ما هو الموقف المطلوب من المجتمع والدولة إزاء قوى حزب البعث العربي الاشتراكي؟

وما هو المطلوب من الجماعات البعثية؟

 

أ‌. د. كاظم حبيب

 akhbaarorg@googlemail.com

عاشت مجتمعات بلدان كثيرة في العالم تجارب غنية ومريرة ومتفاوتة في الموقف من أحزاب سياسية مارست الاستبداد والشوفينية والعنصرية والطائفية والعنف والقوة والقسوة ضد شعوب بلدانها بشكل عام وضد قوى المعارضة السياسية بشكل خاص وأغرقتهم بالدم والدموع وحملتهم وحملت اقتصادياتهم الوطنية خسائر بشرية ومادية وحضارية بالغة.

عشنا بعض تلك التجارب ولا نزال نعيش بعضها الآخر في دول عربية أو أجنبية,  وقرأنا الكثير عن تجارب أخرى حصلت في بلدان نامية ومتقدمة خلال القرن العشرين ,  واتخذت مجتمعاتها بعد التغيير مواقف عديدة إزاء تلك الأحزاب والجماعات التي مارست تلك السياسات في دولها. وإذ كان البعض منها ناجحاً في التعامل وقدم نموذجاً يمكن أن يحتذى به, كان البعض الآخر فاشلاً وعانت المجتمعات فيه من عواقب ذلك الفشل وفي التعامل مع الأحداث التالية للتغيير.

ومن متابعتي وقراءاتي لتلك التجارب, سواء الناجحة منها أم الفاشلة, مع الانتباه المدقق للتباين في الزمان والمكان والمستوى الحضاري للشعوب التي واجهت وعاشت تلك التجارب, يمكن استخلاص مجموعة من الدروس الغنية والمهمة التي يفترض أن تبقى نصب العين والتمعن والأساس المادي للتعامل المبدئي والناجح مع قيادات تلك القوى والأحزاب السياسية التي مرغت جبين شعوبها بالتراب وعاثت في البلاد فساداً :

1.  ضرورة التمييز بين المجموعات الصغيرة التي مارست تلك السياسات المريعة وقادت شعوب بلدانها إلى تلك العواقب الوخيمة والفواجع من جهة, وبين الأكثرية التي وجدت نفسها لأسباب مختلفة وتحت ظروف بالغة الصعوبة في صفوف الحزب الذي قاد البلاد في الطريق المسدود من جهة أخرى. إذ أن أي خطأ في هذا المجال يعرض البلاد إلى عواقب وخيمة جديدة.

2.  ضرورة الابتعاد كلية عن أساليب الزجر والانتقام والتجاوز على حقوق الإنسان ونشر الكراهية والحقد ضد الأكثرية ممن وجد نفسه في هذا الحزب أو ذاك, بل لا بد من السعي الجاد لإجراء محاكمات عادلة وشرعية لتلك الحفنة الصغيرة المسئولة مباشرة عن الكوارث التي تسببت بها للشعب.

3.  أهمية وضرورة الابتعاد عن إصدار قوانين وقرارات تستهدف تحريم القوى والأحزاب السياسية, بل خوض الصراع الفكري والنقاش السياسي لتبيان العواقب التي ترتبت عن فكر هذا الحزب أو ذاك وسياساته وممارساته وإقناع الناس بالعواقب الوخيمة التي نجمت عن, أو التي يمكن أن تنجم عند, ممارسة تلك الأفكار والسياسات ذات الوجهة  الاستبدادية والشوفينية والطائفية والعنف.

4.  ضرورة إصدار قوانين تستند إلى دستور مدني ديمقراطي تؤكد تحريم ومعاقبة جميع الأفراد الذين يدعون أو يمارسون سياسات تتسم بالعنصرية والشوفينية والطائفية السياسية ومختلف أشكال التمييز والعنف وترويج أفكار الحقد والكراهية بين الشعوب وتشجيع روح الانتقام.

5.  ممارسة سياسة دفع التعويضات المجزية لذوي ضحايا سياسات الاستبداد والعنصرية والشوفينية والطائفية والعنف والقسوة والظلم والحروب, فهي أحد الأدوات المناسبة لاستعادة العدل الذي فقد في فترة معينة في هذا البلد أو ذاك.

