|
خالص عزمي في الخمسينات والستينات كان لي حضـور في الجانب الادبـي من القسم العربي من اذاعة بي بــي سـي ( بوش هاوس )، حيث القيت بعضا من نتاجي الذي توزع على الوان ادبية متنوعة، وبطبيعة الحال، كنت التقى في الكافيتريا او في اروقة ومكاتب الاذاعة بوجوه معروفة كان لها دورها البارز في تطوير البرامج وشد المستمعين اليها، وذلك لما اتسمت به تلك الكوكبة من ثقافة عامة عالية ولغة عربية صافية ونطق سليم، وصوت رخيم ، كالاساتذة ( حسن سعيد الكرمي، ومنير شما، والطيب صالح،والفنان محمود مرسي وماجد سرحان وهدى الرشيد وجمال فارس وسامي حداد ومديحة رشيد المدفعي وايوب صالح وجميل عازر ... وغيرهم ) . كان الطيب صالح مشرفا يومها على الدراما في الاذاعة، وكان كبار الممثلين المصريين يتقاطرون حوله ويرتاحون لاسلوبه في التعامل من امثال يوسف وهبي، وعباس فارس ومحمود السباع، ومحمود المليجي، وامينة رزق، ومحمد توفيق، وامينة نو الدين، وفاخر محمد فاخروفتوح نشاطي وفردوس حسن، وسليمان نجيب و عبد الوارث عسر وعمر الحريري ...الخ (1) وكنت اجد في بعض ما يتاح لي من لقاءات بمثل هؤلاء النجوم، ضالتي في معرفة نشاطاتهم في الفن والحياة . وكنت كلما اقتربت من الطيب صالح كلما ازدت اعجابا بدماثة اخلاقه وصدقه واخلاصه . كان الراحل الاديب و المؤرخ اللبناني ادورد عطية ( وقد كان استاذا للتاريخ في كلية جوردون في الخرطوم ) و مؤلف كتب ( العرب،عربي يحكي قصته، الخط الرفيع، حمار من الجبل، والطليعي الاسود ... الخ ) اول شخص يعرفني على الطيب صالح قبل ان يشتهر كروائي بارز . كانت لقاءاتي بالطيب، قليلة نسبيا، ولكن لقاءا مهما منها كان له صداه في نفسي وحببه اليّ: كان ادور عطية قد تعاقد على انتاج روايته ( الخط الرفيع ) في بريطانيا سينمائيا، فأراد ان يستشير بعض ذوي الخبر في الشأن، فكان ان دعا كلا من صديقه الممثل المسرحي والسينمائي المعروف جون ميلز (و كان لتوه قد حصل على جائزة من مهرجان البندقية لعام1960 وذلك عن فلمه الذي نال تقديرا من الجمهور والنقاد أو الحان المجد، وكذلك الشاعر خليل حاوي الذي كان يحضر للدكتـوراه Tunes of Glory ، والاديب الطيب صالح، وكاتب السطور لتناول طعام العشاء في فتدق ( دي فير ) في ( هاي ستريت كنزجتن )، وحينما التأم الجمع طرح علينا عطيه ما استعصي عليه فهمه من مشاكل صناعة الافلام :، كان اول المتحدثين الفنان ميلز، فأعطى فكرة موجزة عن كتابة السيناريو وصعوبة تنفيذ النص اذا ما كان غير مختص بنوعية الفيلم الذي يريد اخراجه اضافة الى قدرته على ضبط الممثلين من حيث الحفظ والاداء، وكذلك بقية عناصر الانتاج كالتصوير والاضاءة وما الى ذلك .....وبابتسامة جذابة ابدى ميلز اكتفاءه بما قال، عندها تعاقب المتحدثون بنثر ما عندهم من معلومات حول الموضوع ، اما الطيب صالح الخبير المتمكن في الاعمال الدرامية فقد شرح بالتفصيل وجهة نظره حيث ركز على جانبين اساسيين هما :ضرورة اختيار المخرج الذي يمتلك خبرة في المجال الذي تدور فيه أحداث الرواية؛ اضافة وجوب عدم التقتير في ميزانية الانتاج، وضرب على ذلك امثلة واقعية على فشل بعض الافلام بسبب شحة الميزانية على الرغم من متانة القصة وكفاءة الممثلين والكادر التقني . عند الساعة العاشرة مساءا، خرجنا من الفندق، وقد زدت اعجابا بذلك التحليل الدقيق الذي قدمه الطيب في كل ما يتعلق بمجريات واشكاليات أعداد وتنفيذ الاعمال الدرامية على مختلف الاصعدة . تميز الطيب صالح بعشقه العميق لوطنه السودان واصالته العربية، كما كان شديد التعلق بقريته كرمكول من اقليم مروى، والذي يطلع على عمق ثقافته وحداثة تفكيره، يتعجب كثيرا من المامه المكثف بكل ما يدور من تفاصيل يومية دقيقة حول اسلوب معيشة وعمل قبيلته الركابية، علما بان احاديثه في هذا الشأن تبتعد تماما عن التعصب والشوفينية،وتتصل كثيرا بايمانه الذي لا يتزعزع والذي يدعو فيه الى وحدة وقوة الوطن وتماسك شعبه . وان عشقه للسودان هذا ...؛ هو الذي جعله يردد مقولته ويؤكدها في كل مناسبة، وموجزها :ان السودان لم يأخذ حقه في الصدارة التي يستحقها عن جدارة وواقع تأريخي وجغرافي وشعبي .و لعل روايتيه ( عرس الزين ) و ( دومة ود حامد ) بخاصة تفصحان عن ذلك الاعتزاز الحقيقي المنصف. كانت روايته ذائعة الصيت ( موسم الهجرة الى الشمال ) قد صدرت اول الامر في العددين الخامس والسادس من مجلة حوار اللبنانية عام 1966، فلاقت اقبالا واسع النطاق من لدن النقاد والقراء على حد سواء، وقد دفع هذا لاقبال (دار العودة ) في بيروت الى نشرها في طبعة مستقلة، أكتسحت اسواق الكتاب على امتداد الوطن العربي، لتتلقفها بعدئذ دور الترجمة، حيث أخذت طريقها الى العالم . كان اعجابي بالرواية من حيث تفاصيل احداثها ينبع من كوني قد عرفت وعايشت كثيرا من الاماكن التي تتحدث عنها واختلطت كذلك بعدد كبير من الاشخاص الذين يقتربون واقعيا من ابطالها بحكم وجودي في بريطانيا كل تلك المدة الطويلة. لهذا وغيره فقد قرأت الرواية لاكثر من مرة، ثم أبديت وجهة نظري بمقال نقدي مسهب (2 ) نشرته والقيته اذاعيا، ثم ضمنته بعدئذ، الفصل الخاص بالادب السوداني من كتابــــي (حكاية الادب العربي المعاصر) (3)؛ وقد نال ذلك التقييم ثناءا من الكتاب والنقاد وليعاد نشره في بعض الصحف العراقية والعربية، مما دفع بالطيب أن يتصل بي هاتفيا ويقدم لي شكره وامتنانه . هنا لابد من اقتباس ما كتبته في حينه من فقرات ركزت على جانبين اساسيين، يرتبطان بصيغة ونسيج وحبكة الرواية من جهة، وبالجوهر الذي عالجته من خلال افكار منوعة متداخلة تماسكت فيما بينها لتصل الى الغاية الحقيقية التي هدفت اليها : ـ (........ وفي هذا المجال لابد لنا من تناول نموذج حي للآدب الروائي السوداني الجديد، وهذا النموذج يتمثل بشكل واضح ومثير في رواية ( موسم الهجرة من الشمال ) للأديب السوداني البارز الطيب صالح ... في كثير من الاحيان تنفلق في كبد السماء شعل ذات الوان زاهية، تبدأ من منطلق الصوت، ثم تنتشر حزما فخيوطا تتباعد بعد حين لتختفي في المجهول، هكذا تترآءى لي رواية الطيب صالح الملحمة ( موسم الهجرة الى الشمال )، انها تثبت اقدامها في ارض منبتها اول الامر ثم تعود لتتحرك في مساحات واسعة من الامكنة والازمنة . تنتقل معانيها على جمل خفيفة الحركة، مباشرة في المعنى ...من كلام بسيط يتسامر به ابناء الريف، ... الى حديث مثقف الفكرة، عميق العبارة، موزون الكلمة يدور بين صفوة من أولئك الذين درسوا ثقافة العصور، وآداب وفنون وفلسفات الامم .......... الحوار ذكي ينساب بلا تكلف او تأطير، وانما بتخطيط ووعي ومتابعة دقيقة للبناء الدرامي والعضوي للرواية كلها، واللغة تخدم الشخصية ولا تبتعد مطلقا عن فلك ومدار محورها، اي لاتلتقط الشوارد بل تنبعث بأصالة من صميم الحدث مثل لحن هارموني التوزيع . والرواية بعد هذا وذاك، مزيج من الاعتراف الكامل المنسق لانسان بلغ تلك الذروة من الثقافة، اعتراف يتعدى التدرج الزمني الرتيب ليصل الى مراحل متفرقة من الزمن، تتقارب وتتباعد بحسب الانتقالات الذهنية، مرورا بذكريات الامكنة .... في هذه الرواية يبرز اهم لون من الوان البناء الدرامي، : السرد القصصي،، انسياب الحكاية، التداعي النفسي، الحوار المتنقل ما بين الواقع، حينا والذكريات احيانا، ولكن الرواية لاتهتم في ذات الوقت بكلاسيكية التسلسل المعتاد في البناء الدرامي، لافي الحبكة والسرد والايقاع والعرض والعقدة والحل النهائي ... الخ لقد استطاعت رواية الطيب صالح، ان تجسد امامنا و باحكام لاعفوي، بطلها كنموذج حي للريفي وقاد الذهن، مشتعل الذكاء . تتلقفه ثقافات العصور، فيجيد هضمها ويحولها الى مادة تبهر الآخرين أو تحيلهم نارها رمادا او جثثا ممزقة، ثم تصير منه اسطورة خارقة تمثل اكثر مما تعني، وتكذب اكثر مما تصدق، .. وذلك حينما تريد ان توقع السذج في المصيدة . لقد استطاعت الرواية كذلك، ان تحرك مجاميع شخوصها بمهارة واختيار وتتبع طبيعي، لايفتعل الحوادث ولا الحوار، وانما يسوقها باطار صادق ومنطقي : فمحجوب، والعمدة وسعيد التاجر، وود الريس، وجين موريس، وبكري، وبروفيسور ما كسويل، والحاج احمد، وآن همند، وبنت مجذوب، وحسنة بنت محمود، كل هؤلاء يتحركون في افلاكهم، ... حول انفسهم وحول الآخرين، كالشهب والنجوم والاقمار، احاديثهم تنبع من شخصياتهم، والكلام الذي يرددونه يتصل بوثوق تام بأشخاصهم وبالارض التي يعيشون عليها . ان رواية موسم الهجرة الى الشمال، سيمفونية موسيقية، رائعة التركيب والاداء في الادب السوداني الحديث، وملحمة شعرية عالية النفس، انسانية اللمحات .) كان آخر لقاء لي بالطيب صالح في فندق ميليا المنصور، لمناسبة انعقاد مهرجان المربد الشعري عام 1989؛، كان مرحا كعادته ومتواضعا في اسلوب تحاوره . لقد لفت نظري ونحن نجلس في كافيتريا الفندق ، نقده المباشر لكثير مما القي من قصائد في تلك الاماسي الشعرية التي كانت تنظم في قاعة مؤسسة المسرح والسينما المقابلة للفندق . وكان مما ركز عليه ولا انساه ابدا (تفاهة المواضيع، وركاكة اللغة ، وتدني مستوى الخيال الشعري ، مع رتابة في الالقاء )، وقد لاقى هذا الايجاز في التعبير تأييدا وتقديرا من لدن الجالسين الكثر . حينما تفرق الجمع الحاشد من حولنا، و لم يبق من الجالسين على المائدة، غير عبد الوهاب البياتي،الفريد فرج، سعد اردش، الطيب صالح، ووجدها البياتي فرصة ليقترح الابتعاد عن برتكول البرنامج الصاخب ونتوجه الى غرفة في الطابق الثاني تطل على دجلة مباشرة مخصصة للدعوات الصغيرة لنتناول ما لذ وطاب و لنواصل فيها احاديثنا .رحب الحاضرون بذلك .... وكانت سهرة ممتعة تشابكت فيها الاراء النقدية، بالذكريات التي عطرتها احاديث الطيب عن ابعاد وتأثيرات عمله في اليونسكو وبخاصة في منطقة الخليج . ثم توزعت الحوارات الآنية على بساط واسع من الشعر و الفن التشكيلي والموسيقي اما الدراما الاذاعية والمسرحية فقد صال فيها فارسها القدير سعد أردش، فامتدت تلك السهرة الثقافية الى ساعة متأخرة من الليل الغارق بأنوارمشعة متهادية آتية الينا من الضفة الاخرى حيث متنزهات ابي نؤاس . وانها لذكريات عطرة تنثنا بأحاديث من رحل من أؤلئك الافذاذ، او من ينتظر من جيل ما زال يزخر العطاء رحم الله الطيب صالح بقدر ما منح الانسانية من جهد وابداع ------------------------------- (1) صورة نادرة في ستديو الدراما في بي بي سي وقد ظهر فيها بعض كبار الممثلين، وقد وقف خلفهم من جهة اليسار الراحل الطيب صالح وهو في قمة فتوته . (2) خالص عزمي ـ جريدة النور البغدادية ـ العدد 239 في 6/8 /1969 (3) خالص عزمي ـ ص 152 ـ 157 من كتاب حكاية الادب العربي المعاصر ـ دار القلم ـ بغداد
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |