قصص قصيرة .. أوان الموت

 

حجي خلات المرشاوي

Hajikh2009@yahoo.com

زوبعة يومية

الكأس الرابعة على وشك النفاذ. جرعة واحدة و ينتهي مناخ السعادة القلق. ترتفع نسبة الكحول في دمه فيفترض مع نفسه انه بنى بيتاً ليمارس رجولةً صعبة ممارستها في مكان آخر. يثير نفس الزوبعة و يدعو زوجته للفراش لكنها ترفض باستماتة. يشدّها من شعرها، يركلها، يعضّها و يلكمها كيفما اتفق. يفزع الأطفال. يتركون دفء الفراش ليمارسوا ما تعودوا عليه كل ليلة. تنطلق في أجواء الغرفة الخانقة سيمفونية الصراخ و النحيب. يدوس برعونة على التضرعات المسفوحة في محراب الليل المتجهم. يبحث بين ركامٍ من خيباته عن كأس أخرى، فما لاقاه في يومه الطويل لم يفرغ بعد.

 

لن..

لن تفتح الباب حين يمر كسحابة بيضاء. لن تصدق ما يقوله لأنه كاذب. لن يخدعها بكلماته المعسولة وابتسامته الساحرة. لن تواعده أو تخرج بصحبته. لن تجلس معه في غرفة موصودة الأبواب. لن تنزع ما عليها من ملابس تحت وطأة الهجوم الضاري لأصابعه الماجنة. لن تفقد توازنها تماما و ستظل تتحكم بسير العملية. لن تسمح للشهوة القاهرة أن تنفلت من عقالها. لن تبكي وهي تمسح آثار الجريمة المتشبثة بمساماتها. لن تتوسل به أن يجد حلا للجنين الذي يكبر يوما بعد يوم. لا، لن تفعل كل هذا.

 

خمسة كؤوس

بعد الكأس الأولى جدّف على الإله و تحداه. بعد الكأس الثانية لعن الوطن و رموزه. بعد الكأس الثالثة شتم بلدته و ناسها. بعد الكأس الرابعة اشبع نفسه سبابا. بعد الكأس الخامسة حاول جاهدا أن يلحق بنملة وخزته، فلم يستطع.

 

شَبَه

بعد مرانٍ شاق أمام المرأة استطاعت أن تقلد دلع (هيفاء وهبي) و ابتسامة (نانسي عجرم) و مشية (أليسا). عندما التقت حبيبها استعرضت بشكل مدروس و متقن مفاجآتها الجديدة. نظر إليها مبهورا و قال: أنت اليوم أشبه ما تكونين بأمي رحمها الله!.

 

إنذار

من نظرة واحدة عرفتُ أنها تريد التحدث معي على انفراد. تركت ما في يدي لمساعدي و اتجهت نحوها. ارتجفت يداها و هي تضع (الوصفة) أمامي. أدركت من نوع الدواء أنها تعاني من عدم القدرة على الحمل. أصابت نظرتها المكسورة جرحا لطالما حاولتُ إخفائه فتأججتْ مشاعر العطف في قلبي. حاولتُ أن ازرع الثقة فيها فأخبرتها مشفقاً إن زوجتي تعاني من نفس الأعراض. صمتتْ و كأنها قد سئمتْ ترياق الشفقة الذي تحقن به بين الحين و الآخر. ارتعشتْ شفتاها و انبلجتْ دموع خجلى من عينيها. قالت: و هل أنذرتها إنذارا نهائياً مثلما فعل زوجي؟

 

غفران

سألغي ذاكرتي تماما و القي بتاريخي في اقرب مزبلة. لن أفكر في بيت هجرته مرغما دون أن تتاح لي فرصة لأضع في احد أركانه عربونا خجلا بالعودة يوما ما. سأشطب كل ما يذكرني بماض جميل و لن اسمح لفكري أن يسرح في مرتع الطفولة و أصدقاء الحي و الكرة الصغيرة و الساحة الترابية التي أدمت حجارتها قدمي. سأمحو كل اثر لابتسامة أبي حين جئته احمل شهادة تخرجي. سأنسى تمتمات أمي و ركعاتها الخمس في كل يوم تتحقق فيه معجزة بقائنا أحياء. سأفعل و الله كل هذا حينما استطيع أن اغفر لهم ذبح حبيبة عمري و امرأة حياتي أمام عيني.

 

فضاء آخر

من كل ذلك الإرث لم يتركوا لي سوى بلبل اشتريته حينما كانت الحياة ممكنة. بعد أسبوع من سقوط (هبل) ارتدتْ زوجتي الحجاب و رمتْ فراشي في غرفة أخرى. في السنة الثانية اختفتْ الكتب و دواوين الشعر و اسطوانات الموسيقى و اللوحات الزيتية مع تواقيع أصحابها من مكتبتي. بمرور عام آخر أطلق أولادي الأربعة لحى كثة خدّشت امتداداتها الحادة دائرة أبوتي و جردتني من كل سطوة. حتى بناتي الأربع صرن يحدثنني من وراء أبواب مقفلة و ينهمكن ليل نهار بغسل كل شيء تلمسه يداي. انضغط عالمي المترامي الأطراف سريعا و لم اعد املك إلاّ مساحة تواصل ضيقة مع ذلك الطائر الهزيل أبثه ألمي و لواعجي. شعروا بأن ثمة مؤامرة تحاك ضدهم، لأنهم لم يفهموا لغة التخاطب بيننا. في النهاية وجدتُ نفسي إمام أمرين، فإما أن احبس نفسي داخل القفص أو اذبح صديقي الوحيد مرغما. اطمئنوا، فقبل أن تنغرس السكين التاسعة في لحمي المتبل بترياق جنتهم كان البلبل يحمل وديعتي و يحلق في فضاء آخر.

 

زيف

كل من يصادفه في الشارع لا يعلم بما يدور في خلده هذه اللحظات. هو وحده يعرف ما سيحدث في تلك الغرفة الفارهة حيث ترك زوجة جميلة بمعيّة تاجر هرم متصابي. لم تهزه قيد شعرة (غيرة) الرجل على (عرضه) و لا الطريقة المذلة التي خرج فيها من ذلك القصر المنيف. لكن ما زلزله فعلا هي تلك السرعة المذهلة التي وافقت فيها الزوجة على أن تكون كبش فداء لتسديد دينٍ بمئات الألوف. هو يدرك تماما  انه سليل أصل وضيع، خَدَمتهُ ظروف شاذة على القفز عاليا و تذوق شهد الأغنياء لبرهة، لكنه لن يتقبّل أبدا عدم إبداء أية ممانعة من قبل الإنسانة التي أفنى عمره في سبيل إرضائها. لن يجرؤ على تخيّل المشهد هناك فصورة واحدة تكفي لذبحه آلاف المرات. ماذا سيقول لها و ماذا ستقول له حين يلتقيان و يبحث في زيف عينيها عن خواء رجولته. تبدو العودة إلى البيت ضربا من المحال و يلوح النهر من بعيد حانيا و قادرا على إخفاء الكثير.

 

أوان الموت

في الصباح، اقتحم الملثمون بيته و وجهوا بنادقهم نحوه. ابتسم مثل مولود جديد و قال: ابتعدوا، إن فيروز تغني. 

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com