 

ولا شك في أن أي مقارنة بين ما جرى في العراق وبين الدروس التي أشرت إليها تشير إلى ابتعاد المجتمع والقوى التي عملت من أجل التغيير, ومن ثم أجهزة الدولة لم تمارس الأساليب الصحيحة والجادة والمسئولة في مواجهة الوضع الجديد في العراق وسبل التعامل مع القوى القليلة التي أساءت إلى مكونات الشعب العراقي وكادت تثير الحقد والكراهية بين هذه المكونات بسبب إدعائها الغادر بأنها تمثل القومية ذات الأكثرية السكانية وتمارس القوة والقسوة والحرب ضد القوميات الأخرى وضد البلدان المجاورة. وكانت سياسات وأساليب التعامل من جانب دول وقوات الاحتلال, وخاصة الأمريكية والبريطانية, من جهة, والقوى والأحزاب السياسية, وخاصة القوى الإسلامية السياسية, وبعض قوى المجتمع الأخرى من جهة  أخرى, ليست خاطئة فحسب, بل وخطيرة وقادت إلى عواقب إضافية مريرة وقاسية لا يزال العراق يعاني من تلك العواقب وستبقى لفترة غير قصيرة, رغم محالات ممارسات جديدة, إذ أن القوى التي قادت البلاد إلى ممارسة تلك السياسات الانتقامية لا  تزال فاعلة ومصممة على سلوك ذات السبيل وترفض سياسات المالكي الجديدة في هذا الصدد.

من تابع الفتاوى التي صدرت في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي والشوفيني والطائفي المقيت, سيدرك عظم الخطايا التي ارتكبت بحق الشعب العراقي, سواء أدرك أصحاب تلك الفتاوى أم لم يدركوا عواقب ذلك, بسبب فتاواهم وتشجيعهم على الانتقام والقتل لمن يعتقد بأنه مارس القسوة في فترة حكم البعث الممقوتة. وفي ضوء تلك السياسات والفتاوى احترق في العراق الأخضر بسعر اليابس وكانت العواقب أوخم مما توقعها أي إنسان في العراق أو خارجه. لقد قتل الكثير من البعثيين بعيداً عن المحاكمات, بل كانت أشبه بالبيان رقم 13 الذي أصدره البعثيون ضد الشيوعيين في العام 1963. 

الآن يواجه المجتمع محاولة جادة وسليمة في خطوطها الأساسية من جانب السيد رئيس الوزراء ومن يقف معه لإعادة النظر بتلك السياسات وممارسة سياسة جديدة إزاء تلك القوى, وبتعبير أدق إزاء قوى حزب البعث العربي الاشتراكي, الذي فقد السلطة والنفوذ ولكن لا يزال يمتلك المال والتأييد من بعض القوى في الداخل والخارج. والمشكلة تكمن لممارسة هذه السياسة في عدة مسائل جوهرية, وهي:

 

أولاً: هناك قوى من حزب البعث العربي الاشتراكي التي وقفت ضد نظام البعث وكانت ولا تزال ترتبط بقيادة قطر العراق الذي يتعاون مع قيادة حزب البعث السورية والذي كان يطلق عليه مجازاُ بالبعث اليسار والذي كان ضمن قوى المعارضة العراقية وعانت قواه من قسوة وعسف النظام الصدامي, وتعاون في فترات مختلفة وبإشكال مختلفة مع بقية قوى المعارضة السياسية العراقية ضد حكم صدام حسين. وهذه القوى غير مسئولة عن جرائم حزب البعث الذي قفز على السلطة في العام 1968.

ثانيا: لم يعد هناك حزب بعث واحد في العراق بل انشطر حزب صدام حسين إلى عدة كتل وجماعات من جهة, وتخلى الملايين ممن فرضت عليهم العضوية في ظروف مختلفة تماماً عن حزب البعث وعن العمل السياسي أو التحقوا بقوى وأحزاب الإسلام السياسي أو غيرها من جهة أخرى.

ثالثاً: تمارس هذه القوى المنشطرة سياسات ومواقف مختلفة, فبعضها حمل السلاح ومارس العنف ولا يزال يحمل السلاح لمقاومة الوضع الجديد وتلطخت أيديه من جديد بدماء الشعب العراقي, وهي مجموعة قليلة تعمل تحت قيادة عزة الدوري منذ أن سقط النظام, ولم يكن صدام حسين القائد الفعلي في حزبه بعد سقوط النظام بل كان عزة الدوري لا غير وقد أشرت إلى ذلك قبل اعتقال صدام حسين في جحره. وعزة الدوري لا يزال موجود في ذات المنطقة الواسعة التي وجد فيها صدام حسين تقريباً ولم يغادر العراق حتى الآن. في حين تشكلت جماعات أخرى من بقايا حزب البعث وهي تعمل مع قوى سياسية أخرى في الداخل وتحت واجهات مختلفة وموجودة في مجلس النواب الحالي, وبعضها الآخر في الخارج ينتظر نتائج المصالحة والعودة إلى العراق.

رابعاً: هذا يعني ببساطة كبيرة أن الدولة والمجتمع والقوى السياسية العقلانية يفترض أن تمارس كلها سياسات متنوعة في مواجهة التمزق الكبير الذي حصل في كيان حزب البعث الذي حكم العراق طوال 35 عاماً وارتكبت قيادته وبعض القوى من حوله مجازر رهيبة بحق الشعب العراقي. ويمكن أن تكون السياسات الجديدة على النحو التالي:

1.  فسح المجال أمام حزب البعث (قيادة قطر العراق) بالعمل والخضوع لقانون الأحزاب حين صدوره (مع الأسف لا يوجد قانون لهذا الغرض حتى الآن), شريطة أن يكرس في نظامه الداخلي رفض العنصرية والشوفينية والطائفية ورفض العنف والقوة للوصول إلى السلطة والاعتراف بالمجتمع المدني الديمقراطي والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة عبر صناديق الاقتراع والحياة الدستورية.

2.  احتضان جميع العناصر البعثية, وهي الأكثرية, التي لم تكن مشاركة في جرائم النظام وكانت راغبة في التخلص منه أيضاً ومساعدتها على الاندماج في الحياة اليومية للمجتمع.

3.  السعي لكسب من تبقى من قوى البعث التي لا تحمل السلاح حالياً لممارسة العمل السياسي بدلاً من السلاح, سواء باسم حزب البعث أو غيره شريطة أن تثبت ذات المبادئ والأسس التي ترفض العنف والقوة والعنصرية التمييز والطائفية...الخ.

4.  العمل من أجل عزل قيادة عزة الدوري عن القاعدة التي لا تزال ملتفة حوله وحول شعار "المقاومة المسلحة" وإقناعها بعدم جدوى حمل السلاح. ولا شك في ضرورة مكافحتها بالطرق المشروعة وبعيداً عن التجاوز على حقوق الإنسان.

5.  إطلاق سراح جميع من لم تثبت أدانته بجرائم بحق الناس في العراق لتأمين العدالة من جهة وتأكيد مسيرة المصالحة الوطنية السليمة من جهة أخرى.

6.  إعادة كل المفصولين ممن لم يكن في قيادة النظام إلى وظيفته والامتناع عن المحاربة بالرزق, ولكن لا يشترط أن يأخذ مواقع مسئولة في الدولة خلال فترة معينة.

7.  من المحتمل أن يجد العارف بالأمور والناس بعض البعثيين السابقين المسئولين عن بعض الجرائم التي ارتكبت حينذاك يحتل اليوم موقعاً مهماً في أجهزة الدولة الحالية ويتسبب بمشاكل غير قليلة للناس ولمن هو ضد النظام السابق. ولا شك في أن وجود مثل هؤلاء الناس في مواقع حساسة يمكن أن تفسد الموقف كله ضد كل البعثيين السابقين, ولهذا فمن الأفضل إبعاد هؤلاء عن المواقع المؤثرة على حياة ومعاملات الناس اليومية.

8.  هناك مجموعات سياسية تساهم في حكم البلاد حالياً وهي موجودة في أجهزة الدولة وربما في مفاصل مهمة منها وهي غير راضية على سياسة السيد نوري المالكي وتعرقل تنفيذ سياسة المصالحة الوطنية بشتى السبل, وربما مستعدة لممارسة العنف وإشاعة الفوضى من جديد لإسقاط سياسة المصالحة الوطنية. وهي المسألة التي تستوجب العناية التامة بالقوى التي تقود عملية المصالحة والأساليب التي تمارسها في هذا الصدد.

9.  كما علينا أن ندرك بأن قوى ودول جارة لا تريد استقراراً للعراق وتسعى لعرقلة مسيرة المصالحة بطرق كثيرة, وهي الأخرى التي يفترض الانتباه إليها. 

كلنا عشنا تجربة البعث المريرة, وكلنا تعرف على سلوكيات البعث. وعلينا أن نقول بوضوح بأنهم لم يكونوا سواسية في السلوك, بل تباينوا كثيراً في ما بينهم. فمنهم من كان سيئاً يصعب أو حتى يستحيل إصلاحه, ومنهم من كان طيباً لا يمكن نسيانه ولم يتعرض للناس ولم يتجاوز على حقوقهم, بل أن بعضهم رفض حزب البعث ورفض سياساته وممارساته وسجن أو قتل لهذا السبب أو بسبب مشاركته في مؤامرة ضد حكم صدام حسين وأعدم بسبب ذلك. ومن يستعيد أحداث فترة حكم البعث يدرك بأن المناطق الغربية أو الموصل قد تعرضت قوى بعثية وقومية وغيرها إلى شتى صنوف الاضطهاد والقمع من جانب حزب البعث, كما أن بعضها القليل قد تمتع بالامتيازات, كما هو حال بقية الذين ساندوا النظام.

كم هو عادل وجاد مطلب الشعب البسيط, مطلب إدانة تلك السياسات التي مارسها حكم البعث وقيادة حزب البعث خلال وجودهما في السلطة. ومثل هذه الإدانة لا تعني إدانة كل من كان في حزب البعث, بل تعني تلك الجماعات التي وضعت ومارست بإصرار عجيب تلك السياسات وتلك التي لا تزال تصر على ممارسة نفس النهج الفكري والسياسي في العراق.

علينا إدراك حقيقة أن مرور ست سنوات على أوضاع شاذة لا يجوز أن تتواصل وأن عودة الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي عوامل ضرورية لإعادة البناء والتقدم ومكافحة السلبيات في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي, وهو ما يفترض أن نعيه جميعاً ونتعاون لتحقيقه.  

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com