|
أدباء ومثقفوا "هارون الرّشيد" في عــراقنا الجــديد
ما هي طبيعة المشهد الثقافي العراقي الحالي؟ وهل استطاعت هذه الثقافة ونخبة المثقفين الذين وصلوا إلى مراتب في المسؤلية "كإتحاد الأدباء والكُتاب العراقيين" و"وزارة الثقافة" من أن يهيئوا الثقافة العراقية لمرحلة التغيير الديمقراطي الذي ننتظره؟ المؤسف لحد الآن هوأن هناك حاجزا كبيرا جدا بين السلطة وبكل مكوناتها من شخصيات سياسية وأحزاب وبين الطبقة المثقفة العراقية التي تمتلك رصيدا ثقافيا ولكنه غير عملي على المستوى السياسي إلا بشكل محدود، والمشكلة هنا أن السياسي هوالذي يفرض شروطه الفكرية على الثقافي لكون الأخير لا يملك المال والسلطة وبالتالي يجد نفسه محصورا بين ضغط الواقع المؤلم والمباديء التي يؤمن بها وشروط السياسي التي تناقض مبادئه. فالمثقف يؤمن بالإنسانية ـ مثلا ـ لكن السياسي يفرض عليه وجهة نظر "قومية" ـ مثلا ـ تنتهي بالعنصرية التي هي نقيض المبدأ الإنساني، وتحت ضغط الواقع المرّ يعيش المثقف صراعا نفسيا حقيقيا بين أن يكون "مثقفا" في خدمة الشعب وحقوقه وأن يصبح "مرتزقا" على باب السياسيين ليقدم ثقافته كـ"سلعة" مخدرة يضحك بها السياسيون على أبناء البلد، وبالتالي يخسر المثقف حقيقته كمثقف. والمثقف يؤمن بالحرية وكسر الحواجز الدينية والتقليدية لكنه يجد نفسه في مواجهة "السياسي الذي يتاجر بالدين" والسياسي القومي العنصري "الذي يرسخ العرق العشائري ويقتل المرأة"، ولأن غالبية أبناء الشعب لا يتذوقون الثقافة ويبتلعون الشعار السياسي والديني بكل سهولة، فالمثقف يجد نفسه مرة أخرى في موقف لا يُحسد عليه. ومشكلة النخبة الثقافية العراقية القريبة من السلطة ـ اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين خير نموذج ـ أنها حشرت نفسها في الأدب الرمزي "الشعر والقصة والرواية" وهوما لا يناسب عراق الديمقراطية والحرية، ولكنه قد يتناسب مع السياسي الطموح إلى المزيد من السيطرة والهيمنة والنفوذ وإضفاء حصانة عن النقد لنفسه، فهذه النخبة الثقافية همشت الفلسفة ونقد التاريخ ونقد المجتمع بكل مكوناته، رغم أن هذه المجالات الأدبية هي صاحبة التغيير الحقيقي دون تلك النصوص الرمزية التي لا تتناسب إلا وعهد الدكتاتورية والكبت تحت المسميات الدينية والقبلية. إن غياب المثقفين والثقافة عن الساحة السياسية مرده إلى أن الأدباء والمثقفين ـ والاستثناءات لا تنفي القاعدة ـ تعاملوا مع ثروتهم الثقافية وكأنها واحدة من أدوات التسلية والترف، وهذه النوعية من الثقافة (الخيالية الرومانسية) لا تناسب الظرف الحالي للعراق، حيث جبال من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وفقدان الأمن والاستقرار اللذين بالكاد بدءا يسودان البلد وبخطوات بطيئة، فالشعوب الديمقراطية والمرفهة والمتطورة هي التي ترى في هذا الأدب قفزة نحوعوالم أخرى غير مكتشفة ولم تكتشف بعد. لقد نئى المثقفون الذين هم في الصدارة بأنفسهم عن السياسة وشؤون الحكم، ونحن لا نعني هنا أن يكون المثقف عضوا في حزب ومنظمة سياسية بقدر ما نريده صاحب موقف، فالفدرالية والنظام الجمهوري والملكي وطبيعة الفلسفة التي يحتاجها البلد، كل ذلك وأمور أخرى كثيرة هي من اهتمامات المثقفين وبالتالي لا معنى للسياسي إذا كان معزولا عن الثقافة ولا معنى للثقافة إذا لم تتداخل مع أحلام الناس ومصالحهم ورغباتهم، بينما نجد أدباءنا ومثقفينا يحاولون جهد الإمكان أن يعزلوا أنفسهم عن هذه المصطلحات، وهذا الموقف يُذكرني بمواقف رجال الدين، فهم إما أن يُحولوا الدين إلى سياسة ويعزلوا أنفسهم كليا عن السياسة، والأكيد أن كلا الموقفين سلبيان، فعلى الأديب والمثقف أن يهتم بالسياسة لا أن يستغل ثقافته وقناعاته لتكون تبعا للسياسة. إن المثقف العراقي عموما مال إلى تهميش نفسه وساعده السياسي في ذلك عندما فرض شروطه على المثقف، وهكذا تحولت الثقافة إلى مصطلح سلبي معزول عن الحياة بدلا من أن تكون الثقافة انعكاسا ومنبعا للحياة، لذلك نجد أبناء الشعب ينظرون إلى المنتديات الثقافية والأدبية كجمعيات للإسترزاق وللوصول إلى المال وقطع الأرض والرواتب التقاعدية، فالثقافة العراقية وخصوصا التخبة لا تزال تعيش عقلية "الفن لأجل الفن" و"الثقافة لأجل الثقافة"، ومعلوم أن هذه العقلية لا تصنع أدبا يحتضنه الشعب، نعم قد يحتظنه المسؤلون والسياسيون، كما يحتظنون أي تحفة وقطعة أثاث مرمية في قصورهم، ولكن هذا لا يعني أنها ذات قيمة حقيقية، وقد كان هذا سمة الأدب الشرقي القديم في العراق خصوصا العهد العباسي، هارون الرشيد تحديدا، ولكن هذه الثقافة لا قيمة لها الآن ما دامت لا تغير واقع الشعب، وعلى اتحاد الأدباء والكتاب مراجعة هذا الانحراف وإلا فإن العراق كله سيرجع إلى عهود الظلام وإخفاق وزارة الثقافة لحد الآن يقع في الأغلب على عاتق المثقفين وأدبهم وثقافتهم السلبية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |