بقبول واسع بين المسلمين. مشكلة الحكم انه يستمد قوته من تحالف تاريخي بين البيت السعودي والمذهب الوهابي، ويرى صعوبة فك الارتباط وتفكيك العلاقة في ما بين الطرفين. ومع استمرار التوتر الداخلي في اوساط العائلة المالكة حول قضايا الاستخلاف، خصوصا مع تردي الاوضاع الصحية لولي العهد، الامير سلطان بن عبد العزيز، فان من غير الحكمة للبيت السعودي السعي لتوسيع دائرة النفوذ، ومن الافضل له الابقاء على ما هو متوفر بدون اثارة الآخرين. كان الأولى للحكم السعودي اتخاذ خطوة الى الوراء خلال اجتياح غزة، وعدم التسابق مع دول كايران حول الدور الاقليمي، او التمدد افقيا باتجاه باكستان ومحاولة اعادة الخطوط المقطوعة مع 'طالبان'. كما تجدر بهم اعادة النظر في الكثير من السياسات والمواقف التي تنظم العلاقة مع اتباع المذاهب والاديان الاخرى، على اسس من الاحترام المتبادل وتعميق الشورى كممارسة سياسية في بلد يئن تحت وطأة الاستبداد منذ عقود. السعودية مدعوة لاتخاذ خطوة الى الامام باتجاه تطوير حقوق الانسان وتعميق الممارسة الديمقراطية والابتعاد عن اثارة اسباب التوتر بين الجاليات المسلمة. فمن الخطأ الكبير التشبث بروح الاستعلاء او الانطلاق على اساس القوة المفرطة لبلد يمتلك اكبر اقتصاد في المنطقة. مطلوب ايضا نهضة مدنية لتطوير منظمات المجتمع المدني من جهة، وفتح الابواب امام الجهات الحقوقية والدولية لزيارة المملكة والاطلاع على ما يجري وراء الستار الحديدي في الاقبية والزنزانات. انها ليست دعوة لبيع الاوطان، بل لاصلاح الداخل اولا لاحلال الامن والاستقرار بدلا من التوتر والاضطراب.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |