|
غزة: وهمية أم حقيقية
بقلم: إيلان بابي* "ينشر بالتعاون مع فريق الترجمة في شبكة العلمانيين العرب ترجمة: نائل جرجس مدخل للمترجم : لم تردع الاجراءات القاسية، التي اتخذتها الحكومة الاسرائيلية ضد المفكر الاكاديمي الاسرائيلي ايلان بابي، كتاباته المنددة والفاضحة للممارسات الهمجية للاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينين. فبعد كتابه الأخير بعنوان: التطهير العرقي في فلسطين الصادر في عام 2007، ها هو يصدر مقالا جديدا يتحدث فيه عن التخطيط المسبق للهجوم على غزة والمراحل التي مرت بها غزة وشعبها قبل العدوان الأخير. ويبين في هذا المقال أيضا حقائق موثقة بتصريحات صانعي القرار في الدولة العبرية. في عام 2004، بدأ الجيش الاسرائيلي بناء مدينة عربية وهمية في صحراء النقب. وهي بحجم مدينة حقيقية، فيها شوارع، مساجد ، مباني عامة، وسيارات ( بأسماء معينة)… تم بناء هذه المدينة بتكلفة 45 مليون دولار، و قد أصبحت هذه المدينة الشبحية غزة الوهمية في شتاء عام 2006، بعد أن قاتل حزب الله اسرائيل حتى انسحابها من الشمال، بحيث يمكن لجيش الدفاع الإسرائيلي الاستعداد لخوض "معركة أفضل" ضد حماس في الجنوب. عندما زار رئيس الاركان الاسرائيلى دان حالوتس هذه المدينة بعد حرب لبنان، قال للصحافة أن الجنود كانوا يستعدون لهذا السيناريو بحيث أنهم سوف ينتشرون بكثافة في مدينة غزة. بعد مرور اسبوع على قصف غزة، ايهود باراك شارك بحضور الاستعراض لحرب برية. وأثناء ذلك صورته إحدى طواقم التلفزيونات الأجنبية أثناء مشاهدته لقوات برية اسرائيلية تقوم بغزو هذه المدينة الوهمية، وتقتحم منازلها الخالية وبدون شك تقتل الارهابيين الذين يختبئون فيها . في عام1967، قال ليفي اشكول الذي كان رئيس وزراء إسرائيل أن "غزة هي المشكلة" ، وأضاف : " كنت موجودا في سنة 1956 ورأيت سم الأفاعي يسري في الشارع. وأضاف: ينبغي لنا أن نضع قسما منهم في سيناء ، ونأمل أن يهاجر الآخرون ". اشكول كان قد ناقش أيضا مصير الاراضي المحتلة مؤخرا : هو وحكومته أرادوا قطاع غزة، ولكن بدون الناس الذين يعيشون فيه. الاسرائيليون غالبا ما يشيرون إلى غزة بوكر الثعابين. لقد كان سكان غزة يوصفون بطريقة أكثر إنسانية قبل الانتفاضة الأولى، عندما كان القطاع يزود تل أبيب بالعمال الضروريين لغسل الأطباق وتنظيف الشوارع،. " شهر العسل " هذا قد انتهى خلال الانتفاضة الأولى، وذلك بعد سلسلة من الحوادث قام خلالها عدد قليل من هؤلاء الموظفين بطعن أرباب عملهم. الحماس الديني الذي كان قد استعمل ليسبب هذه الهجمات المنفردة قد ولّد موجة من الشعور بكره الإسلام في إسرائيل، والذي أدى إلى أول تطويق لغزة وبناء سياج كهربائي حولها. وحتى بعد اتفاق اوسلو عام 1993، بقيت غزة معزولة عن اسرائيل، وكان تستخدم طوال فترة التسعينيات كمجرد بقعة لاستقطاب العمالة الرخيصة، " السلام " لغزة يعني تحولها التدريجي إلى حي لليهود. في عام 2000 ، بدأ دورون ألموغ، الذي كان قائدا للمنطقة العسكرية الجنوبية في ذلك الوقت، بمراقبة حدود غزة، وقد قال حينها باعتزاز: " أنشأنا نقاطا للمراقبة مزودة بأفضل التكنولوجيا وصرحنا لقواتنا باطلاق النار على كل من يقترب من السياج على مسافة ستة كيلومترات "، مقترحا أن يتم اعتماد سياسات مماثلة في الضفة الغربية. ويذكر أنه في خلال العامين الماضيين فقط، مئات الفلسطينيين كانوا قد قتلوا على أيدي الجنود لمجرد اقترابهم من هذه الأسوار. منذ عام 2000 وحتى إندلاع الحرب الحالية، قتلت القوات الاسرائيلية في غزة ثلاثة آلاف فلسطيني من بينهم 634 طفل. بين عامي 1967 و 2005 ، تم سلب أراضي غزة ومياهها من قبل مستوطنين يهود في غوش قطيف على حساب السكان المحليين. وبذلك كان ثمن السلام والأمن للفلسطينيين بأن يسلموا أنفسهم للسجن والاستعمار. ولكن منذ عام 2000، سكان غزة اختاروا بدلا من ذلك المقاومة بأعداد أكثر وبقوة أكبر. لم تكن المقاومة من النوع الذي يمكن أن يوافق عليه الغرب : كانت مقاومة إسلامية وعسكرية. وكانت سمتها المميزة استخدام صواريخ القسام البدائية، والتي كانت قد أطلقت في بادئ الأمر على المستوطنين في قطيف. على أي حال وجود هؤلاء المستوطنين جعل من الصعب على الجيش الاسرائيلي الرد بنفس الوحشية التي يستخدمها ضد أهداف فلسطينية بحتة. ولهذا السبب تم اجلاءالمستوطنين، ليس كجزء من عملية السلام من جانب واحد كما فسرها البعض في ذلك الوقت (لدرجة اقتراح منح جائزة نوبل للسلام لارييل شارون)، ولكن جاء ذلك تسهيلا لأي عمل عسكري لاحق ضد قطاع غزة و لتعزيز السيطرة على الضفة الغربية. بعد فك الارتباط عن غزة، حماس تولت السلطة فيها، بانتخابات ديمقراطية أولا، ومن ثمّ في انقلاب وقائي تم تنظيمه لتفادي سيطرة فتح عليها بدعم أمريكي. ومن ناحية اخرى، واصل حرس الحدود الاسرائيلي بقتل كل من يقترب، بالاضافة الى فرض حصاراقتصادي على قطاع غزة. وقد ردت حماس باطلاق الصواريخ على بلدة سديروت، مما أعطى إسرائيل ذريعة لاستخدام القوة الجوية والمدفعية وطائرات الهليكوبتر الحربية. فقد زعمت إسرائيل أنها تتعرض لإطلاق النار من (منصات لإطلاق الصواريخ) ولكن هذا يعني من الناحية العملية بأن الإطلاق يتم من أي مكان وفي كل مكان من قطاع غزة. الخسائر البشرية كانت كبيرة : في عام 2007 وحده تم قتل ثلاث مائة شخص في قطاع غزة ومن بينهم عشرات الأطفال. اسرائيل بررت تصرفها هذا في غزة كجزء من حربها في مكافحة الإرهاب، على الرغم من أنها كانت نفسها تقوم بانتهاك كل قانون دولي للحرب. الفلسطينيون، على ما يبدو، لا يمكن أن يكون لهم أي مكان داخل فلسطين التاريخية ما لم يقبلوا العيش بدون حقوق مدنية أساسية و بدون حقوق الإنسان. يمكن أن يكونوا إما مواطنين من الدرجة الثانية داخل دولة إسرائيل، أو معتقلين في السجون الكبرى في الضفة الغربية وقطاع غزة. فاذا كنت مقاوما فمن المرجح ان تكون في السجن دون محاكمة، وإلا القتل. هذه هي رسالة إسرائيل. المقاومة في فلسطين كانت دائما تقوم في القرى والبلدات؛ من أين أيضا يمكن أن تأتي ؟ وهذا هو السبب في أن المدن الفلسطينية والبلدات والقرى، الحقيقية أو الوهمية، قد وصفت منذ الثورة العربية عام 1936 بأنها (العدو الأساسي) في الخطط والأوامر العسكرية. أي إجراء انتقامي أو عقابي لا بد أن يستهدف المدنيين، الذين لايكون بينهم إلا عدد قليل من الأشخاص الذين يشاركون في المقاومة بنشاط ضد إسرائيل. حيفا كانت تعامل كقاعدة عدوة في عام 1948، كما كانت تعامل جنين في عام 2002، الآن بيت حانون ورفح وغزة يعتبرون كذلك. عندما يكون لديك القوة النارية، بدون أي رادع أخلاقي لممارسة المجازر ضد المدنيين، ستحصل هكذا أوضاع نشهدها حاليا في غزة. الرد الغربي الحالي يشير إلى فشل القادة السياسيين برؤية الصلة المباشرة بين الصهيونية التي تجرد الفلسطينيين من انسانيتهم وبين السياسة البربرية الوحشية لاسرائيل في غزة. بات هناك خطر شديد أنه، في ختام "عملية الرصاص المصبوب"، غزة نفسها سوف تشبه مدينة أشباح في صحراء النقب. لكن ليس وحده الخطاب العسكري يجرد الفلسطينيين من انسانيتهم. ولكن الأمر كذلك في أماكن العمل في المجتمع المدني اليهودي في اسرائيل، وهذا ما يفسر الدعم الهائل للمجزرة المرتكبة في غزة. الفلسطينيون مجردون من انسانيتهم من قبل يهود إسرائيل – سواء كانوا من السياسيين، من الجنود أو من المواطنين العاديين- بحيث يعتبر قتلهم أمر طبيعي، مثله مثل طردهم في عام 1948، أو سجنهم في الأراضي المحتلة. * إيلان بابيه هو رئيس قسم التاريخ في جامعة اكستر، والمدير المشارك لمركز الاكستر للدراسات السياسية الإثنية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |